وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 16 أغسطس 2015

جدران



                                                                                             مفتاح العمّاري


.. في برلين





        


      ها أنت في برلين تتطلع بلهفة إلى استعادة حواسك وتنشيط خيالك وصقل معرفتك بعالم مختلف ..تسعى في كل حركة أن توقظ نباهتك بلغة متفائلة ، تهبها نفسا مطمئنا ،كأن تحاول إيهام نفسك بأن معركتك مع جسدك هي فقط مسألة وقت .   ها أنت في برلين تفتتح علاقتك بعناوينها وذاكرتها من داخل غرفة صغيرة , وملاءات بيضاء وأنابيب وحقن وإصغاء شارد لما تمليه مشيئات الألم من  تواطآت مع العزلة ، لتختزل جغرافيتك في سرير معدني  تحيطه ستة جدران بالغة الصمت يكسوها طلاء مهذب  ، ستة جدران استعارت ألوانها من سماء  نظيفة  ،الجدار الأول بمثابة سقف يتدلى من سرته مصباح مشنوق  ، الجدار الثاني بهيئة أرض تحمل سريرا ومنضدة صغيرة ومقعدين خاليين على الدوام، الجدار الثالث يقع جنوبا خلف ترهات وسادتك  .الجدار الرابع يخفي الشمال مختالا بلوحة مائية مستنسخة  تصوّر امرأة ترتدي أجنحة وقبعة من ريش، الجدار الخامس وهو الشرقي الذي يتميز بوجود باب رصين يفتح لدخول الأطباء والممرضات وموزعي الطعام وحملة المكانس . أما الجدار الأخير ، وهو الغربي الأكثر ألفة ، لأنه يترك حيزا من وسطه لفراغ النافذة ، وهي الوحيدة هنا التي تتيح لك إقامة علاقة بصرية مع الخارج ،  نافذة شاسعة بالطابق الخامس عشر  تسمح برؤية  سماء الله ،وأيضا رؤية محطة قطارات عملاقة وكنيسة عتيقة ونهرا صغيرا وجسرا وطرقات إسفلتية وغابات شاسعة تنتهي بأفق ضبابي .. وشمس تتوارى  كل مساء خلف الهضاب البعيدة تاركة خلفها هياكل شاحبة ترسم لوحة من ظلام طازج . تتأمل  مسار القطارات القادمة والمغادرة ، وغالبا ما تستغرقك رحلة السحب وما توحي به تشكلاتها من افتراض ملامح عشوائية لحيوانات عملاقة . لا تعرف شيئا عن برلين ، سوى نتف ضنينة من سيرتها في الحرب الثانية ، وجدارها الذي تهدم ليتعانق الشطران من جديد .  تحزنك كثيرا مسألة جهلك باللغة الألمانية ، حيث يتعذر في الحد الأدنى التعبير عن الألم والتحدث مع الآخرين ،فتظل مشاعرك محض تكومات مهملة ومحبوسة، تتكدّس بين كل لحظة عجز وأخرى ، لتجعلك رهين عزلة مريرة وثقيلة لا تنتهي  .. أن تكون وسط أمكنة تكتظ بالأوجاع والحقن والممرضات ورائحة الأدوية،   من دون أن  تستطيع المشاركة في تبادل الحديث مع العالم الذي يحيط بك ، ستبدو عزلتك أكثر كثافة وحزنا حين تركن لخيال عليل يتربّى داخل ستة جدران تتضافر لصناعة غرفة صغيرة . لكن – وفي ذات الغرفة - يمكن  اعتبار هذه الحكاية أقل تعقيدا بفضل تلك الحواس السخية التي تهبها لغة النافذة .