الشاعر محي الدين المحجوب |
الشاعر مصاغاً في سيرة
بقلم محي الدين المحجوب
"على قلق كأن الربح تحتي
أسيرها يميناً أو شمالاً"
المتنبي
استنارة:
تقارب هذه الإضاءة، الفضاء الشعري الذي
تتموقع داخله التجربة الشعرية للشاعر: مفتاح العماري. بداية تنبّه الشاعر إلى
أهمية الانفتاح على هموم شعرية كبرى تعتمل وهي "تتكلّم مجازاً" (أدونيس)
بأسئلتها الجريئة التي تتوهج كحقيقة تسم الشعرية الجديدة بالكشف.
منذ منجزه الشعري الأول:
(قيامة الرملّ)، وحتى مجموعته الموسومة بـ(مشية الآسر)*، ثمة مسافة تصل بالممارسة
الشعرية إلى احتمالات معرفية عميقة تفصح عن خطاب شعري يتيح بأدواته المتخيلة إلى
تفجيرات جديدة إن على مستوى المخيال (الصورة) أو اللغة (المجاز)... (مجال المفردة
مكثفا في مجال المرئي).
سوف يشتغل حيز هذه القراءة على
المجموعة الشعرية: (مشية الآسر) متلمسة تأويلها للبناء الدلالي التي أتاحته هذه
المجموعة.
* العنوان/ العتبة:
(العتبة هنا لا تفضي إلى مكان بعينه، هي
تبتعد إلى الأقاصي) تحيلنا منذ الوهلة الأولى تسمية الديوان إلى مسمى آخر هو (رجل
بأسره يمشي وحيداً) حيث يبين لنا هذا التعالق بين العنوانين، كاشفا عن
"مشية" تصاعدية نحو ممارسة فاعلة تصوغ متخيلها داخل جغرافية السفر
"المشي" في الزمان وفي المكان، إذ من دلالات (المشي) الحركة والتنقل.
وقد تقترن هذه الدلالة بأخرى تشاطرها المعنى هي "المشيئة" فضلا عن ذلك
فإن كلمة (الآسر) تنسجم نوعا ما من حيث الملفوظ مع "أسره"
و"الاسراء". من زاوية أخرى، ينتسب العنوان إلى ممارسة صوفية تتحقق في
التحول الذي تنهض داخله تجليات هذا الشاعر، وما يمتلكه من تأملات، مثلما تتحقق
"مشية الآسر" في الزمان والمكان، فهي تبرز في أقانيم مختلفة لعل أهمها
جسد المرأة، إنها كتابتين: الجسد والعذاب، حيث الوجع يشغل مساحة كبيرة في الخطاب
الشعري عند الشاعر: مفتاح العمّاري.
من هنا، فإن عنوان المجموعة ينفتح على تأويل
متعدّد المستويات بتعدّد القراءات، يتعالق مع ما امتحاه الشاعر من نصوص. إذ نلحظ
تسلل المعنى الدلالي للعنوان إلى الفضاء النصِّي، وهذا ما يؤكد اندغام هذه النصوص
في نسيج الكتابة الشعرية (النص: النسيج – رولان بارت)، ومن ثم اندغامها عميقا وهي
تعبر (برزخ الخيال – ابن عربي). والشاعر: مفتاح العمّاري يتجاوز عتبات القول
الشعري إلى حقول (مالا ينقال/ ومالا ينكتب- النّفّري) مشيداً كونه الشعري بتقنية
ينفرد بها داخل منجز يصوغ تجرّحاته في أمكنة جمالية (لا تتأمكن) تتأسس ضمن متن
التجاوز.
* الشعراء/ أو قبيلة النبوات:
منذ النص الأول "أنا الذي قال
المتنبي" لا يستنطق العماري لسان المتنبي أو يلبس تجلياته كما الحلاج يمحق
ذاته في جبّة الغياب والحلول. أو أدونيس الذي يقرأ جديداً في سيرة (المتنبي) كما
تجلت في نص (الكتاب). فمنذ البدء تتأسس بذاخة هذه المشية عبر ممارسة تتغيا سيرة
التفرد حيث يبتدي لنا القول الذي اجترحه "المتنبي" ضمنيا في بيته الشهير
"أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم"، هذه العلاقة
دلالة هذا النص.
غير أن لعب الشاعر العماري على
العنوان يضعنا أمام احتمالين: الأول بروز الذات الشاعرة (الناص) الحاضرة مع الذات
المستدعاة (المتنبي). أي أننا أمام قولين، قول يلاقح قولا، إنها العلاقة القاسية
تشغل حيزها شبكة معقدة من العلاقات، يتضح ذلك بغزارة في الديوان متماثلاً في
(قبيلة من الشعراء).
أستطيع أمام قوله "أنا
الذي" أن استدعى تراثا كانت هذه المفردة اللبنة الأساس فيه. أن أدمر الدلالة
الجاهزة التي تشدّ القصيدة إلى حيّز ضيّق، والانحراف بالدلالة الجديدة إلى مسارات
من صنعها هي. عليّ فقط الاقتراب لتأملها.
"أنا الذي" جسر المجاز بين
"المتنبي" الشاعر المنيف، وبين شعراء المتصوفة الذين خرقوا الحجاب فكانت
"أناهم" مجازا إلى (كشف المحجوب/المطلق)، وبين الشنفري المتفرّد بصعلكته
لكأنها عواء ذئب ينمو في الأفق. ولأنها (جسر) فهي تضعنا أمام تشعبات كثيرة بعضها
أفصح عنه النص أو/ الشاعر. بعضها الآخر يلوذ بكتمانه. إنها تشعبات روح في حاجة إلى
أن تكون (كثيرة)، في حاجة إلى تناسل داخل فضاء الممارسة التأويلية:
"أنا الذي
فارقت رهطي
وزوّجت ابنة النّار
من ذكر الريح
ومع كل جناح خاطف
جزّأت نفسي
وصنعت هذي الخرافة"
تبرز في التراث الخمري "ابنة
النار" اسماً من أسماء الخمرة. (كأنها النّار وسط الكأس تتقد (أبونواس). ولعل
من دلالات "ذكر الريح" السّحاب، مستحلب الماء ورمزه. والشاعر وهو يمنح
"الريح" صفة ذكورية، إنما يتماثل مع توصيف التعبير الشعبي الليبي للّقاح
بـ"سيدي علي الريح".
ولعلي أبالغ بتحميل النص مالا
يحتمل، غير أن محاولة تلمس معنى ما تذهب بنا هذا المذهب.
ليس "المتنبي" وحده
الحاضر هنا، ثمة قبيلة من الشعراء الأفذاذ، فجملة "جزّأت نفسي" يتخفى
داخلها "عروة بن الورد" وهي تتعالق مع البيت: "أقسِّم جسمي في جسوم
كثيرة"، لذا يقتعد "الشنفري" جانبا "أميطوا بني أمي صدور
مطيّكم"، وكذا "ديك الجن الحمصي"، وللشاعر وقفة جليلة مع هذين
الشاعرين عبر ديوانية "ديك الجن الطرابلسي" و"رحلة الشنفري".
على مساحة هذا النص ثمة امتداد
مفجع وصارخ لتشكّلات سيرة الألم والتعب، سيرته، حيث موضوع نصوصه هنا ذاتي محض
(الشاعر نفسه)، وهي خصيصة حداثوية، إنه يكتب جسده متتبعا لحظات نموّه الخارقة، بله
يرصد عذابات الروح. إذ القصائد لديه هي تنويعة على قصيدة لم تنجز رغم تبلل المخيال
الشعري بنثيثها، لكأنها النسغ يجري في أغصان متفرعة عديدة.
* النظر من الداخل:
في "حكمة الأعمى" يتشذّر القول
الشعري بين بنيتين: حكمة مبصرة وحكمة صائتة، مستفيدا من البناء العنواني
"الحكمة"، يتوجه العنوان إلى دلالتين، دلالة القول النادر، ودلالة
العمى/ أو اللامرئي. لكأن "أبوالعلاء المعري" يشغل فضاء هذه الشذرات على
تنوّع فضاءاتها واختلافها.
أربع نقلات في النص "قول
الغيمة"، "قول شاعر مغرور" (غاض بصره عن المتنبي)، "قول
الأعمى"، "قول المتسول".. فأين يقيم الأعمى بحكمته؟!
هنا يتجلى السؤال في إتساع
وضيق، وهنا يجلدنا السؤال بدمه:
" وحيدة
أسقط من شرفة الماء
يدثرني صوتي
قالت غيمة "
لكي نفهم مقالة الغيمة ينبغي معرفة
"الصوت الذي يدثرها" وهي تتنزّل في رحلتها، هذا التّنزّل (الغيموي)
مغادرة للشرف والرفعة. تلك المغادرة التي يكشفها لنا فعل "أسقط". مستقبل
الغيمة هنا يتساءل: هل تضل الغيمة غيمة إذا غادرت "شرفة الماء"؟!
يقرن الشاعر الشرفة بالماء
لمكانة الماء السامية. وهي بذلك، تكشف عن شرف الماء ورفعته، رغم سقوط
"الغيمة"، وهي دلالة من دلالاته الصريحة التي تحدد عبر النص ما يتأهب
وراء هذا السقوط "المدثر بصوته/ بصوتها". وإذا كان العماري يسمي نقلاته
هذه بـ"حكمة الأعمى"، فإن مقالة الغيمة تتكفّل بهذا البناء الحكمي.
نأتي إلى النقلة الثانية، ولا
مراء في أن يكون الشاعر مغرورا، طالما أنه "كوكب نفسه"، متفردا بأسره.
فرغم حالة الإفصاح (الدال الخارج) فإن انكفاءً إلى الداخل تقرُّ به جملة
"كوكب نفسي". وهذا الانكفاء لا تمليه حالة الغرور، بل يبلوره التجلي
بالفرادة.
تفيض الذات وهي تتعلم الإصغاء
إلى ذاتها، وهي تغتسل بضوء كوكبها، غاضة نظرها عن الغرور: "بغض النظر عن
المتنبي.
قال شاعر مغرور:
"أنا
كوكب نفسي"
ثم... لماذا المتنبي تحديداً؟! وهل يمكننا
الاستعاضة عنه بشاعر آخر هو في مكانة المتنبي الشعرية؟! إن ذلك يحدث خللاً في
البناء النصّي، مثلما يزعزع البناء الدلالي الذي يتكشف في فضاءات النص موسعاً رقعته،
معتمدا على المجاز وهو يفتح حقولا جديدة أمام التأويل الساعي إلى التخلص من المعنى
الواحد.
غض النظر هنا تعمية وكفّ بصر.
لكن النّقلة القادمة تتوقع غير هذا، خصوصا وأن "العين" تمارس فعلين:
الاقتراح والاكتشاف. عين مثل هذه بوظيفة عيون عديدة. وقد تمنّى الأعمى في الموروث
الشعبي الليبي "سلّة عيون" يبصر بها. حتى ينهض ببصره وبصيرته:
"العين التي تقترح السّواد
تكتشف الخارج
قال الأعمى"
ترى.. أي خارج هذا؟! خارج العين أم خارج
السواد أم خارج كليهما؟! والنص هنا يتيح عيونا كثيرة: عين السواد، عين الخارج،
وعين الأعمى.
جميعها يستبد بها الاكتشاف،
إزاحة المستور، ذلك الذي ينسجم مع وظيفة الاقتراح، حيث "الخارج" يسيّج
"السّواد". النقلة الرابعة تقول دلالتها في الكتابة وداخل الحياة:
"تنحي قليلا
أيتها الصور
أريد يدي
أيتها الشوارع
أريد صوتي
قال المتسوّل"
تتوجه هذه القراءة إلى الكثرة،
فالكثرة مرآة- حسب تعبير المتصوفة، هذه المرآة التي تتغيأ الصفاء لنصاعة الرؤية
/الرؤيا. يمكننا هنا تلمس فسحة سافحة للتأمل لا خارج لها بمعزل عن هذه الكثرة.
* تفضيض الجوّاني:
أفق لا يقول سوى فجائعها. ضمن هذا كله، تلعب
"فضة الروح" وهي مثقلة بميراثها، وهي تستغور فضّتها المنهوبة.
كلمة "فضة" مقابل
"بريق" ومقابل "انصفاء" أيضا. لن نشطح وراء اشتقاق المعاني أو
نحفر عن دلالة عمياء. إلا أننا ندّعي في متابعة القراءة الإشارة إلى وقدات تضيء
لنا الجوّاني وهو (يضم الحروف بعضها إلى بعض – كما يقول: ابن عربي).
في "فضّة الروح"
تستوجب القراءة فرضيات أخرى. توحي بما في حوزة هذه القراءة من ثروة تأويلية مشحونة
إلى أقصى درجة بالمعنى اللاهب ومعنى المعنى.
توصيف الروح بالفضة، إنما
لتحديد مدى انسجام هاتين المفردتين وتميزاً لهذه الروح عن بقية العناصر والأشياء
والمكوّنات التي تنضّد هذا النص. إنه توصيف تستقل به الروح وتستحوذ عليه. وهو
تشبيه يثير إمكانية صدأ هذه الروح وغشاوتها.
وبنهب هذه الفضة، تحمل الصورة
الشعرية دلالة قاسية يفصح عنها هذا الفعل القاسي "النّهب" بما يغمره من
أفعال تبث في النفس حالة من الحزن والكآبة. وقد كثف الشاعر هذا وهو يتوجه إلى أمه
بشهقة لها صيغها المتعددة، في مسعاه لتكثيف هذه الأفعال التي تكبر وهي تتوارى خلف
لسانه. لنقرأ المعنى الدلالي وهو يتجاوز المعنى النصي:
"منذ أن نهب الرّعاة
فضّة روحي
وأنا يا أمِّي
أضيف عيني لرياحك العمياء
كي ترى خطيئتها"
نلاحظ هنا، أن ثمة تجاوزا غير
مندغم ولا متجانس بين الجمل "نهب الرعاة" و"فضة روحي". غير
أنه تجاوز يخلق رؤاه التي (لاندركها إلا بالرؤيا – كما يقول أدونيس). ونواصل ما
أتاح الشاعر إضافته، إضافة/ إضافة:
"أضيف الشّك ليقيني
وأترك الطفل الصقيل
سليل الشوارع
مخفوراً بصرامته
أضيف وشماً لنسائي
وماءً لتهدأ خرافات عائلتي
ولقرية الملح
أسرِّب بكائي
وأترك قبر أبي"
نرى هنا تدفق هذه الإضافات وانسيابها مهيمنة
على فضاء النص الذي يبدو فارغاً لا طريق إليه دون أن تتحدد معالمه. إنها تتدفق من
بعضها في بعضها. العين لترى خطيئتها، الشك ليقينه، الماء لتهدأ خرافات عائلته،
بكاؤه لقرية الملح (بنغازي التي علمتني الدمعة الأولى باتجاه قبر أبي – العماري في
عتبة لنثر العالم). هذه جميعها شرايين النص في مواجهة مدهشة للنهب، وهو الضاري
فرسية اللذة المتوجسة، الوفي للحياة، المنتسب ليديه، محور الإشارات ورمزها:
"أنا البكر
شقيق الضراوة
وصيد اللذة الخائفة
ألهو بنسغ الكلام الذي
ذوّبتُ مرارته في
كأسي
وانتسبت ليدي"
يبدو لنا أن انتساب الشاعر
ليده يستفز كثيرا "يده الزمن" و"يده الجهة". يد لا يدركها سوى
الانتساب إليها.
نقرأ في "رماد" بعض
السمات التي تمتلكها "فضة الروح" حيث "الرياح العمياء/ تنمو بنباح
مكسور". ولنا أن نقرن "الخطيئة" بـ"النباح"، هي مقارنة
تجذر هذه السمات وتسمح بالتحرر من المعنى الواحد وكذلك الدلالة الواحدة.
فـ"الريح-عمياء" و"الروح-فضة"، ونحن ندرك جيدا التقارب اللفظي
بين المفردتين. هنا إعادة إنتاج الدلالة وتحويلها نحو وجهة أخرى ومسار جديد.
تعتبر قصيدة "فضة
الروح" إدراكا لهذه الروح التي "نُهبت فضّتها"، وهو إدراك يضيء
انطفاء الجسد. يقول الشاعر في "رماد":
"سأجعلك خيالي الأخير
ومسافتي اللامعة
سأعطيك
صفة الموسيقا
ولغة الماء
ولعينيك أقترح طمأنينة ليل
حقوله مرحة"
* سيرة الشعر/ الشاعر مصاغاً
في سيرة:
الكتابة السيروية هنا ليست
تأريخا أو توثيقا لشخوص وأحداث وأمكنة، بل هي تفاعل كتابة وإثبات نص. الكتابة هنا
تتعامل مع السيروي بوصفه يملك قيمة شعرية. والشاعر مفتاح العماري يتنقل في هذه
القيظ، يهاجر في الهاجرة، منشغلا بالشعري في الحياة، تلك النار التي ورثها عن
"بروميثيوس" أو الجمرة التي في الرأس.
يقول "باختين":
"إن لغة الشاعر هي لغته هو، إنه يجد نفسه داخلها برمته، ودون شريك يقاسمه
إياها".
في "مشية الآسر"
القصيدة السيروية، ثمة احتفاء بالذات الشاعرة يعاضده احتفاء بالمتنبي تهجس به
القصيدة، ولا يتكتم عنه الشاعر "اقترح سيف الشاعر" (السيف أصدق أنباء من
الكتب –المتنبي)، وهو اقتراح لنص ولسيرة شاعر شغل الدنيا.
من هنا، يمكننا معرفة اعتمالات
الذات الشاعرة واضطراماتها "إني أقترح الآن هدوئي"، حيث تتوجه هذه الذات
إلى ما تتيحه اضراماتها من إفشاء مشحون بالألم والوجع ومؤاخاة الأذى.
قصيدة "مسافة الأذى"
حتى وإن جاء مفتتحها مطمئنا "لابأس يافتى"، إلا أنها (الخصومة الدائمة
مع المسافة – فوزية شلابي).
لنقرأ ضرم هذه الخصومة:
"لا بأس يافتى
إن بكيت
أو متّ على وجع، كثيرا
أو قليلا
لا بأس
إن تنام وتصحو على تيه
لا قبر لك
لكي تطمئن موتك
ولا حرب تشفي الغليلا
هكذا
يموت العليل عليلا"
قلنا أن الشاعر مصاغاً في سيرة لا يعني ذلك
أن الفضاء الشعري لهذه النصوص هو فضاء سيروي يرصد تفاصيل حياة الشاعر والسياق
الزماني والمكاني الذي تجري داخله أحداث هذه الحياة. أو أن هذا الفضاء قد اتكأ على
ذاكرة سيروية (استرجاعية) تعمل على إعادة إنتاج الماضي. ولسنا نزعم أن هذه النصوص
هي خلاصة حياة الشاعر أو جانب منها، غير أننا نتلمس "بأصابع لا يأكلها
الصدأ" إشارات "تلمع كبريق مخيلة".
البناء الشعري الذي يقيم صروح أعمدته الشاعر:
مفتاح العمّاري ينزع إلى ذروته في قصيدة "شهرزاد". هذا البناء النامي
والمتنامي يصوغ صوره التي تتضافر بخصوصيتها وخصائصها المتنوعة. والقصيدة وهي
تستدعي من جديد "شهرزاد" هذا المثال الحكائي الفخم، إنما يمزج في حالة
شعرية راقية بين "شهرزاده" الشبيهة بـ"معجزة خجولة" وشهرزاد
(ألف ليلة وليلة). هذا الامتزاج الواعي لا يخلو من تنهّدات الشاعر واستسلامه
لشعرية السرد وسحرها لدى هذه المرأة "الأكثر من أنثى" التي تأخذ اللب
وهي تقودنا إلى "متاهة اللذة السامقة".
* خروج/ دخول:
مغامرة العماري الشعرية هي مغامرة داخل
الذات الضاجة بكل تجلياتها، والمحمومة بحروقات الأسئلة، وفي انهجاسه لنفح صوفي
يضمخ نفسه مثل "قافية العطر".
وضمن هذه المغامرة يراهن
الشاعر على تكرير بعض الجمل الشعرية، وبثها في مواضع عديدة: "تمهل
الساقي-مرتين"، "أيها الرائي-مرتين"، "أنا نشوان من
ولهي-مرتين"، وهو تكرار يخدم الإيقاع وينوّع الغنائية التي كما أطلق عليها
الناقد "نوثروب فراي" في "تشريح النقد" بأنها "قصيدة
الأذن" ضمن بناء إيقاعي هو "نسيج الأذن – كما يراه العماري في قراءته
للشاعرة: "جنينة السوكني". ولعل قصيدته "قافية" تنحو برنيمها
الموسيقي ورويها "للاندغام في الأذن". مما يؤسر المعنى الذي يتدفق حارقا
الداخل فـ(الإيقاع: لص المعنى – إبراهيم الكوني).
والشاعر بهذه الشحنات
الإيقاعية إنما يتيح المجال فسيحا أمام انتظام الكتابة الشعرية. لعل هذا التكرار
يؤكد على أننا أمام كتابة ملحمية عبر تفعيل هذه الاستخدامات كلازمة هي مدخل لقراءة
هذه المجموعة من منظور آخر.
في معظم قصائد المجموعة تتنوّع
الأصوات، الأمر الذي يسمح بتنوع الفضاءات الشعرية. مما يتيح لهذه القصائد إمكانية
أن تمارس فعل تكثيفين: تكثيف لغوي، آخر دلالي. وأمام هذا الفعل المتشظي تهفو
الطاقات إلى خرق السائد وتفكيكه جماليا لبنائه بما يناسب وأنسجة التجلي والابتكار:
"في هذه القصيدة
الأشجار
والكلمات
والأصابع لها ظل
لأن الشمس
أرادت هذا المأوى..
أراد عين الشاعر"
<>
الهوامش:
- مشية الآسر: مفتاح العماري-
مجلس تنمية الإبداع الثقافي – طبعة أولى2004.