وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

حياةُ الظلّ



مفتاح العمّاري 







__________  حياةُ الظلّ *




- 1 -
إذا وُصِّف الضوءُ روحا..  قال الظلُّ :  أنا الجسد،

أنا النصفُ الفاتن ، لا وجود من دوني ....

ولا بياض خارج الأسود الذي أنا ،

يتحقّق بي وأعرف به ،

كلانا يبعث الآخر من برزخه  ويخرج من لدنّه .

لا أين له في بعدي  ، ولا في قربه أيني ،

هو بصيرتي وعماي ،  وأنا   له الوطن والمنفى ،

إذا خفّ ،كلانا  يفقد الآخر ،

وإذا ثقل أسبقه على خطف البراهين .

هو سقف من نار وريح ، وأنا  لغتي ماء وطين .

يغيب فيّ إذا حضر ت  ،وفي برقه يشعّ غيابي ،

كلما حلمت بجزيرة أو مدينة أخرى ، يلتفّ عليها .

وكلما أُشعلت  حربا  يستأثر بالغنائم

فأتورط وحدي في  دفن العواصف  وجثث الغيوم

تكمن مسافتي في خيالي؛ بينما لا يرى الأبيض إلا  فراغا يحميه من نفسه.

يولد  من شغف بي،

وأولد منّي حيث لا بياض يحجب صوتي.

بدايتي تعلو،

فيما السقوط جريرته.

تصعد الأشجار من نطفة في الظلام.

أنا حياة الظل  .. رحمه و غلافه.

لا يهبط النور من دون سعتي .

الداخل صوتي والخارج صداي .

أنا سرّة الألوان  ومحيطها ،

 لا مكان خارج  ظلامي،

 ولا مسافة غير سفري ،

 أينما أذهب ، الكائنات تذهب ،

 أنا الأصل ، العناصر أنفاسي وعشبي

 تذوب في نسغي

 وتختلط بي .

- 2 -
    في ما مضى كنت مجرد تابع للشبح الذي يتركني قفي لهاث، أعني المخلوق الضئيل  بمشيته الخائفة من شيء   لن يتحقق إلا  بإعلان  ولائي له ووفائي المنقطع النظير لنسبه . قد تظنونني كلبا كما تعلن زوبعة الذباب التي حطّت  على قفير عسلي ، تلك الريح الموسوسة التي ما تفتأ في كل صراخ عابر إلا  وتمعن في نعتي بهذه الصفة المقيتة . حتى كدت أظنني كلبا ، لكنني - وهذه حقيقة لا تقبل الجدل – أقسم بأنني لست كلبا ولا أشبه الكلاب في شيء . نشأ هذا الخاطر القلق بعد ثلاثين صيفا من عبوري الخارق  لتلك  الصحراء اللاهبة التي كنت فيما مضى حزينا ،أقف عندها بهياج وحيرة . أما قبل قليل -وهنا أشير بإنصاف إلى أيام خنوعي وذلّي - كنت مستسلما لمشيئة عبوديتي،  دونما إضمار أو ترميز  معبرا في الوقت نفسه عن ولائي لولادات باهرة ما فتئت تكمّلني  ، مدينا للصدف الصلبة ، لحكاية مشرّدة ، لامرأة ما في  مدينتكم ، والتي في ما بعد هي مدينتي أيضا ، ملمحا  إلى  رفقة غامضة   ما برحت تأسرني بمعجزتها ، تعيد تكويني وتخرّط صبابتي  بعد لأي ومتاه ،كأني أشهد إعادة خلقي  وأبعث من عدم ،  طالعا من جديد .. من بضعة حروف شاردة  لملمتها بلهفة من رماد الفاقة . أنا فقط أشبه  سحنة قدري المظلم الذي كابدت عشق بداوته وجماله   ، أقولها بثقة صلبة بعد أن  تنصّلت من تبعية صاحبي متمردا على سلطة جسده ،  طليقا أجوب الجهات وحدي ، ولم أحمل معي من ذكريات غريمي  سوى  أحدى أسمائه المهملة ، أعني اسمه المنسي الذي  لم يعد ينادى به ، وهو ذات الاسم  الموثّق في سجلات النفوس ،لأغدو أول ظلّ ضليل يحمل اسما آدميا صريحا . حدث ذلك في صيف يبعد  بحجم أسطورة أو متاه ، سلخ عمري وقتها عشرين سنة شمسية. لأن صاحبي قد تواطأ مع جموح الجندي وانغمس كلية في ترهات الثكنات التي كنت أمقتها ، لذا عزمت على الهرب مكتفيا بشغف الرائي .. فأنا كما يقال في عبارات الغزل قد أحببت الشعر من أول نظرة ، أغرمت  به ، كما لو أنه معشوقتي ،  فأصبح  شاغلي الوحيد الذي أكرّس له رئتي وكل ما ادخرت  من خيال  . لهذا  أظهرت تمردي بعناد على من كان سيدي وجلادي ومولاي ، أي على نصفي الآخر الذي بهيئة ألوان مهملة تعربد في فراغ العالم ،   غير نادم  حين غدوت طليقا أعبر عن حواسي دونما حاجة لأن أكون خاضعا لنزوات جسده  ،أو جسدي  ، فيما ظل هو شديد التبرم من مواهبي ، ساخطا ومبغضا يعلن دون مواربة  أو حياء عن  حسده ومقته لي ، مستاء إلى حدّ التقزّز كما يقول من عاداتي الغريبة ومزاجي المتقلّب واصفا أياي  بالشاعر التافه ، وأن ما أهذي به أو أسمّيه خلقا شعريا بارعا ، هو محض ترهات قصائد ركيكة، لا تعدو عن كونها مجرد عناوين متذاكية تتوهم  أن لغوها السمج سيهبها موقعا بين معلّقات القصائد .. وهكذا انبرى غريمي  ذات مساء وهو يلمّع بمهارة حذاءه الأسود الثقيل، يكلمني في تهكّم دونما هوادة  ناعتا إياي بالدعيّ الأرعن ، وأنني تبعا لوصفه الحقود لست سوى كلب مخبول ، بل محض ذيل هزيل يتبختر بزهو مغرور ، صارخا بتهكم فج : كأنك تحسب نفسك بأنك أنت  لا أحد سواك من خلق الكون في ستة أيام؟ . لا شكّ ، قد جرحني هذا السيل من الشتائم ،  والنعوت المخلةّ بما تمليه العشرة من عبارات التهذيب ، وتألمت ليلتها  كثيرا ، ولم أنم .. شربت ما لا يحصى من فناجين القهوة وأحرقت علبتين من السجائر الرديئة . وبكيت وحدي ، بكيت كما لم يبك أي ظل من قبل . وهكذا قررت ليلتها  المصير الذي ينقذ ما تبقّى من حياتي القصيرة ، لأعيش حرا طليقا بعيدا عن شرور شريكي وأطماعه وبغضه . أظن أيها القارئ الذي آزرته الصدفة لتصفّح هذه الترهات ،  بأنني عبر هذه التوطئة أكون  قد كشفت نقابا  عن خلل رافق ميلادي  ونشأتي ، و حاولت توظيف ما استطعت من عناصر مهملة قد تسهم في إزاحة النقاب عن ما غمض من سيرة لوني ، مستهدفا  إبراز هويتي للذي يودّ  معرفة طبائع الظلال وأصولها وأنسابها ، ولكي أكون صادقا معك ، ومع نفسي ،قد  تعمّدت هنا استدراج المفردات الأكثر  سلاسة وليونة ووضوحا لخدمة العبارات التي تمليها اللحظة علي ، حيث يلزمني هنا ضرورة الإشارة مرة أخرى  إلى فضل العناصر التي تتضافر في تشكيل خاماتي كمخلوق عبقري ، والتي  هي دونما ريب  من لدن  الظلمة المباركة التي أحمل نسغها أينما ذهبت بعد أن تكوّنت في رحمها وتشكّلت من عذوبة قتامتها حتى صرت أنا كما أنا ، ظلا مباركا لا أتبع أحدا سوى نفسي  . ولدت ونشأت ظلا ، وسأبقى حيث ما وطأت أطياف مشيئتي ، ظلا وكائن ظل ، لا تقف ضآلتي الظاهرة حائلا بيني وبين رسم ملامح الأشياء ، فلا يخدعنكم مظهري الحقير ،ولا قامتي الخجول ، ولا انزوائي وعزلتي وكموني خلف الأجسام . لأنكم بذلك ستغفلون عن أعز شيء  يحقّق وجودكم ، وتخسرون أنفسكم أيها التبّع حين تغفلون  جوهر حقيقتكم بجريرة جهلكم لنسبي . وسوف تندمون يوما لأنكم لم ترونني كما ينبغي . وتكتشفون بعد فوات الأوان بأنكم كنتم مصابين بعمى البصيرة . هكذا تركت صاحبي بلا ظل . تركته عربيدا وشرسا ، وربما يائسا من حياته الفارغة .. يتخبّط  غالبا بين براثن نبذه ، ضحية أوهام  غريبة كالهجرة  أو الانتحار  ، لا هم له سوى السكر والعربدة ومطاردة الأهواء الخسيسة . جارا على نفسه المهالك التي تقوده في معظم الأوقات إلى الامتثال لعقوبة الحبس في سجون الثكنات العسكرية . ليغدو محض رقم تافه في قائمة المحقرين الذين لا شغف لهم سوى الصخب الغبي ، لتمضي أوقاتهم مملة ورتيبة وبائسة لا دفء يغذي برودة نخاعها . هربت فارا بما تبقّى لي  من توق جميل كظلّ لا يتعثر أبدا ، وكشاعر  يهزّ الوجدان ، منضّدا الكلمات التي تتسع لإيواء البهاء  المقدس . ورغم ذلك ظل اسمي  الذي قدّر لي رغما عني التلبية  كلما نوديت به ، يحمل  مفارقة طريفة ،لأنه لا يدلّ علي .. كيف أكون ظلاما صريحا واسمي عبد النور ، وهذا يزعجني في البيت ، وفي المقهى ،  وفي همس حبيبتي ورسائلها القصيرة ..  أنا عبد النور ، في الليل والنهار ،في السلم والحرب .. وفي نومي ويقظتي   يجثم  هذا الاسم النكرة على أنفاسي ، هذا الاسم الذي ليس لي ،ولا يشبه سوادي في شيء ، بل هو نقيض لوني ، فكيف أخضع لصلابته  وأكون أسير ندائه حين يسقط من عل فأقف مذعورا مثل لص متلبس . كأني أحمل ورما يقتلع صورتي من ذاكرة  الجدران والغرف  والقصائد التي أرسمها على فم ملهمتي  ، وهي تهمس : يا جبل ما يهزك  ريح . ثلاثون سفرا والصيف صيفا لا غير وأنا يطاردني  قريني من قصيدة إلى أخرى ، فأهرب خارج أسواره ، مدركا  الحقيقة المرة التي كان علي منذ البدء التوقف عندها .. لأن هروبي بقدر ما كان محرّضا على إيقاظ الحواس النائمة  وخلخلة العواطف وتفخيخ  الغوايات  ، قد جعلني في الوقت عينه نصف كائن مخبول يتمزّق دونما هوادة بين ذاكرتين  ومدينتين وخيالين وامرأتين وقصيدتين ..  حتى أنني لم أعد موقنا : هل أنا قامة الرائي ،  أم  ظلّ الجندي .

- 3 -
أجملً ما في هذه القصيدة ، أسوأُ ما فيها .
أسوأُ ما في هذه القصيدة  أن أموت
وأنا أحبّك  ......
أجمل ما في هذه القصيدة  ،
قدرتها على السفر والضحك والنوم والصمت والرقص والبكاء
أجمل ما في هذه القصيدة أيضا ،
 القصيدة التي لم أكتبها بعد ،
أسوأ ما فيها
يشير إلى خراب جسدي
وطفولتي الغافلة
 أجمل ما في هذه القصيدة
تهافت الغاويات ،
 وإصغاء سدنتها المخلصين
وهذا الزعل الحميم الذي يلمع في عينيك ،
 وهوسي بك ،
 و............ أجمل ما فيها أيضا
ما يتخفّى من خيال صاخب خلف الكلمات ...
كذلك السرير وما يختزنه من روائح وأحلام
 وعناوين وبقع حارة
لكن الأسوأ ....
أن كل هذه الأوطان التي رفعنا أعلامها وبنادقها
 ورسمنا خرائطها في أحلامنا ودفاترنا
بكل ما فيها من هتاف وأناشيد وصحف ومستشفيات وعناوين وبحار
وأفران وأمنيات  وحدائق ...................
 لا تتسع لإيواء قصيدة واحدة  أحبك فيها .

- 4 -
الذي الآن طرقة ريح
صدى الباب الذي قبل قليل كان  بابي
الأصابع الباردة أمست بعد فطنتها في الليل تسهو
 لتختفي فجأة مفاتيح بابي .
لذا لن يحيطك يا مولاتي بعد هذه القصيدة ظلّ 
ولن يملؤك غياب ......
 سوى غيابي.

-            5 –
-             
لا بأس ... قال الظل :
إكراما للعيد ،أترك الآن هذه القصيدة التي ريثما أغادر سريري

سأكتب قصيدة أجمل منها .
___ 
من نصوص كتاب:" حياة الظل " منشورات وزارة الثقافة والمجتمع المدني
يناير 2013 . كما سبق أن نشرت محتويات الكتاب في صحيفة الشمس الثقافي ما بين سنتي 2009 : 2010.