وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأربعاء، 19 أغسطس 2015

ديك بوشكين



مفتاح العمّاري



ديك بوشكين




  في حكاية أخرى نجد عديد الإشارات الشبيهة بفكرة الفوضى ، في ما رواه الشاعر بوشكين  في إحدى خرافاته النادرة ، حيث تشي الوقائع بمأزق آخر للخوف . تقول الحكاية والعهدة على بوشكين : في قديم الزمان حدث أن الإمبراطور السامق ، حاكم إحدى الممالك النائية  لم يعد سامقا كما كان ، بل أمسى شيخا هرما، وفريسة سهلة  لبراثن الزمن الخائن ، الذي احدودب ظهره .. فكيف وهو المبجّل ذو المهابة والسمو ، والذي كان في ما مضى شديد البسالة والإقدام .. فارسا مقداما لا يشق له غبار ، يغدو عاجزا عن حماية مملكته المترامية الأطراف ، بعد أن بناها على دهر صاخب من الحروب الطاحنة ، والغزوات الساحقة . لعل هذه الحكاية تستقي حكمتها من ذاكرة الخوف ، حين تتفاقم آلة صُنّاعه إلى الحد الذي يغدو فيه الهلع  وسواسا ينمو من دون أن يقيم وزنا لمهابة الرجال العظماء حتى ولو كانوا أباطرة وملوكا ،  ، ربما لأن الشيخوخة غالبا ما تفرض منطقها الواهن الذي لا فكاك من ذلّه ومهانته .. وربما هي الرياح كما يقول المتنبي قد تأتي بما لا تشتهي السفن ، وربما أيضا هو قانون الغاب الذي يعطي الحجة للأقوى ، فها هي الكوارث تنذر بعواصف الخراب ، لتهبّ من كل حدب وصوب . فحين وجد حكام الممالك المجاورة في شيخوخة الإمبراطور  سانحة نادرة للانتقام من خصمهم اللدود ، أخذوا يهاجمونه دونما هوادة ، حتى اضطرب الإمبراطور وتصدعت دعائم عرشه ، ولم يعد لحظتها يعرف كيف يتهيأ لمواجهة أعدائه ، والدفاع من ثم عن مملكته التي أضحت نهبا للقراصنة ، وهدفا سهلا للغزاة الطامعين ، الذين تكالبوا على اغتصاب ثرواتها وتمزيق خرائطها  .  فلم تعد الحيلة تجدي نفعا ، لأن الإمبراطور الهرم ، ما يكاد يستنفر فيالق جيشه باتجاه الشمال ، حتى يباغته القراصنة من الجنوب . وعندما يتوقع الحرب على اليابسة ، يفاجئه الأعداء من البحر . وظل هكذا ردحا طويلا من الزمن الخؤون ، حتى تضاعفت الأهوال وتردت الأحوال في برهة غادرة لم تفلح معها توقعات المنجمين ووصايا الشيوخ ، وشعوذة السحرة . فدائما كان العدو يأتي خلافا لاحتمالات أهل الفلك ..  لكن الشاعر وحده حين مثل أمام الإمبراطور  قدم اقتراحا غريبا ، أثار سخرية الحاشية في المجلس الإمبراطوري ، فمن يعقل أن تعهد حراسة الإمبراطورية إلى مخلوق ضئيل  ، غير أن الإمبراطور وحده قد حدس شيئا ينمو في فكرة الشاعر ، واستأنس أن يعمل برأيه ، لأنه قد شعر بشيء خفي يلوح في الأفق ، وينقذه من خيبته ، ويعيد إليه بعض توازنه وهدوئه ، فقد تلخصت فكرة الشاعر في الاستعانة بموهبة الطائر ليكون بمثابة رادار في هيئة ديك معجزة ، لا يلزمه سوى أن يوضع فوق أعلى برج من أبراج المملكة  الشاسعة ليؤكد وبلمح البصر ،  وفق حدس لا يخطئ تحديد اللحظة ، والجهة التي سيقبل منها الخطر .  وعندها ليس حيال السادن الذي لا ينام إلا أن يترقّب دون كلل أو ملل صياح الديك الأعجوبة ، ويرصد الجهة التي ينظر إليها الديك .  لكننا، وبغض النظر عن الأخطاء المطبعية ونزاهة  حبرها الطيب المذاق ، يمكننا هنا ، ومن دون أية مواربة أن نتساءل : كم رادارا  قد يحتاجه الحكّام العرب لرصد جهات الخوف ، وقياس طقس الخيانة ، وتحديد مكامن العدو ، ومواقيت الغزو ، وحدس الأيدي التي تدبر الطعنات الغادرة ، ليس لحماية إمبراطورياتهم  الهشة ، وإنما للحفاظ على عروشهم  وقصورهم  وأرصدتهم المالية  المترامية الأطراف , فالخطر خلافا لوقائع هذه الحكاية ، قد يكمن أيضا في الداخل ، لأننا لا نعدم في غياب القط أن يتقمص أحد الفئران السمينة لعب دور القط ، كذلك يمكننا أن نتوقع الكثير من الانقلابات  لحظة أن يهرم  الأسد  ، ويمسي ضعيفا وبائسا، إلى الحد الذي لن يكون في مقدوره أن يكون ملكا مهابا يفرض سلطانه على كائنات  الغابة ، التي قد تتطاول أصغر مخلوقاتها ، وأكثرها ضآلة في الانقلاب عليه . هكذا .. لن يكون الكبير كبيرا . وأن لا أحد سيكون آمنا ، حين ينحصر مفهوم القوة  في استخدام العنف .