محمد الاصفر
محمد الأصفر |
-----------------------------------------------------
الشاعر الليبي مفتاح العماري..
من خلال قلمه النابض بالإبداع
حاولت أن أكتب قراءة عن الصديق الشاعر مفتاح العماري ولم أستطع.. لا أجيد الإنشاء.. ودواوينه الآن ليست أمامي.. وشعره ليس من النوع الذي يحفظ ويبقى في الذاكرة .. إيقاعه مثل الغاز ينعشك ثم يذهب.. أو مثل هبّة النسيم التي تزور الوجه مرّة واحدة.. ليس في رأسي شيء من شعر العماري سوى بعض الجمل المتفرقة.. ذئبة تأخذ الحياة من الفم.. رجل وحيدا يمشي بأسره.. قيامة الرمل.. ديك جن طرابلسي.. رحلة الشنفرى.. كلمات كثيرة تبدأ بأنا.. وتنتهي بأنا.. أنا أنا أنا أنا.. هذه الأنا التي منحها العماري كل قراءاته وكل كتاباته هي التي أحرقته وجعلت الألم يستفحل ويوسع من رقعته.. فالأنا لم يجدها في هذا العالم وحاول أن يبحث عنها في نفسه المتواطئة مع هذه الأنا.. فصار يحرق نفسه بالكلمات الجميلة والمعاني الساحرة والابتكارات العذبة والتراكيب السلسة المحتوية على ثورة التجريب وعصارة الأصل.
القلم في يده سيجارة مشتعلة والورقة حديقة خضراء على هيئة منفضة بينما أصابعه الثلاثة المحصور القلم بينها هي النبض المحرك لسن القلم أو السيجارة.
الحبر هو التبغ الذي اختاره الشاعر ليعبّر به وليقول به نفسه لهذا العالم الذي دمره وجعله يتألم.. هذا العالم المملوء بالكوارث.. الآن وفي الماضي وربما في المستقبل أيضا.. هذا العالم الذي لا يترك شاعرا يعيش غير مبال بأحداثه الرهيبة.. العماري قارئ جيد وهذا هو الذي أتعبه فما إن يتخلص من وطأة قصيدة حتى تفاجئه أخرى .. لقد تكالبت عليه القصائد تكالب الذئاب على فريسة تائهة.. عالم الشعر مرعب من دخله ورآه فلن يخرج منه سالما.. القصائد ذئاب تنهش لحم إلهامنا.. وكل كلمة يكتبها الشاعر هي قطعة لحم حيّة هاربة بجلدها من مذبحة الرؤيا.. وشع العماري متوالية لا تنتهي.. القصيدة تجذب أختها.. والنص النثري يجذب أخاه.. والعيون لا تمل من القراءة والإدماع.. فبعد كل سطر تطلب المزيد..لأن السطر المقروء لا يجلب للقارئ أو المبدع سوى الجوع والعطش للمزيد من
المعرفة.
العماري من الأدباء الذين يهضمون ويتمثلون ما يقرأون بصورة سريعة مدهشة.. فكل نص له بالطبع له جذور.. هو مزج نفسه بالأدب العربي والعالمي ومن خلال هذا المزيج استطاع أن ينفرد بصوته ليدشن قصيدته أو نصه أو نفسه الخاص الذي سيعرف حتى وإن كان لم يوقعه.. في فترة قصيرة استطاع أن يجذب إليه الكثير من النصوص الجديدة المتأثرة بنص العماري.. وكثيرا جدا
ما تتسلل إلى نصوصي بعض ذئبات العماري فأجدها ملائمة جدا للمكان الذي انتقشت فيه فأتركها بوعي مني.. فليس من عادتي طرد الكلمات التي تزور نصي أو قصها أو غمسها في لوني.. العماري يبذل مجهودا كبيرا قبل إطلاق نصه إلى الملأ ومنحه القدسية العمارية.. فهو يراجعه وينقحه ويضبط إيقاعه ويقوم بتجاربه منفردا وقد يعرض نصه على المقربين إليه.. النص يحاول أن يتملص
ويخرج من قريحته وهو يكويه ويعلمه أولى دروس الصبر ويغرس فيه الثقة في النفس.. فقد لا يلفت النص الانتباه.. وقد يظلم.. وقد يتعرض للتشويه من المحررين الرديئين.. إنه يطلقه في غابة متشابكة من النصوص الورقية والإلكترونية والصوتية كي يواصل دربه في متاهات التأويل إلى ما لا نهاية.. عندما تسأله بقية النصوص التي تلتقيه يقول لها أنا عمّاري فمنها من تعجب به ومنها من تبتعد عنه كي لا تنفضح ركاكتها ومنها من تجلس معه وتتصادق معه وتتلاقح معه وترحل معه إلى عوالم جديدة يلتقون فيها بنصوص أخرى بلغات أخرى.. وقد تقيم هذه النصوص أمسية مع بعضها ينشدون فيها الشعر ويسمعون آهات استحسان وتعجب من هوميروس و دانتي وأبي العلاء المعري وبقية
الكائنات التي أحرق حياتها الشعر وأشعل بخورها في مخيلات العالم. لم أتفاجأ بمرض العماري.. ولن أتفاجأ بمرض أي كاتب أو فنان حقيقي.. لأن الإبداع مرض.. لكن إن مرض أحد المتشاعرين فحتما سأتفأجأ وأقول ما الذي أمرضه.. هل ابتلع قصيدة أكبر من معدته.. أم أنه تلبس بسرقة نص
فأطلق عليه النص كل فيروسات الدنيا.. الناس التي لا تحترق لا تمرض وتسمن وتنتفخ شدوقها وبطونها.. لكن المبدعين الحقيقيين فالمرض لا يتركهم في حالهم.
شعر العماري لا أحفظه.. لكن معانيه ترحل مع دقات قلبي.. وكلما رحلت جاءت معان أخرى ورحلت مع دقاتي الجدد.. في الماضي لدي كوم من الدقات.. يرتفع ليكوّن شيئا يشبهني.. لقد شيدت دقاتي الآن أقدامي المغروسة في تراب ليبيا.. ورغم الأمواج العاتية والرياح القارصة فها أنا أرتفع ولا أتزحزح.. أبدل خطواتي في وحل يحبني.. لا يطرحني أرضا لأنه وحل ليبي دسم خاثر وليس
قشرة موز رماها حمار معلوف في طريقي.. أسير ووجهتي واحدة وهي أن أكون جديدا.. ليس مهما أن أكون أفضل من قبل.. فنصوصي لا أحب أن يتفوق أحدهما على الآخر.. وهذا هو شعر العماري الذي لا تستطيع أن تقول إن هذا الديوان هو الأفضل.. فالقصائد كلها خرجت من تنور ملتهب تحيط بحواف كلماتها الاحتراقات اللذيذة.. ليس هناك كلمة نيئة.. وإن وجدناها فسأعتبرها خضراوات طازجة أو فواكه مجففة تقدم بعد الطبق الأم.. لعل ديوان قيامة الرمل بالنسبة لي هو الأفضل.. فعندما تقوم قيامة الرمل فسوف نرى بانوراما عظيمة لكل المخلوقات.. فكل حبة رمل هي دنيا.. هي عالم.. هي حرف من قصيدة.. الرمل هو القصيدة العظمى.. وحفنة واحدة منه تضعها في مخيلتك تثريك جدا ولو كنت موهوبا فعلا فهذه الحفنة ستفجر كل إمكانياتك الإبداعية.. حفنة رمل هشة جافة تتركها تتسرب من يدك وتتذكر آمالك المهدورة وماضيك الذي جرحك أو ضمدك وعندما ينتهي التسرب وتجد يدك خالية فما عليك إلا أن تركض إلى المستقبل وتحفن حفنة أخرى. لن يسافر العماري إلا وفي جرابه حفنة من رمل ليبيا.. رمل صحراوي أو بحري ليست مشكلة.. فالرمل في ليبيا واحد..يتزاور يوميا من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق.. أحيانا يبسط لنا تازيرا ناعما تحت ظل نخلة وأحيانا يثور فيقفل أنوفنا ويعمي عيوننا.. وأحيانا أخرى يخدعنا بسرابه فنهلك .. وأحيانا أخرى يأتينا في شاحنات لنبني به بيوتا تأوينا.. هذا الرجل عاشق الرمل.. أو قاتل الرمل
ومبدعه قصائد لابد أن يدفع الثمن.. فاقتراف فعل القصائد الجميلة لن يذهب من غير عقاب.. على الشاعر أن يمرض.. على الشاعر أن يمشي.. فجميع الأصدقاء وضعت قلوبها فوق قلبه وفجرت صهاريج دموعها فوق عينيه وأوصلت شرايينها بشرايينه وذاكرتها بذاكرته..
المريض الآن ليس العماري إنما الإبداع الليبي والإنساني كله.. والإبداع شيء كبير ومتعدد بينما المرض واحد وهزيمته
ليست من المستحيلات. الذي يجعلني أحترم العماري أكثر هو إخلاصه لصنعة الأدب وتفرغه شبه الكامل لها وتعويله على جدواها.. وبالرغم من أن هذا الشاعر مظلوم عربيا فلم يتم تناول أعماله نقديا بصورة مرضية ولم تمنحه المحافل الثقافية العربية الاهتمام والتكريم اللائق بإبداعه الثري إلا أنه واثق جدا من نفسه وغير مكترث بهذه التفاهات الآنية والتي كي تتم تحتاج إلى بعض المقالات المنافقة وبعض المجاملات والركوع والاستجداء والتمسح والشللية على المستوى العربي.
وهذه والحمد لله لم يتورط فيها هذا الشاعر فكثيرا ما زار عدة محافل بدعوة منهم وعندما لم يستقبل بصورة لائقة تركهم وعاد ولم يشارك معتزا بنفسه وبقصيدته ومستغنيا عن أضوائهم التي هي بالطبع أبهت من قصائده .
____________
صحيفة العرب اللندنية بتارخ 11 /3/
2008