مفتاح
العمّاري
الفئران تعقد مجلسا ..
تقول الحكاية: أن الفئران عبر تاريخها الطويل ظلّت رهينة قلق
مزمن وخوف غامض ، لا خاتمة لمطافه ، مما
جعلها تقف مكتوفة الأيدي ، إزاء تلك المعضلة ، والتي كما يبدو ستؤرقها إلى أبد
الآبدين . هذا ما سنعرفه عبر هذه الحكاية
التي ندين بجزء من نسيج قماشة فصولها الدموية
لعبقرية الشاعر الفرنسي لافونتين ، الذي صاغها بنكهة فرنسية بالغة الطرافة ، تختلف
بالطبيعة عن مذاق توابل المعلم الهندي بيدبا .. ذلك لآن الفئران التعيسة في خرافات
لافونتين لم تجد مخرجا يخلصها من قدر الهلاك المتربّص بها ليل نهار، وقد انبرى القط
المتوحّش في تصعيد وتيرة اعتداءاته الغاشمة من دون أن يترك للمخلوقات الضعيفة أية
سانحة للهناءة وراحة البال ، لأنها بدأت فقط تنتظر مصيرها الغامض الذي يأتي بهيئة
غارات مباغتة وكمائن بالغة الغش والتحايل ، ولم تجد أيما حل يمكنه أن يخلصها من
هذا الرعب اليومي ، لذا قرر حكماء الفئران عقد الاجتماعات الطارئة التي ما انفكت
تنتظم مجالسها المرتبكة بين مجزرة وأخرى
قصد إيجاد سبل تضمن في حدها الأدنى إمكانية استشعار الخطر قبل وقوعه بلحظات تكفي
لأن تختبئ الفئران السيئة الحظ في جحورها . هكذا وبعد مداولات ومشاورات توصلت عبقرية
حكماء الفئران إلى اقتراح تعليق جرس في رقبة القط ، حتى تتمكن من سماعه إذا ما قصد
مهاجمتها . وكانت هذه الفكرة محل احتفاء من أمة الفئران ، التي اعتقدت بأنها قد
قبضت أخيرا على بيت القصيد ، وعثرت على الحل الذي يقيها من براثن القط المتوحش ,,
لكن الفرحة لم تدم طويلا ، لأنه ما من أحد كان في مكنته الاقتراب من القط ، وتعذر إيجاد
الفأر الشجاع الذي يتكفل بتنفيذ هذه المهمة الخطرة ، وكان السؤال الذي يتردد طيلة
الوقت هو : من يجرؤ على تعليق الجرس في رقبة القط ؟ هذا هو اللغز المحير ، وقد
تسلط بعنجهية متغطرسة ، ما فتئت تقض مضجع سلالة هذه الكائنات غير الكريمة ، طالما وجدت نفسها رغما عن أنفها وأنف أبيها
ترزح تحت ثقل خوف أسطوري لا فكاك منه ، بعد أن عدمت أرحامها إيجاد المنقذ الذي في مكنته وحده تعليق الجرس . ومنذ ذلك
الحين الذي عجز جميع مؤرخي الخوف عن تحديد إشارة واحدة تدل عليه ، انشغلت امة
الفئران بعقد المجالس والاجتماعات العادية والطارئة ، للحكماء والخبراء ، وكبار رجالات السياسة وجنرالات الجيش
،ودهاقنة ومدراء المال ، ولكن بقدر ما
كانت الاجتماعات تتراكم كان القتل هو الآخر يترك على الضفاف النازفة أشلاء ممزقة
بوضوح شديد اللمعان بين جهات الخراب ، وما من احد يجرؤ على تعليق الجرس . لهذا اقتضت هذه الحكاية في طبعتها المعاصرة ، إضافة
عديد النكهات الجديدة لتكون أكثر انسجاما مع روح العالم الجديد ، وتفانين القتل
التي تتسع لإيواء دلالات أخرى أعنف أثرا ، وأشد هولا وغرابة ، لأن ضرورة تعليق
الجرس لا تضمر هنا أية مواجهة غير متكافئة بين خصمين ، أو بالأحرى بين المجرم
والضحية . بل تكتفي بالتوقف عند هذا المأزق الحرج : أن أقصى غاية هنا للمغلوب
تتلخص في مطلب تعليق الجرس ،بمثابة صفارة إنذار في مكنتها أتاحت سانحة قصيرة جدا للاختباء ، قد تهبه فرصة أخيرة
، لأن يلوذ بأقرب حفرة ، وهو مطلب مشروع ، وحق طبيعي ، لا يحتاج إلى قرار معتمد من
عصابة الأمم .. لكن من سيجرؤ على تعليق الجرس ؟
_________
طرابلس
صيف 2006