مفتاح العمّاري
الشاردة
في خريف 1983 نشرت مجلة ( مواقف ) اللبنانية، قصيدة نثرية حملت عنوان:
" الشاردة في ملكوت الجمر " بإمضاء شاعر مغمور يدعى ( آدم حاتم )
لم أقرأ له قبل، أو أسمع عنه أيما شيء.. أنا الذي كنت وقتها أكثر شراهة لاقتناء
المدوّنات، واقتفاء أثر المغامرة، وتقصي سير شعراء الشتات، غير أن " الشاردة في ملكوت الجمر"
كانت أكثر من قصيدة يتيمة، وهي تعلن دون مواربة عن همّ عراقي يتسع لصهر الخراب
بحساسية شعرية مغايرة، ناهيك عن حمولة حارة من أساطير بابل وأشور، وصروف من أزمنة
الحروب والخيانات.. حتى بدت كأنّها تنزف ،
مما جعل تكرار قراءتها حالة مشتهاة.
هكذا
انطبعت في مخيلتي صور الشاردة ، مقرونة باسم صاحبها الذي ظلّ غامضا
ومجهولا حتى خريف سنة 1988 عندما سافرت إلى دمشق بفضل بضع كلمات تكفلت
موهبة الموسيقار ( علي ماهر) بتنغيمها وتوزيعها موسيقيا لتتخلل
نسيج مسرحية باب الفتوح التي شاركت بها
فرقة المسرح الوطني ضمن فعاليات مهرجان دمشق الحادي عشر للفنون المسرحية. تلك المناسبة أتاحت لي اللقاء بالعديد من الفنانين
والكتاب والشعراء. هناك : تعرفت على تفاصيل أخرى في شخصية ( الماغوط )
ولامست عن كثب لعبة البياض لدى ( بول شاوول )، ناهيك عن صخب الشعراء
الشبان : أبوروزا وولف المشغول بنثر أوجاعه المجعلكة خارج قميصه الأزرق
، يوسف بزي وهو ينكمش خجولا إزاء
نشوة رفيقه يحي جابر بجائزة يوسف الخال ، لقمان ديركي ، الذي
يتلو بشفاه الصوفي أشعار سليم بركات . وسط هذا الحشد تفوه أحدهم بالاسم المجهول
الذي أيقظ ذاكرة الشاردة. حينها عرفت أن آدم حاتم ، هو شاعر عراقيّ ، يقيم بدمشق ، وأنه كئيب وعاطل، يكابد ضراوة
الخبز بكبرياء جريحة . لذا حرصت قبل مغادرتي الشام ، على رؤيته ، فضمتنا ذات مساء
دمشقي بارد طاولة حميمة بمطعم سومر .
كان الشاعر يأنف ضجة المثقفين وأكاذيب الشعراء . قال : أن كل همّه وتفكيره
ينحصر في تدبير تذكرة سفر إلى الهند ،
وتوفير مبلغ مائة دولار حتى يشتري بها فيلا
هنديا ، يتّسع ظهره لبناء كوخ صغير ، ليجوب على متنه
غابات العالم .
في أول الأمر اعتقدت بأن صاحبي يتندر بمزحة طريفة ، أو هو يفتعل صرعة شاذة من تلك الصرعات
التي تليق بنزق الشعراء ، لكن صرامة
كلماته لم تتح لي أي مجال للريبة في أنني إزاء كائن من سلالة رامبو .
بعد ذلك بعشر سنوات جلست وحدي على طاولة
وحيدة ، في ذات الركن بمطعم سومر ، لأن
الشاعر العراقي آدم حاتم ، كان قد غادر الحياة بهدوء ، قبل
أن يتمكن من تحقيق حكاية التيه تلك . مات آدم
حاتم ، تاركا خلفه الشاردة في ملكوت الجمر ، وقد مزّقتها الحروب ، وتآمر ضدها
ملوك الطوائف .