وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

بيت الشمس *



مفتاح العماري


______________    بيت الشمس

خوان ميرو


     تقتضي هذه الحكاية التي من سلالة الغابة، سبر كل ما هو متعذر في اللحظة تلك، عندما ارتبكت كائنات البرّ إزاء ضراوة الظلمة المفاجأة. لأنه يستحيل على براءة الحيوانات الغافلة استيعاب صرامة العلم في ما يعرف بظاهرة الكسوف. ولان الشمس احتجبت على نحو مباغت في ذلك الصباح البعيد، خضع الخيال رغما عنه لمشيئة الفوضى، وأصوات العتمة.. بعد أن تحوّل النهار إلى كتلة قاتمة من ليل إضافي حالك السواد، مما حير جميع الكائنات يوم ذاك, وجعلها قلقة وخائفة..ولا سيما الطيور التي خمدت واجفة في أعشاشها .. غير أن السلحفاة وحدها بدت أكثر حكمة، وهي تفكر في نسج حيلة ما ، تستدرج  الشمس إلى عاداتها اليومية.
ولعلها (أي السلحفاة ) وهي تحمل أينما ذهبت منزلها الصغير فوق ظهرها ، قد أدركت بالفطرة بان الشمس هي الأخرى: مهما عظم شانها تحتاج إلى بيت آمن يؤويها ، وقالت في نفسها   " لابد أن يكون منزل الشمس ذا مزاج خاص من حجارة لا تحترق, وزجاج شفيف يليق بجمالها اللاهب " . لذا قررت السلحفاة الذهاب إلى البنّاء..  وهو رجل بهيئة عنكبوت كبير أفنى عمره بين الكتب ودراسة فن العمارة، ولا يضاهيه أحد في تشييد قصور معلقة على أعمدة لا ترى . وقد كان البناء يومها حزينا لأن الشمس لم تشرق ،  فلم يغادر عتبة بيته. وبعد لأي التقت السلحفاة بالبناء وقالت له " أنت تعلم أن الشمس لا تختفي هكذا دونما سبب... وأنها لابد مستاءة منك لأنك لم تفكر بعد في بناء منزل جدير بسموها؟. فهيّا أيها البناء..فأنت الأجدر بين جميع المهندسين ، بان يوهب هذا الشرف النادر ، لأنك عارف بنسب القوانين التي تنطوي عليها أسرار العمارة ،  فاصنع منزلا للشمس تجتمع في ردهاته الألوان السبع وتنصهر داخل تجاويفه الظلال كأنها عطر الضوء .. وتذوّب المسافة بين الخامات التي من حجر قدّ من ذهب وفضة.. لتغدو حفية بأسرار لمعانها  ، لا تدركها بلاغة النظر .. واجعل أروقته فسيحة وثرية بدلالات النجوم ورحلة الكواكب, ولتكن أسواره من كريستال  مفضض تحفها أزاهير عباد الشمس .. وممراته نغم يهيج من سلالة الروح.......  " .
    قال البنّاء  " على رسلك أيتها السلحفاة.فانا جائع وصغاري أيضا – ولن يكون في وسعي إعمال مُخيّلتي بمعدة خاوية.فاحضري لي خبزا من عند الفران لكي اعرف كيف يمكنني بناء منزل للشمس "
أسرعت السلحفاة وهي تدبّ   من درب إلى آخر ، ومن ظلام إلى ظلام حتى اهتدت إلى موقع الفرن  . وقفتْ لهنيهة تلقط أنفاسها ثم صاحت بصوت عال  " يا عمي الفران ..  أريد خبزا للبناء حتى يمكنه أن يشيد منزلا للشمس  "
قال الفران  " لن أعطيك خبزا حتى تجلبي لي حطبا من عند الحطاب " .
فأسرعت السلحفاة صوب الغابة البعيدة ونادت بصوت عال  " أيها الحطاب أريد حطبا للفران ،  لكي يعطيني خبزا للبناء ,  والبناء يبني منزلا للشمس حتى تشرق  " . ضحك الحطاب بمرارة ثم صاح في وجه السلحفاة " إنا عطشان ، ولن أعطيك عرفا واحدا من الحطب حتى تحضري لي ماء من البئر " .
 استدارت السلحفاة .  وانطلقت  بخفة إلى أطراف الوادي ،  حيث  البئر الوحيدة تنزوي  على نفسها محاطة بالظلمة الموحشة . وقفت السلحفاة عند حافة البئر  ونادت في أسى:
 " أيتها البئر فمك مقفل وغطاؤك محكم ثقيل كالموت ،  وأنا  أريد قليلا من مائك العذب للحطاب ،  لكي يعطيني  حطبا للفران  ، والفران  يهبني خبزا احمله للبنّاء  الذي سيبني منزلا عظيما للشمس لكي تطلع ..
ردّت البئر في أسى   " كيف يكون  ذلك وانأ مجرد بئر مهملة بعلانية..
محكومة بالعزلة والنسيان لا خبر لي يمجّد مائي..فلن تنالي شيئا من عندي حتى ينسج الشاعر السامق القصيدة التي تمجّد صفاتي وتخلد ذكري. " ذهبت السلحفاة إلى الشاعر السامق في خلوته النائية ، فوجدته تائها بين الكلمات ،  يقتفي أثر القوافي من دون أن ينتبه في أول الأمر لدخول السلحفاة التي بدت تتكلم بخشوع كأنها تقيم صلاة أخيرة ..
وهي تهمس بتوسل يخالجه  الحزن :
 " أيها الشاعر السامق الذي يختزل العالم بأسره في بضع كلمات نشيطة ..  أريد قصيدة في مديح البئر ..  لان الحطاب ضمآن-  والفران بلا حطب –والبناء يحتاج للخبز من اجل أن يشرع في بناء بيت للشمس لكي تشرق..
    _ هيا أيها الشاعر ، قل قصيدة في مديح البئر .. فأنا أعرف انك قلق وحزين من اجل أمك العليلة  ، وان أطفالك يحتاجون أحذية وثيابا للعيد وزوجتك الغيور تخشى دائما من مغبة امرأة أخرى.. ولكن لا باس أيها السامق ، فكل شيء سيغدو بعد حين مضيئاً ومرحاً.....لأن الشمس رهن قصيدة من بضع كلمات تدور .
_________  

*من كتابنا ( مفاتيح الكنز) .