مفتاح العمّاري
_________________________ تأويل
حين أدرك رجل عليل أن هشاشة جسده أمست
تعوق حركته وتخلخل علاقته بالعالم ، لامس اليقين الذي لا يتزعزع بأنه لا غضاضة
البتة من الاعتراف بقوة الهشاشة ، وأن طبيعة الجسد بما تنطوي عليه من عناصر
ومركبات وأوردة وشرايين وأعصاب وأنسجة وخلايا قابلة للتهتك والتلف ،لا تقل بطبيعتها
الظاهرة والخفية تعقيدا وغموضا عن الروح التي بأمر ربي . لهذا عندما فقد الرجل العليل القدرة على مغادرة
الفراش اقترح على نفسه استدراج العالم إلى سريره .. وأنه في مكنته ببضع كلمات نشيطة بث الحياة
في عالمه المتهالك وضخه بتلك
الطاقة التي لا تنضب . وهكذا بدأ في استدراج حشد من الكلمات التي في وسعها إيواء وتأثيث
خرائط بديلة ، عوضا عن عالمه الضائع ، فلم تكن مشيئة عزلته سوى قدر لا فكاك منه ، لذا نسف جدرانها وأصبح من ثم يتفنن في تكوين مخلوقاته ، مستحضرا ما يشبه
طبيعة بكرا لم تُمسّ ، حيث قاده الشغف
الكامن أن يطلق نفسه عبر شساعة فضائها المطلق ، لكأنه (حي بن يقضان) في جزيرته
النائية ، محاولا اكتشاف الأسماء الأولى ، وابتكار الأشياء المجهولة . لكنه ما لبث
بعد حين أن عدل عن سذاجة فكرة عالمه الوحشي، الذي يقتضي بالضرورة صيد الطرائد وسكن
الكهوف ،واكتشاف النار ، مستأنسا بأن تكون
مخلوقاته أكثر قربا وألفة ودفئا، لذا ترك العنان للكلمات وحدها بأن تقترح الأشكال
التي تروق لها. ليجد نفسه بعد قليل إزاء هيئة امرأة ذات
جمال لا يضاهى ، لم تدخر بلاغة المعاني جهدا في تهذيب صفاتها ، متجاوزة كل ما خطته
عبقرية البشر من قصائد ورسوم تسمو بالروح وتمجد بهاء الجسد .. من دون أن تغفل التفنن
في تكوين الفضاء الذي يليق بهكذا كائن من فصيلة الملائكة . في الصباح التالي قرأت الزوجة الغيورة ما ارتكبته نزوة الرجل المريض من جرم لا يغتفر ،
فمزقت المرأة المحلوم بها ، وقلبت المنزل رأسا على عقب ، وأقامت الدنيا ولم تقعدها
، من دون أن تترك للعليل أيما فرصة لتبرير موقفه الواهن الذي سمح لخياله النزق بأن
يحتفي بامرأة أخرى لا تشبهها في شيء . يقال والعهدة على الراوي أن الرجل العليل قد
توقف تماما عن جريرة الكتابة على الورق ، وافترض عوضا عنها الكتابة على الأثير ، حيث
تكفلت الريح وحدها بأن تحمل كائناته الجميلة إلى جهات قصية لا تطالها يد العبث .
____
طرابلس ربيع
2009