مفتاح العمّاري
الفنّان متسوّلا
في كتابه " الطائر
الجريح " (1) وضمن قصة : مازال مادا
يده ،(2) لخًص الأستاذ على مصطفى المصراتي
، بأسلوبه الساخر لحظة بالغة الضراوة في
حياة ممثل شاب ، خطيئته الوحيدة .. سعيه الحثيث
لتحقيق حلم الممثل المؤمن برسالة الفنّ . في أول الأمر لم يدّخر الفتى أية حيلة إلا وجرّبها لكي يحظى بدور ولو
قصير جدا على الركح أو في السينما
أو التلفاز ، إلى أن وهن عزمه ،
وفتر جموحه ، ذلك لأن الفن كما يؤكّد المصراتي
في قصته ، أمسى سوقا هائجة
مائجة ، لها أساليبها الماكرة وسماسرتها وأقبيتها
ودهاليزها .. وأن الموهبة وحدها لا تكفي للفوز بموقع نظيف في ساحة الفن
والفنانين ..
كما أن عشق الفن وحده لا
يعدّ معيارا يمكن الاحتكام إليه في مناخ فنّي تعوزه البراءة . لكن إصرار صاحبنا على طرق الأبواب قد
أوصله في نهاية مطافه المضني أن يحظى بدور هزيل – ربما في مسلسل تلفزيوني لا يقلّ هزالا - .
للوهلة تردّد الفتى في مضغ وهضم
الدور المخيّب لطموح الفنان حين يشطح به الوهم كثيرا لتجسيد
شخصيات أكثر حضورا وتأثيرا ورسوخا .. لكنه ما لبث أن قبل وعلى مضض بتجسيد
الشخصية التي أسندت إليه ، محاولا إقناع
نفسه بأن التمثيل يظلّ في جوهره فنا نبيلا ، بغض النظر عن هامشية الأدوار
وقصرها ، مستعيدا في أسى رحلة التعب والتوق التي تجشّم عبرها طوافا مضنيا بين
المسارح والمخرجين والمنتجين و شتى مؤسسات الإنتاج والتمثيل الدرامي ، كما تذكّر
حلمه الجميل بأن يصبح في يوم ما فنانا
مرموقا ومشهورا .. وأيضا استعاد باطمئنان تلك الحكمة التي تقول ، بان رحلة الألف
ميل تبدأ بخطوة . لكن وعلى الرغم من أن الدور الذي أسند إليه بعد سبر واختبار ،
وتفصيص وتمحيص ، لم يكن دورا بمعنى الكلمة ، بل عبارة عن مشهد قصير جدا ، تحاول
فيه عدسات التصوير الانقضاض عليه في لقطة عابرة لا تتعدّى بضع ثوان .. أي انه محض
كومبارس ، ومن ثم ليس له تلك الأهمية
الدرامية التي قد تجعله يرسخ في ذاكرة النظّارة .
وتبعا لمضان هذه المشقة ، وإنصافا لتلك الموهبة الطازجة التي ينطوي عليها
صاحبنا الممثل الشاب يمكن لمخيلتنا كقراء ، أن تتكفل بشيء من التعاطف
الموضوعي لتهب هذا الكائن التعيس ما يليق
به من جموح المبتدئ الذي بطبيعته لن يدّخر جهدا في تأكيد موهبته ، وفرض حضوره بصلابة واثقة ، مستثمرا السانحة الأولى التي ترفّقت به ، حتى ولو كانت مخيبة لآماله ، حيث
لا مناص من أن يطوّع مخيّلته
لكي تتكفّل برسم ملامح الشخصية
البائسة التي يقتضي عليه تجسيدها كمتسوّل . وعلى الفور ، انهمك الممثل بصرامة
في التدرّب على أداء الدور كما لو كان واقعا شرسا ، لا محض خيال سطّر
بعجالة في بضع كلمات على ورقة مهملة ، مكرسا له كل انشغاله وحواسه وموهبته .
مجاورا بين دهاء الصوت ومكر الإيماء ، بعفوية جارحة تليق بمسكين عليل ، فتضافر في رسم شخصيته ، الفنّ والواقع دونما ابتذال . حيث لم يكتف باستعادة
ما تختزنه ذاكرته من قراءات ومشاهد وصور
تلخّص سير المتسولين ، سواء عبر
مشاهداته للأشرطة السينمائية ومسلسلات الدراما ، أو من خلال قراءاته لروائع السرد من قصص وروايات .
لأنه قد تعمّد أن يخرج للشارع ويرصد عن
كثب أهم ملامح المتسولين وحركاتهم وأصواتهم وثيابهم ، مصغيا بانتباه لكل عبارات الاستجداء التي يرددونها
دونما كلل أو ملل . هكذا تهيأ الممثل الطموح لمقارعة أولى شخصياته في معترك الفنّ
. وما أن شرع في تدريباته اللازمة لتأدية دوره القصير ، حتى
استأنس بغواية اللعبة وشعر بقرابة مصير ،
وصلة نسب عرفانيّ تجمع بينه وبين المتسول الذي لم يعد في نظر ه حبرا على ورق
. عندها اقترح الثياب البالية
والمرقّعة التي تبرهن على كائن معدم ، سترق ّ إزاء حطامه أشدّ القلوب غلظة وقساوة . ومن دون أن يغفل أية شاردة أو واردة أضفى
على وجهه وهيئته أعنف مظاهر البؤس والمسكنة .هكذا ، وما أن حان موعد
التصوير الخارجي لمشهده البائس، حتى وقف كما أُمِر ، في خضم ذلك الشارع عند واجهة
بناية ضخمة ، ملبّيا تعليمات المخرج ، حيث
تعيّن عليه أن يلازم ضوضاء حراك المارة
مادّا يده ، مصحوبة بعبارات استعطاف تتقطّع لها القلوب ، وقد تغلغل في
تجسيد التسوّل بكل حواسه ومشاعره وتاريخه وفجائعه وخيباته وأحلامه ، كأنه هو
من غدرت به الأيام وتآمرت عليه صروف الدهر
ليكون شحاذا مسكينا ، كهلا أعشى ، محدودب الظهر ، دميم الخلقة .. غريبا تائها مقطوعا من شجرة الرحم . لم تمض بضع لحظات
حتى ظفر بما عجز عنه أدهى المتسولين حنكة ومكرا ، مستحوذا في يسر
على عطف المارة وتحريك شفقتهم بمهارة عالية , فتقاطرت عليه الدنانير بطريقة أذهلته مثلما أدهشت طاقم
التصوير بما فيهم المخرج ذاته الذي لم
يحدس قط بأن تحوز تلك اللقطة العابرة كل هذا القدر العالي من التأثير
الدرامي غير المتوقّع ، مما جعله يأمر بإطالة اللقطة ، مستوحيا عبرها عدة زويا
إضافية لعدسات التصوير التي انبرت تنط في
بهجة من مكان إلى آخر .. ليندرج المشهد
الهامشيّ من بين أكثر المشاهد إثارة وتشويقا .. طالبا في الوقت ذاته من كاتب
السيناريو بأن يبتكر لهذه الشخصية تضمينات جديدة في نسيج مسلسله التلفزيزني . لكن المفاجأة الصادمة التي أذهلت الجميع
وجعلتهم في حيرة ، ولم يجدوا لها - في حينها - تفسيرا مقنعا
سوى الخبل ، ومن ثم قد صعب عليهم تصديقها ، هي : أن الممثل ظلّ مادّا يده(3) ، ولم يعبأ بأوامر المخرج ومدير الإنتاج التي تؤكد على انتهاء التصوير
وضرورة مغادرة الموقع . كما أنه لم يحفل
بعبارات الإطراء التي تهاطلت عليه من فريق
العمل ولاسيما تلك الكلمات التي كررها
المخرج ذاته ، والذي ما فتئ يردد " بارع ، مذهل ، أنت معجزة "
،وبالمثل لم يعط أية أهمية
لمقترحات المخرج التي تعد بتمديد دور
المتسوّل وإعادة معالجته دراميا
وتطويره ليكون رئيسيا وثابتا ضمن
حلقات مسلسله . ذلك لأن الممثل الذي
امتلأت جيوبه بالدنانير ، قد حقق – كما جاء في القصة - مردودا ماليا أكبر مما سيناله المخرج ذاته
. لكن ثمة تأويلات وتعليقات كثيرة اندرجت
على هامش هذه الواقعة الغريبة في مدونة فنون الدراما ، بينها
: لعل الممثل شعر فجأة بالثراء بعد فقر ، أو لعلّ شخصية
المتسوّل تنطوي على سحر لا يقاوم .. أو أن
كلا الشخصيتين - الممثل والمتسوّل - تشتركان في نسيج واحد . أو
لعلّ ثمة فتنة ما في التسوّل يصعب على الفنان في بعض المراحل التاريخية التخلّص من
لعنتها . فقط ، شعر الممثل للحظة ، أن
التسوّل مهنة سهلة لكسب المال ، لا تتطلب سوى ارتداء قماشة بالية ، وترديد بعض
العبارات المسجوعة . هذا ما يتوقف عنده
السارد في هذه القصة القصيرة ، والتي بقدر ما تشير إلى مأساة المبدع الذي يختار طوعا اللجوء إلى التسول عوضا عن
مزاولة الفن .. تلمّح – في الوقت نفسه
- وبسخرية مرّة إلى واقع الحياة الفنية
كصناعة تخضع لسوق مريبة لم تسلم أجندتها
من خزعبلات السماسرة وترّهات المتطفّلين
الذين أفسدوا كل شيء . لكن أن يمسي الفنان
متسولا ( حقيقة ومجازا ) ، هذا هو المأزق الذي تستدرجنا إليه قصة
الأستاذ المصراتي . ربما لكي نضحك
- وفي مرارة - ساخرين من أنفسنا
، ومن الواقع ، ومن بؤس الفن
حين يفقد مهابته . لكن يتعين علينا أخيرا ضرورة التلميح ، إلى أن الكوميديا السوداء هنا قد لا تتعلّق
في هذه الحكاية الصادمة بالواقع
الاجتماعي لحظة أن يبلغ أعلى درجات
تفسخه وانحطاطه ، بل تتعلّق أيضا بما
نعتقده ونؤمن به . ولعلّ السارد هنا لم
يقل ذلك صراحة ، بل إضمارا .. بحيث أتاح للمسكوت أن يحذو حذو المنطوق ، عندما
يغوينا مكتفيا فقط بطرافة الموقف ضمن حيزه
المفارق ، أي داخل الحدود التي رسمتها
الترهات المخلّة ، التي تتواطأ
البيئة الاجتماعية بسوقها وسماسرتها
ودهاقنتها وحذّاقها على فرض أحكامها الظالمة ، لا سيما عندما يتوقف
الكاتب في نهاية السرد عند حصيلة بطل قصته ،الممثل متسولا ، مؤكدا بأن ما جناه من مال
يتفوق على ماهية، أو راتب
رئيسه ومدير المدرسة وعميد الجامعة
.. أو رئيس تحرير المجلة التي كان يعمل
بها . هنا وعلى الرغم من هزلية المعالجة
الساخرة ، وما تزخر به من كوميديا سوداء
..إلا أن ثمة ما هو مقلق ومنفّر ،
إزاء لعبة قلب الأدوار ، لحظة أن يمسي الفنان متسولا ، والمتسول فنانا
.. وأن ما يتصيّده الحذّاق والشطار يتفوق على ما يتقاضاه رجال العلم والأدب .لأن
أخلاقيات الفنّ بكل حمولاتها الجمالية والتاريخية والاجتماعية ، وما رسخّته فينا
من مفاهيم وقيم لا تجعلنا في واقع الحال هنا نتعاطف كثيرا مع الفنان في طفرة تسوله
.. لأننا بالمقابل قد نستدعي المجاز الأشدّ قسوة من صلابة الواقع حين يتحول الفن
ذاته إلى يد ممدودة ، لا تجيد غير الاستجداء والتمسكن والتمسّح والتسول . وهي صورة
أكثر بشاعة من التسول كتجربة حقيقية لا غبار عليها . ففي العالم ثمة فنانون كثر من
موسيقيين ورسامين أرغمتهم ظروف العوز ،
فاضطروا دونما غضاضة إلى الاستعانة
بأدواتهم الفنية لتأمين لقمة العيش، وبذا
لاذوا بطرق مهذّبة في التسول . كأن تجد
رساما أو عازف كمان على رصيف أو في مداخل محطات القطار .. حيث لا أحد
يستجديك إلا إذا استجابت حواسك تلطّفا
وطواعية لنداء النغم أو هفهفة اللون
وتباطأتَ من ثم في مشيتك أكراما لبهاء الفن ، بحيث يتاح لحواسك أن تستمتع قليلا أو
كثيرا حتى وأنت تعبر الشارع من دون أن
تطالب بدفع شيء إلا إذا تكرمت دونما إكراه
ببعض ما في جيوبك من بنسات لتلقمها
بهدوء في جوف إناء معدني . لكن
إزاء عالم ( الطائر الجريح ) ، ستختلف مستويات عنف الواقع
، وسترتفع وتيرة كوميدياه السوداء
إلى أقصى ذروتها عندما نكتشف في
خيبة بأن حياة الفن في حقيقتها ومجازها ليست
إلا نوعا من التسوّل المضحك والمبكي في آن . وبالتالي سوف لن تحظى خاتمة هذه القصة - و
التي تواطأ خلالها الممثل مع وضاعة الدور ، واختار أن تظل يده ممدودة - بأية إجابة مقنعة على سؤالها الأكثر قلقا
وغرابة وحيرة ، وهو : لماذا اختار الممثل
أن يظل متسولا .. بحيث تفلت الشخصية من
كادر التخيّل إلى كادر المعيوش كواقع حيّ . هل حقا أن اللعبة تتمحور فقط حول جني
المال بسبل أقلّ تعقيدا ، بغض النظر عن سمو الفن وقداسة رسالته. هنا تكمن ضراوة اللعبة ويختلط الواقع
بالخيال والضحك بالبكاء .. ويمسي من
المتعذّر الفصل بين الحقيقة والمجاز .
___________
(1)
صدر عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان
. ( ط / أولى ) 1994 .
(2)
الطائر الجريح ،صفحة رقم ( 69) .
(3)
< عولجت قصة - مازال مادا يده - دراميا كتمثيلية مرئية ، بثتها القناة الفضائية
المحلية ، ضمن سلسلة : هدرازي ( سيناريو وحوار : مفتاح العمّاري ) ، والتي تمحورت
في جزئها الأول على قصص الكاتب ،علي مصطفى المصراتي > .