وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

طبيعة صامتة

مفتاح العمّاري

_________ بيت مُتخيّل في البراري



\

    من المبهج أن يهبك الخيال بعض رؤاه الجميلة ، ومن المبهج أيضا أن تسافر مقتفيا آثار تلك الرؤى ..  لتتبع ما يشبه على نحو ما  أن يكون حلما  جميلا يخصك وحدك ، محاولا تسقّط مفرداته  دونما توقّف ، تماماً كأي كائن بشريّ يتوق إلى تحقيق نفسه ، مؤمناً بأن مسيرة الحياة  عبارة عن توق يتناسل ، لذا ستحاول جاهدا  إقناع نفسك  بان الأحلام الكبيرة تبدأ عادة بحلم صغير .. على غرار طريق الألف ميل التي تبدأ بخطوة ، وستقول : ما ضرّ لو تتبعت لغة حلمي إلى آخر المطاف لأجل أن تكون الأوقات مترعة بالهناءة والهدوء والطمأنينة . هكذا بدأت الحكاية  التي سأسرد هنا بعض تفاصيلها المضنية ، وخاتمتها الخائبة ، والتي  بدأت معي  على هيئة حلم قلق .. فقد حدث منذ عشر سنوات ، أن هيأ لي خيالي النشيط بعض ما يقترفه الفقراء من أوهام اليقظة ، فتخيلت بأنني وأسرتي نقطن بيتا جميلا في البراري ، تحيطه البساتين بأشجارها وأزاهيرها الخلابة ، وكل ما تجود به الطبيعة البكر من سحر جمالها الفتّان  ،  سحر تحفه الطمأنينة من كل جانب : الخضرة والسكينة في أحضان الطبيعة الوادعة ، بعيدا عن ضجة العاصمة وصداعها اليومي.
      هذا الخاطر يعد بالنسبة لي أكثر عنفا من مجرد حلم يتكرر .  في أول الأمر لم احفل كثيرا  برؤيا الوهم التي راودتني في عشية ما  ، غير أن الحلم ما لبث أن تكرر معي .. وبدأتُ  على نحو ما ، أسخر من نفسي ، على اعتبار أن المسالة برمتها محض شطحة  عشواء ستفضي حتما إلى حماقات لا جدوى من تصعيد وتيرة أوهامها ..  فقد  كنت أعتقد جازما  باستحالة  السكن في الريف على رجل فقير مثلي، ولاسيما إذا كان مجرد  موظف صغير لا دخل له سوى مرتب محدود اقتضته لائحة  الدرجة الخامسة .  حلمتُ ، وربما كان الحلم مبرراً ومشروعاً بالنسبة لكائن بائس لا يملك في هذه الحياة سوى حفنة من الأحلام . وكم هي كثيرة تلك الأحلام التي ذهبت نسيا منسيا .. لكن في هذه المرة قد اختلف الأمر .. إذ وجدت نفسي أتواطأ مع مخيلتي ، مأخوذا بتلك المفاتن التي يضمرها بيت متخيل في البراري  . ربما  لأن شقتي الضيقة التي تقع في بناية قديمة خلف جامع بورقيبة ,  بشرفتها الخجولة ، ونوافذها شديدة القتامة ، والتي  تطل بحياء على شارعي" أبي العلاء المعري " من جهة البحر الذي لا يُرى ..   و " طارق بن زياد " حيث الفضاء المكتظ بجلبة الباعة المتجولين وحركة السوق وضجة العربات الموصولة بصخب لا يكف ، لم تعد لائقة بإيواء الموسيقى ، طالما العالم تحت النوافذ والشرفات الكالحة صاخبا إلى حد الجنون ، كذلك كان نقص المياه التي رغم شحّتها بدت أكثر ملوحة من مياه البحر المتوسط ،  ناهيك عن غياب الأمن وانتشار جرائم السرقة ، إذ بدا المكان مرتعا خصبا للمغتربين والعاطلين الذين يأتون من كل صوب وحدب .. ولمْ يعد الساكن آمنا على نفسه ولا سيما  في الليل . لهذا تضافرت كل المحرضات  لتكريس خيال بالغ الثراء في وضع معيشي شديد البؤس والفاقة . وبما أن تأثيث حلم صغير في  عالم متعسر  يتطلب مغامرة على مكابدة المستحيل .. بدأنا على نحو ما نفكر جديا أنا وزوجتي في إيجاد مخرج ينقذنا من براثن ذلك الجحيم اليومي الذي لا يطاق .قُلْ بأنني تدبرت بطريقة عجيبة ثمن قطعة أرض صغيرة بضاحية ريفية متاخمة لطرابلس .. بعد أن أستلفت من الأصدقاء والأقارب والمصارف وبعت مصاغ زوجتي .. وتحايلت على مصروفنا اليومي ، لنمر بفترة مضنية من الفاقة والتقشف والضنك وسؤ الحال. قُل بعد فترة قد غادرت الشقة إلى بيتنا  الريفي ، الصغير جدا .. والذي لا تتجاوز مساحته تسعين مترا مربعا .. بعد أن أكملت المرحلة الأولى من بنائه بأعجوبة تشبه حكايات الأساطير العتيقة .. بالطبع لم أتمكّن من تشطيب البيت بشكل نهائي ..  فقد اكتفيت بالهيكل العظمي  الذي استغرق بناؤه أكثر من ستة أشهر حتى تدبرت ثمن الطوب والأسمنت والحديد .. وستة أشهر أخرى من أجل الملاط (الملعقة) .. واقتضى الأمر أربع سنوات عجاف حتى نتمكن من تأمين تكلفة تبليط الأرضية وثمن  الأبواب والنوافذ . لذا وبحكم الضرورة سكنت أنا وأفراد أسرتي الصغيرة كيفما أتفق ، حيث اشتريت عشر دجاجات لتوفير البيض واللحم .. وزوجيّ حمام ، لاستعادة مرح  الطفولة الضائعة ، وربما طمعا في تكاثرها ، وبيع بعضها كلما ضاقت الأحوال وازدادت سوءا .  قُل أنني تمتعت بجيران طيبين ..و قُل أيضا بأنني في أول الأمر قد ابتهجت كثيرا بخلوتي المحلوم بها .. ولكن الفرحة لم تكتمل ..  فعادات الريف تقتضي أن أكون على صلة دائمة بجيراني ، الذين اكتشفت فيما بعد بأنني مطالب بتفقد وزيارة معظم سكان المنطقة الذين قدموا لمباركتي و التعرف عليّ كجار جديد ، ليمطرونني بأسئلة فضولية عن أصلي وفصلي ، وطبيعة عملي ونوع سيارتي ، وأصول عائلة صهري ، وعمل أشقائي وأعمامي وأخوالي . قل أنني كنت ملزما وبطريقة شبه يومية بتوقّع مفاجآت لا عديد لها ,, حيث تعيّن عليّ استقبال ضيوف لا اعرفهم .. وفي أوقات لا ضابط لها . فإذا ما شرعت في ترميم خن الدواجن أو برج الحمام ، أو إصلاح هوائي التلفاز ،  أو معالجة مضخة المياه .. فلن تمر بضع دقائق حتى يتقاطر عليّ الجيران بدعوى عرض المساعدة ..  وتقديم يد العون .. ضمن مقدمات مكررة من الديباجات التي صرت أحفظها عن ظهر قلب ، تنصب تحديداً على أدبيات الجيرة التي توصي بسابع جار.. وهكذا تبدأ  رحلة أكواب الشاي وفناجين القهوة ، وتجاذب أطراف الحديث حتى وقت متأخر من الليل . وقُل إنني جاملت وسايرت جيراني الطيبين جداً ، حسب مقتضى الحال . ولكن الطّامة تكمن في أنني لم أجد الوقت الكافي لكي أبادلهم الزيارات وحضور مناسباتهم   التي لا تنتهي أبدا ، ففلان تزوج وعلان تعرض لحادث سير ، وأبن الشيخ مخلوف ، سقط من سطح المنزل فتكسرت أضلاعه ، وزوجة جار جارنا الرابع والعشرين أجهضت وهي تطارد عجلا شاردا . وآخر قدم من الحج .. ناهيك عن المآتم والأعراس والطهور  ومشاكل المرور . قل يا سيدي بأن أهل البلدة قد  ازدروني وكرهوا سحنتي بعد أن تبيّن لهم بأنني كائن متقوقع ، غير مكترث بتقاليدهم.. واعتبروني مخلوقا متكبّرا أو غامضا أو متعجرفا وهلم جرا . قُلْ أن زوجتي المسكينة هي الأخرى – رغم عللها - وجدت نفسها محط أسئلة ماكرة تلقي عليها بالعتب  واللوم .. كذلك تعرض أطفالي إلى كثير من السخرية في المدرسة من طرف أقرانهم الذين ينقلون حرفيا ما يكرره  أهلهم  بشأن انزوائنا عن الناس . المشكلة إنني حاولت كثيرا في أول الأمر احترام تقاليد أهل الريف .. ولكن علاقتي الخاصة بالكتابة وما تتطلبه القراءة من خصوصية ،  حال بيني وبين الاستمرار في تفقد أخبار الجيران ومواصلة زيارتهم لاسيما في الأحداث والوقائع التي لا تنقطع مناسباتها . على أية حال اكتشفت أن حياة الريف لها تقاليدها الاجتماعية الصارمة ، التي لا تعترف بتقاليد الكتابة .وأنني قد فشلت تماما في إخضاع نفسي لمصالحة هكذا تقاليد  مملة ومضرة بالنسبة لي .. لأنها تأتي على حساب وقتي .. وتربك انشغالي بعملي .. وتشتت تفكيري . كذلك قد كان عليّ  أنا وأفراد أسرتي أن نتكبّد مشقّة المواصلات ، فبعد أن تآمرت علينا سيارتنا الخردة التي يبدو أنها قد وصلت الى سن هرمة ، لا تسمح لها بمواصلة الرحلة معنا ,, عندها عانيت الأمرين ، وارتبكت علاقتي بوظيفتي ، وبالمثل ارتبكت علاقة أبنائي بمدارسهم ،  حيث يتعذر في ذلك المكان أن تمر سيارات الأجرة أو أي صنف من وسائل نقل الركّاب .. وهكذا صرنا نفكر بعشرين طريقة في مسألة  جلب الخبز من الفرن فما بالك بالانتظام الوظيفي أو المدرسي . وإزاء هكذا أحوال متردية وسيئة ,, فقدنا راحة البال ، وساءت أحوالنا المعيشية و النفسية . قل يا سيدي أنني بعد لأي ، ومكابدة جديدة غادرنا الريف غير آسفين  بعد أن أمضينا  قرابة ثماني سنوات طوال من القساوة العجيبة . التي لم ننعم خلالها كما كنا نحلم بذلك الجو الرومانسي الجميل . نسيت أن أذكر بان دجاجاتي العشر قد ألتهمتها  كلاب  جيراني الطيبين .. وأن اللصوص قد اقتحموا بيتي الصغير وسرقوا التلفاز الوحيد الذي نملكه ، ومسجلة ( الفيديو )  . ويبدوا أن طمعهم قد تضاعف في مرات لاحقة فعاودوا الكرة مرارا وتكرارا . فكانت آخر مفقوداتي : اسطوانة غاز ، وإطار سيارة  وبضعة بطاطين جديدة إضافة إلى دراجة طفلي الهوائية . لذا بعت المنزل بأقل من ثمنه وعدت لائذا بالمدينة التي فقدتها .. باحثا عن الأنس والطمأنينة في ضجيجها الأكثر رحمة من قساوة ألريف الذي لا يشبه ريف الأحلام في شيء .    
      وكانت تلك حماقة بالغة  الطرافة والتطرف،  دفعنا  أنا وأفراد أسرتي الصغيرة ثمنا فادحا لخوض مغامرتها الطائشة. ألم اقل لكم بأنه  لا توجد  أحيانا مسافة فاصلة بين الأحلام والحماقات .
___ 

طرابلس شتاء 2002