مفتاح العمّاري
ديك بوشكين
في
حكاية أخرى نجد عديد الإشارات الشبيهة بفكرة الفوضى ، في ما رواه الشاعر بوشكين في إحدى خرافاته النادرة ، حيث تشي الوقائع
بمأزق آخر للخوف . تقول الحكاية والعهدة على بوشكين : في قديم الزمان حدث أن
الإمبراطور السامق ، حاكم إحدى الممالك النائية
لم يعد سامقا كما كان ، بل أمسى شيخا هرما، وفريسة سهلة لبراثن الزمن الخائن ، الذي احدودب ظهره ..
فكيف وهو المبجّل ذو المهابة والسمو ، والذي كان في ما
مضى شديد البسالة والإقدام .. فارسا مقداما لا يشق له غبار ، يغدو عاجزا عن حماية
مملكته المترامية الأطراف ، بعد أن بناها على دهر صاخب من الحروب الطاحنة ،
والغزوات الساحقة . لعل هذه الحكاية تستقي حكمتها من ذاكرة الخوف ، حين تتفاقم آلة
صُنّاعه إلى الحد الذي يغدو فيه الهلع
وسواسا ينمو من دون أن يقيم وزنا لمهابة الرجال العظماء حتى ولو كانوا
أباطرة وملوكا ، ، ربما لأن الشيخوخة
غالبا ما تفرض منطقها الواهن الذي لا فكاك من ذلّه ومهانته .. وربما هي الرياح كما
يقول المتنبي قد تأتي بما لا تشتهي السفن ، وربما أيضا هو قانون الغاب الذي يعطي
الحجة للأقوى ، فها هي الكوارث تنذر بعواصف الخراب ، لتهبّ من كل حدب وصوب . فحين
وجد حكام الممالك المجاورة في شيخوخة الإمبراطور
سانحة نادرة للانتقام من خصمهم اللدود ، أخذوا يهاجمونه دونما هوادة ، حتى
اضطرب الإمبراطور وتصدعت دعائم عرشه ، ولم يعد لحظتها يعرف كيف يتهيأ لمواجهة
أعدائه ، والدفاع من ثم عن مملكته التي أضحت نهبا للقراصنة ، وهدفا سهلا للغزاة الطامعين
، الذين تكالبوا على اغتصاب ثرواتها وتمزيق خرائطها . فلم
تعد الحيلة تجدي نفعا ، لأن الإمبراطور الهرم ، ما
يكاد يستنفر فيالق جيشه باتجاه الشمال ، حتى يباغته القراصنة من الجنوب . وعندما
يتوقع الحرب على اليابسة ، يفاجئه الأعداء من البحر . وظل هكذا ردحا طويلا من
الزمن الخؤون ، حتى تضاعفت الأهوال وتردت الأحوال في برهة غادرة لم تفلح معها
توقعات المنجمين ووصايا الشيوخ ، وشعوذة السحرة . فدائما كان العدو يأتي خلافا
لاحتمالات أهل الفلك .. لكن الشاعر وحده
حين مثل أمام الإمبراطور قدم اقتراحا
غريبا ، أثار سخرية الحاشية في المجلس الإمبراطوري ، فمن يعقل أن تعهد حراسة الإمبراطورية
إلى مخلوق ضئيل ، غير أن الإمبراطور وحده
قد حدس شيئا ينمو في فكرة الشاعر ، واستأنس أن يعمل برأيه ، لأنه قد شعر بشيء خفي
يلوح في الأفق ، وينقذه من خيبته ، ويعيد إليه بعض توازنه وهدوئه ، فقد تلخصت فكرة
الشاعر في الاستعانة بموهبة الطائر ليكون بمثابة رادار في هيئة ديك معجزة ، لا
يلزمه سوى أن يوضع فوق أعلى برج من أبراج المملكة
الشاسعة ليؤكد وبلمح البصر ، وفق حدس لا يخطئ تحديد اللحظة ، والجهة التي
سيقبل منها الخطر . وعندها ليس حيال
السادن الذي لا ينام إلا أن يترقّب دون كلل أو ملل صياح الديك الأعجوبة ، ويرصد الجهة
التي ينظر إليها الديك . لكننا، وبغض
النظر عن الأخطاء المطبعية ونزاهة حبرها
الطيب المذاق ، يمكننا هنا ، ومن دون أية مواربة أن نتساءل : كم رادارا قد يحتاجه الحكّام العرب لرصد جهات الخوف ، وقياس
طقس الخيانة ، وتحديد مكامن العدو ، ومواقيت الغزو ، وحدس الأيدي التي تدبر
الطعنات الغادرة ، ليس لحماية إمبراطورياتهم
الهشة ، وإنما للحفاظ على عروشهم
وقصورهم وأرصدتهم المالية المترامية الأطراف , فالخطر خلافا لوقائع هذه
الحكاية ، قد يكمن أيضا في الداخل ، لأننا لا نعدم في غياب القط أن يتقمص أحد الفئران
السمينة لعب دور القط ، كذلك يمكننا أن نتوقع الكثير من الانقلابات لحظة أن يهرم
الأسد ، ويمسي ضعيفا وبائسا، إلى
الحد الذي لن يكون في مقدوره أن يكون ملكا مهابا يفرض سلطانه على كائنات الغابة ، التي قد تتطاول أصغر مخلوقاتها ، وأكثرها
ضآلة في الانقلاب عليه . هكذا .. لن يكون الكبير كبيرا . وأن لا أحد سيكون آمنا ،
حين ينحصر مفهوم القوة في استخدام العنف .