وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 26 أكتوبر 2017

عتبة لا تُصدّ


الأديب والناقد أمين مازن




عتبة لا تُصدّ



بقلم أمين مازن



     من خصائص الكتابة النثرية حين تجيء ممهورة بأقلام الشعراء المميزين، إنما تتجسد على نحو خاص بما يتوفر لها من التسربل برداء الشعرية المتفقة تلك التي تدفعها عادة من قبعة الرأس حتى أخمص القدمين، فتأتي والحالة هذه متوفرة على مستوى أكثر قدرة في الوصول إلى المتلقي ومن ثم حشده للذود عن كل ما خاضت فيه من مواضع وتصدت له من قضايا أدبية كانت أم سياسية حتى عندما يكون ذلك المتلقي من الصف المقابل أو من ينعت بالمختلف وربما العادي لقد وقفنا على هذه الوضعية كما وقف عليها غيرنا وكانت موضوعا للاهتمام والإشادة في كتابات الكثير من شعراء التجديد في العصر الحديث سواء من رحل منهم أو من لا يزال على قيد الحياة، بدءا من نزار قباني، ومعين بسيسو، وصلاح عبد الصبور وممدوح عدوان ووصولا الى محمود درويش وشوقي بزيع ومحمد الصغيرأولاد أحمد ، وقبلهم علي صدقي عبد القادر وشوقي بغدادي، والقائمة أطول من أن تعد هؤلاء الذين اشتهروا كشعراء ولكنهم عند معالجة المقال جاؤوا أكثر توفيقا من الكثير معاصريهم .
     وقد جاء شاعر الجيل مفتاح العمّاري في كتابه الأخير: عتبة لنثر العالم الذي صدر أخيرا ضمن سلسلة فضاءات، اشراف : عبد المنعم المحجوب، سائرا بكل الوثوق والقوة في هذا الدرب، درب المزاوجة بين الشعر والنثر، أو كتابة النثر بروح الشعر، بحيث يحار المرء أين يضع هذا النوع من الكلام، والحيرة هنا تأتي من الأعجاب وليس مما سواه، فعلى مدى النصوص التي كادت أن تصل الثلاثين والتي ما انفك العماري ينشرها مجزأة أو الكثير منها  بالأصح يقف قاريء العماري على هذه الخصيصة ويعيش معها.
      طبيعي أن العماري في كتاباته هذه واضح الموقف من حيث الأنحياز الحاسم للحداثة في تجلياتها الشعرية والنثرية وقد تأسس لديه هذا الأنحياز بشكل خاص ولا يصعب على القارئ أن يكتشف بفضل الأستيعاب الجيد للبدايات الخالدة لفن النثر، منذ سجع الكهان، فجاء انحيازه من قبيل التسليم بالمفهوم الأوسع لفن الشعراء لنقل معناه،وبالتالي فليس بالضرورة أن يكون ذلك الموزون المقفى، ولكن ذلك الذي يمتلك خاصية الأيقاع قبل أي شيء آخر، فلم يفته والحالة هذه أن يعلل سيادة القصيدة المقفاة لقدرتها على البقاء في الذاكرة حين لم يكن للعرب عهدا للتدوين، وكان النص الشعري يتلى في المحافل ذودا عن العشيرة أو تقربا لذي جاه أو سلطان، ويومئذ تعدد الرواة وشاع التحريف العفوي والمتعمّد وفقا للحالة النفسية ومستوى التأثر بالنص وقد نقول تأثير المصلحة، وتلك على كل حال مسألة تحدث عنها المهتمون والمختصون في معرض تتبعهم لرحلة النص وفحص المنحول من الحقيقي، وليس من المستبعد أن تكون للكثيرين مراجعات ومراجعات حين يكون ذلك في اطار مراجعة ما تعرضت له العقلية العربية من التطور المعرفي.
    انها رؤية موجودة ومعرفياتها كثيرة، غير أن المقدرة الفنية والأتقان لدى الكاتب يستطيع أن يخرجها في حلة جديدة وفي لون أكثر بهاءً مما يرفع من دورها في التبليغ وفي التمكين للفهم الأجرأ، وذلك في حد ذاته اضافة تحسب ومساهمة تقدر وحالة من حالات التواصل الخلاق والعطاء الجيد.
    على أن ما يضاعف الأهمية هو عدم الأكتفاء بالتنظير، وانما باقتراح جملة من النصوص الشعرية والسردية الليبية والحديث عنها بذوق شفاف وعقلية واعية ورؤية فيها الكثير من الاكتمال، مع عدم اهمال بعض النصوص العربية التي انطوت على شيء من التطاول على الوطن وأساءت بمجانية مفرطة كما عبر العماري بوعي، فهو اذن ليس منبهرا بالآخرين أو غافلا عما تسربه كتابات بعضهم من التعالي غير المبرر والتبرع بالأساءة دون وجه حق.
    والحقيقة أن نصوص العماري الشهرية ومثلها تلك التي يصفها البعض بالنص المفتوح كانت ومنذ أن توصلت بأكثر من فضاء عربي قبل عشرين سنة مضت، في اطار مناشط متبادلة قدّم فيها مع لفيف من نظرائه في ذات التوجه، كانت موضع ترحيب واحتفاء من أقلام عربية كثيرة رأت فيها يومئذ شكلا من أشكال التفتح على الأجيال الجديدة، وتقليدا من التقاليد المنفردة التي تقبل باحتكار الحضور، أو حصره في أجيال بعينها بقدر ما يتم الأمر في اتجاه توسيع الدائرة وتوفير الفرصة لكل ذي امكانية حقيقية مما أكسب المشاركات الليبية طعما مميزا وخاصيات غير مسبوقة ، صحيح أن التصرف كان عرضا تقليدا سائدا وبداية سابقة إلا أن الاستفادة من التجربة ومن ثم التطوير كان أكثر فاعلية، ومن هنا كان احتفاء أقلام نقدية كثيرة من المغرب والعراق والجزائر وتونس من أفضل الشهادات التي قدمت بالخصوص عن عدم وجود بعض المعالجات التي قد  لا تكون  موضع اتفاق وربما استوجبت الكثير من الحوار، ولكن هل كان النص الجيد غير ذلك القادر على إثارة الحوار، والحوار الكثير، وهل كان الاتفاق المطلق غير الجمود والتوقف، وهل هناك من يقبل أو يتمنى أو يسعى باتجاه التوقف.
    قطعا أن الجواب على كل هذه الأسئلة لن يخرج عن النفي القاطع.
____ 
صحيفة الجماهيرية. الثلاثاء 21 يونيو 1373 و.ر( 2005م )

زاوية الكاتب" كل أسبوع ".