وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 17 أغسطس 2015

مفتاح الخيميائي : عبدالله الماي


عبدالله الماي
( مفتاح الخيميائي )*

بقلم : عبدالله الماي

    أحس بالمتعة ، عندما أكتب عن نصوص قد تجاوبت معها , لأنها استجابت لمقتضياتي , وهذا ما حدث معي هنا , مع الشاعر " مفتاح العماري "  الذي نفخ من روحه في رميم اللغة فأحياها .
     
هذه اللغة التي تكهن بعض علماء اللغات بانقراضها,وجفاف معينها. لكن مثل هذا الناثر (شعرا أو سردا),استطاع أن يبطل ادعاءات اللغويين أو نبؤاتهم ربما المغرضه , باعتبارها مكون هوياتي مستهدف , فأخرج لغة من ثوب ذات اللغة , وأثبت أن اللغة الحية هي التي تنتج مورثاتها ذاتيا وتحوي سر بقائها , و منحها طعما جديدا مغايرا , وهذا ما سهّل علينا الاكتشاف , ان هذه المعايرة الدقيقة , والجمع المتجانس بين المفردات " الأفعال و الأسماء" لدى الشاعر مفتاح العمّاري,الذي تحول قرض الشعر لذيه الى هدف أعلى في الحياة , ولايزال يعيش تدفقه الشعري , وتتشكل لديه رؤى فقهيه وفلسفية (شطح صوفي ) , ومابعد المعنى , وهو يلقي أكسيره على اللغة بقريحة فذه و بما أوتي من حس فنيّ مترفّع / رفيع  ليحولها الى شعر خالص , ولا تملك وانت تقرأ قصائده , وهي تهزّ جذع الذاكرة بطيب ,  الا أن تصرخ بملء الدهشة مقلدا أرشميدس :" يوريكا..يوريكا "ويدفعك لأن تتفق مع الاغريق الذين دعوا قرض الشعر ب( لغة الآلهه)
   كيمياء بطعوم ومذاقات لم نألفها من قبل , ولم نلتقي بها ,خلف أسوار النار التي حالت فيما بيننا وبين اللغة توأم الذاكرة لكسر جمودها ,وتسريع ايقاعها المضمر, حيت نعثر على هذه الميوعة واللدانة , نعثر على هذا التطويع و التهذيب الذي ازال عن اللغة غشامتها , كمن يثني الخشب اليابس , أو يلوي الحجر,ليمنحنا مذاقا جديدا مميزا ,ويمنح القصيدة أناقة كاملة وهنا يكمن سرالاعجاز الابداعي للعمّاري , هذا التفوق الذي لانظير له في مشهدنا على الأقل, في أخلاطه ,وعجنه ,  وفرزه الدقيق للمفردة , التي كنا نظن ان الابتدال قد نال منها الكثير الى الحد الذي أصابها معه البياد , وأصابنا معه اليأس , وقد حمل اللغة في صدره وهنا على وهن حتى أضحى صانع ديمومة , وأثّال بقاء... بما قدمه للغة , لم نشهده الا في نصوص شبه مقدسه تنضح بالعرفان والبيان , نصوص عصية عن التقليد , انه يعاير ما يمنحه النص من لذة مطلقة , لقد فتنته القصيده فافتتن باللغة ,  فهاتوا آذانكم وأسمعووووه وهو يمارس واحدة من لياقاته الشعرية اذ يقول :

                     من هذه الموسيقى
                    التي يرتفع صداها الحالم
                    كهدية متواضعه
                    للمعلقات العظيمه
                    صنعت ربيعا سخيا ..
                   وأطلقت راعيا فتيا يغنّي خلف شياهه
                   ولم أنتبه للذئب ,
                   وهو يصعد لاهثا
                   خلف الكلمات البريئة .   
           
   بهذه البساطة العصيّه , تكون القصيدة هي وردة الغيب والثعب , هي وردة اللغة , عندما نستوحي الوجود, لنقبض على جدوة النص المطلق , المترفع عن المباشرة , والمجانية , باسلوب راق ذو خزين معرفي هائل , ومدخرات تقافية متكاملة .المعنى الجديد ضالة المبدع ’ والشاعر إبن اللغة وأبوها , وهذا ما ينطبق على شعراء قلائل من شعراء العربيه .
   
هل هو من استلهم المرأة , أم هي ملهمته ( ألهمته ), أنا رجل تفتحني أنثاي , أنا وليد أنثاي ! المرأة التي تفيض أمومة , وتفيض أنوثة , اسهامه  فيه  دعوة الى تأنيث العالم .. الى تأنيث الزمان :-                                                                                                  
              من هذه اللغة
             التي تهطل من حلم الشوارع
             صنعت ريحا جريئة
            لكي أختفي بين مدينتين
            بين امرأتين
            من ملح وغبار ..
           وكنت أبعد من أثر
           وأخف من خيال

     الحياة تخصّب روح الشاعرالتي حققت تباينها ولازالت تنشد الكثير, كي تمنحنا قصيدها , لقد انفلت من سطوة اللغة التقليديه المهترئة , وتخلص من الأرتهان لها , وولّد لغته وقاموسه ...وتراكيبه , وخلطته اللغوية , فهو دائم التصنت لوقع أقدام الزمن القادم . يحدد ( أدغار آلان بو) الشعر( بأنه خلق ايقاعي للجمال) , ولمفتاح العمّاري ايقاعه المضمر, والمتفرد , الموسيقى الصامتة و العميقة الدانية التي تتدلى من النص , والتي تفوق الموسيقى الصاخبة والسطحية , لا لأي سبب لانجده لدى غيره , بل لأنه أخلص لموهبته ,وتفانى في معالجتها , وتهذيبها , ونأى بها عن التقليد , و التشبّه , ويضاعف جهده من أجل غايته , فهو يبلل اللغة و يترك روحه ناشفه , ليس موهبته كامنة في ترصيع النص بالمفردات التي يستحدتها , أو يشتقها بشق الأنفس , ولكن يظهر الجمال و الذوق الرفيع في الفسيفساء النهائية للنص , لقد  اكتفى بنفسه , وبنفسه بنى قدراته الابداعيه على قلق ومن قلق ( عصامية الابداع ), فميلاده الثاني كان من ضلعه الأيمن !
   يخرج اللغة من اطار القولبة والجمود , ويذهب بها بعيدا ليمنحها , دلالات جديدة وصيغ مختلفة , لم تخطر على بال سابق , فتصبح حمّالة معان ,لبلوغ قمة اللغة , وذروة المعنى = اللا معنى , بذا يكون الشعر هو سقف المعنى , والمعنى هو سقف اللغة , انه يسقي اللغة , او يلتها بماء روحه كي تقول لنا انها كائن يعيش معنا ينمو , ويتمدد , بل ويسعى بيننا . دخل مكامن اللغة و تعهد أن يفجرها كي يخرج طاقاتها الابداعية ,وأقصى قواها الايمائية ,ويمنحها المذاق لتغمرنا بمتعتها الجماليه , وأن تدخل اللغة  هو مغامرة معرفية مذهلة , اويجنّس اللغة خالقا هجينا متجانسا , سواء من المعنى المتعالي أو المتواضع , في الشعر الحقيقي كثير ما المعنى (المضمون) يسبق قائله , قد يلحق به وقد لايلحق ,( الشعر يسبق معناه ) , وهذا يرجع الى أن الشاعر لايتعمد قول الشعر , ولكن الشعر يتنزّل على الشاعر .
    شعر العماري , لاتصح ترجمته ,حيث سيفقد الكثير , كأي شعر بلغات العالم الأخرى ,لأنه   (شعر لغة ), ارتبط بها , وارتهن لمدلولاتها ,الشعر دالة لغة ... واللغة حارس معنى , و كما يقول المثل ( ترجمة الشعر خيانة)
   اللغة الموازية للمعنى , هي اللغة الجامدة التي لاتلتقي مع ما وصل اليه الفكر الانساني , ومن الضمن ايضا اللغة النامية ..أسباب الالهام والموحى ..
القصيدة حالة ذهنية في عقل المبدع . عندما يكون الشاعر في لحظة الخلق . يزيد خياله اشتعالا ,يتحدى المنطق و يتجاوزه , خيال تجيزه الحقيقة (منطق الشعر)
فن مغايرة المعنى لاستخلاص المختلف المتفرد , وفق الذائقة الممتعة (المنتجة) و ليس المستمتعة (المستهلكة) ..تنويع موارد ابداعه /فعل لاارادي . لقد مر بتجربة مميزه / مختلفة .
يزن كلماته بفنيه ودقة , ويعايرها بلباقة محترف , يرفض أن يصنع تسويه , ولا يخون موهبته , يخالف الاتجاه السائد , يقاوم سلطة النص . يبدأ القول الشعري من الصعب الممكن , وينتهي عند السهل الممتنع , دون الخوف من خوض مغامرة التجديد والتمادي . نجد أن له ما له منذ بداياته في مديح اللغة . عندما تتعمق في اللغة تتعمق فيك . لقد داهمه الالهام وأخذت تتخلق في رأسه قصيدة جديدة , لتتشكل فيما بعد .لينعش بها مخيلتنا و يمدنا بقوة تخيّل . مفتاح العمّاري كشاعر جاد يترصد كل شاردة ,ويتحين كل واردة , فلا تضيع منه فرص الاقتناص أو التقفيّ , وينتزع أنفاسه مما منحه له الله من حق في استنشاق هواء الحريه , يلمس ذلك المتتبع لسيرته عن قرب و انتباه , عندما نسائل النص في الحيز المتروك لاجتهاد المتلقي , وتكون مقابض النص ظاهرة , مغاليق الى أجل لامسمى , وما تقع عليه أعيننا من أشباه أشباح , تزيد من تضليلنا . عند مفتتح النص تحديدا . الشعر سؤال شاف أم اجابة محيّرة .
  الابداع ذلك التفاعل الذي يقع في دخيلته , لايمكن ان يأتي بمثله أحدا الا هو , لذلك فبالتعبير الصحيح يكون الشعر لذيه قراءة المتعة , وليس متعة القراءة ! لا نقف أمام احتمالات معدودة أو محددة , لكن أمام احتمالات مفتوحة غير مغلقة , انه كالعطار الذي يعطر أرواحنا بخلطاته المميزة كي يمنحنا رائحة زكية و منعشة ومبهجه . في متسع من البال , بأخذ القصيدة الى متنفس لها , الى الأرحب , أجمل ما في الشعر بساطته . ا لحضور اللغوي والجهوزية تحاشيا لذلك التعثر في صياغة الصورة والتقاط القبس قبل أن يتلاشى . الشاعر طاغور وصف اللغة البنغاليه بالسكر . نقف على الغاء الفاصل الوهمي بين الشاعر والمتلقي . عندما يتم التوغل في اللغة , وتظهر فتنتها تتحرر قدرات الروح المبدعه ويكون الشعر هو غواية اللغة في أرقى حالاته .

     هذا مسح شمولي عام و(متعجل) لشاعرية مفتاح العمّاري كشاعر , عبر ما قرأت له من نصوص , وماتكون لدي من انطباعات تشكلت  أفكارا :- انجذاب صوفي , وصفي يميل – وليس بشكل كامل (جاد) – الى النزعة التأملية, والتأويلية , هذا التجديد للغة يمنح الشعر شعرا , لتصح معه كينونة اللغة و حيويتها . اللغة فهم و تفسير , ومن هنا تصبح اللغة أداة تفكير ومدعاة له قبل أن تكون وسيلة تعبير ,مهما بلغت أهمية التعبير أو التفاهم .
_____

*عن بوابة الوسط :8 أكتوبر 2014