وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الجمعة، 21 أغسطس 2015

الموت


مفتاح العمّاري

الموت ..



    كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها الموت و أنا ألقي آخر نظرة على جثمان جدّي . تبدي لي لحظتها أن الموت عبارة عن نوم أبدي حيث يرقد المرء بقوة متصالبا وصامتا، وأن هكذا طريقة شرسة للنوم لم تكن سوى فكرة غامضة .. أو هي لعبة ما ، يقترفها كبارُ السنّ لكي يختفوا فجأة عن أنظار العالم .  لكنني كنت أحب جدي كثيراً ، فصعب علي أن أغفر له هذه المزحة الثقيلة .. مما جعلني أبكي على نحو يضمر احتجاجاً عنيداً ، لا حزنا .. وكأنني أتّهمُ جميعَ أفراد عائلتي بالتواطؤ مع هكذا اختفاء  لا يطاق .
     صحيح ، أنني لم أعد أرى جدي بعد ذلك ، إلاّ أنني كنت موقنا بأنه مقيم في مكان ما من هذا العالم .. وأن ما يُشار إليه بهيئة قبر ما هو إلا جزء هزلي من فصول تمثيلية بليدة  .. وظللت إلى أمدٍ قريب أظن بأن جدي سيعود فجأة من رحلته الغريبة .. وفي الليل كنت أصيخ إلى ما يشبه صدى عكاز ، وسعال ، وتمتمة صلاة  ، توميء بوجود الكائن الذي لم أعد أناديه  . غير أن هذا الخيال ما لبث أن فتر مع مرور الأيام  .. لأقتنع على نحو ما ، بان الموت كائن يقيم قريبا من الأحياء الفقيرة .. ويتربص غالبا بالأشخاص الذين نحتاج إليهم .

    بعد ذلك بتسع سنوات جاء الدور على أبي . ومن نقل النبأ إلينا  كان يقيناً ، واثقاً بأن أبي لن يظهر من جديد فوق دراجته النارية التي كنا نترقّب هدير محركها من بعيد  .. لهذا ارتفع الصراخ والعويل والنديب . هذه المرة اختلفت نظرتي وأنا أرمق وجه الأب الميت . كان مسجيا في التابوت .. عرّوا وجهه لكي أراه . لحظتها أحسست بكتلة قاسية  من غبار كثيف تسدُّ مسارب صدري .. ولم أقو على البكاء كما يقتضيه الحزن على فراق أب ميت . منذ ذلك الحين أدركت بان الحياة هي لعبتنا ، وما الموت سوى وجهها الخفي . وهو - أي الموت - ليس مجرد حقيقة فجائية .. بل هو جوهر الحياة .. وبطريقة تنتمي لهبة الكشف ، صار في مقدوري أن أرى الموت يلمع بخيانة في العيون والأصوات والكلمات . حيث يمكنه وبكل وقاحة أن يقف أمامك بقامة  صديق وفيّ ، ويبتسم دون مواربة متحيّنا السانحة التي يتمكن فيها من توجيه طعنته الغادرة إلى ظهرك . لهذا كما يبدو في المشهد ، تقاطر الشعراءُ الندّابون والمتسولون من كل حدب وصوب ، وطفقوا يجلدون الحياة بالقصائد الداعرة . لأن الموت في مقدوره هو الآخر أن ينمو ويترعرع متشابكا مع نسيج الخيال المخادع .. هذا هو بيت القصيد .