مفتاح العمّاري
كانت تمطر
..
كلّما تجاوزت كسلي فكّرت في الخبز طرياً
طازجاً، خرجَ لتوه ساخناً من جوف الفرن . لهذا استمرأت أحيانا وبشيءٍ من الاحتفاء الخروج
إلى الشارع ، والذهاب سيراً على الأقدام إلى الفرن الواقع خلف طريق السور قبالة مدرسة علي النجار . وكالعادة ، في طريقي
سأتخلّص من القمامة . شطفت وجهي بالماء البارد ، واستبدلت ملابسي ، وتعطّرت كما
يليق بسوانح خروجي المتقطعة لجلب الخبز والخضار . هبطت درج العمارة المتّسخ : غبار
وأعقاب سجائر وأكياس سيلوفان فارغة . حين ولجت الشارع كانت السماء ملبّدة بغيوم تُنذر بمطرٍ وشيك ، فيما بدت واجهات العمارات
بألوانها الترابية كالحة ومتجهمة ، تُوحي جدرانها الصامتة بالكآبة والضجر . عرّجت
ناحية الساحة الأسمنتية التي تحّولت من ملعب لكرة القدم إلى موقف للسيارات . كان
ثمة شاب يرتب كراس وطاولات بفيراندا كافيتيريا فُتحت حديثا ، تطلّ على الساحة التي
لا اسم لها . رميتُ القمامةَ عند حافة
الرصيف . كانت الساعة الخامسة مساء بتوقيت طرابلس الغرب في نهاية ربيع خائب . وأنا أعبرُ كعادتي وحيداً بمحاذاة سور حديقة بورتا بينيتو ،
أو الحرية كما تُكتب في الخرائط والعناوين
الرسمية ، والتي كانت قبل ثلاثة عقود سجن
الحصان الأسود ، متحاشيا النظر طويلا إلى شبّان الناصية ، عند زاوية الحديقة
المهملة ، والذين كأنهم وُلدوا فقط لتعاطي الحشيش والفراغ والثرثرة في تفاصيل
الموضة وكرة القدم والنساء. بالطبع لن
يعيروني انتباها ، فلطالما رأوني أحمل في مشية مسالمة أرغفة وخضارا . في قرارة
نفسي كنت أشفق عليهم ، كما لو أن سحناتهم الذاوية تذكّرني بنفاية الحياة وبؤس أوقاتها ، أو أن النظر في
عيونهم التائهة ، يحيلني إلى صحراء لا تطاق ، عندما كنت محاربا مهملا ، حيث الجرحى
لا يُعبأ بأمرهم ، يُنزفون في الخلاء إلى أن تجفّ أصواتهم ، وهم يتضورون ألما حتى الموت ، ليظلوا أخيرا بلا حراك
في العراء القاسي . ثمة شيء فيهم - أعني
شبان بورتا بينيتو - ينتسب لبقايا تلك
الأشلاء التي ربما نجا بعضها من الهلاك بفعل الحظ وحده ، وهنا ألمّح إلى رفاقي
القدامي في الكتيبة 23 مشاة ، أولئك الجنود الذين أخذوا معهم وجوههم وأحذيتهم وأسماءهم ، وحكاياتهم التي لم يعد يتذكّرها أحد . اشتريتُ
بربع دينار عشر بانينات . وحين خرجت من الفرن كانت تمطر في باب بن غشير .احتميت
بالجدران ومظلات المحلات ،ولمّا تضاعف عنف زخّات المطر ، اندسست لائذا بجوف محطة
حافلات قديمة . رُكنت بجانبها أربع حاويات قمامة فائضة وعفنة . غمرتني رائحة
الأرغفة الساخنة ممزوجة بعطن النفايات والتراب وعادم السيارات المسرعة . انطويت هناك قرابة العشر دقائق ، أشعلت خلالها
سيجارة وفكّرت في سلطانة ، والتي لست أدري كيف استيقظ طيفُها الرحيمُ بعد غياب
أربعين عاما . فماذا عساه يكون شكلها الآن ، أتذكرها وهي لمّا تزل صبية حالمة وزوجة حزينة . أتنشّق عطرها وأنفاسها
الحارة كما لو أننا تحت غطاء واحد . لعل
المطر من أوحى لي باستعادة الأيام تلك .
فذات صباح عندما تهيأت للذهاب إلى المدرسة ، كانت تمطر في سيدي عبد الجليل . لم
تشأ سلطانة أن تدعني أذهب إلى المدرسة بمفردي ، فرافقتني . صنعت لي واقيا مطريا من
جوال خيش سميك ، طوت نصف طوله داخل جوفه ، ووضعته على رأسي على هيئة برنوس ، ليقيني من مغبّة البلل ، وعلى الرغم من ذلك ما
فتئت طوال الطريق تضمّني إلى جنبها ونحن
سائرين لكأنها تحيل بيني وبين المطر ، قاطعين الدروب الموحلة والبرك باتجاه مدرسة
الحميضة . ولم تتركني حتى أودعتني داخل رواق المدرسة المغطّى . سألني يومها أستاذ
مادة الدين : أهذه أختك ، فأومات برأسي مجيبا ، إنها أختي . أجل كانت سلطانة أختي
وأمي وحبيبتي في تلك الأيام التي ضاعت فلم يبق منها الآن أيما أثر لحيّ سيدي عبد
الجليل ، بعد أن تصالبت على أنقاضه طبقات من البنايات العالية واصطفت الشوارع الضاجة
بعابريها ودكاكينها وأحقادها .واختفت الطيور والأكواخ وأشجار النخيل ومواكب الحضرة في عيد المولد
النبوي ، وعربات السفنز ، وحبيبتي . ظلّت تمطر دونما هوادة . تحررتُ من خوفي مغادرا
المحطة بعفونتها . وأنا أقول في نفسي : إنها تمطر ، كما كانت تمطر في سيدي عبد
الجليل . عرّجت في طريقي على بقالة الخَضّار . اشتريتُ جزراً وبصلاً وربطةَ حبق . أقول
لنفسي أيضا : المشية الرحيمة ، تعودُ بك رغم البلل سالماً إلى جنّة البيت ، لأن الرصاص
هو الآخر منذ ثلاث سنوات لا يهدأ في باب
بن غشير ، حتى أننا لم نعد نوليه أدنى التفاتة ، وان كنّا نخشى طيش بنادقه ونزق
مريديه . عبرتُ بمحاذاة سياج الحديقة مرة أخرى وقد شعرت بالإعياء . صار المشي
سريعا مصدر تعب ، فتمهّلت وقد غمرتني بهجة تحنانة زوّدتني بطاقة نشيطة . كنت قبل ست سنوات مشاءً لا يكل ، أضرب أحياء طرابلس
حياً تلو الآخر دونما تعب ، من باب بن غشير إلى سوق الجمعة ، مرورا برأس حسن ،
والهاني ، ثم أقفل عائدا إلى ميدان الجزائر عبر طريق الشط . حيث يطيب لي تناول فنجان
اسبريسو، في مقهى الأورورا ،والتأمل بضع الوقت في مهابة الكنيسة العملاقة التي غدت
جامعا . هناك كنّا أحيانا نلتقي أنا وصديقي الفنان التشكيلي قبل رحيله
لاجئا إلى هولندا . لكن ها أنّ تنفسي يضيق ، وقواي ما تلبث أن تَهِن وتخُور ، وتكلّ قدماي
لمجرد قطع مسافة قصيرة لا تتعدى خمسمائة متر من سكني إلى الفرن . هذا بعض ما خلّفه
السرطان الذي عانيت الأمرّين من استبداده بجسدي خلال الأعوام الستة الأخيرة . فمنذ
أن اعتلالي وأنا أفتقد حيوية المشي راجلا . قطعت الطريق باتجاه زنقة مطعم الدحي ،
وحين غزت أنفاسي روائحُ البيض المقلي ، فكّرت بأنني ما أن ألج شقتي حتى أعدّ لنفسي
ساندويشا بالبيض والجبن .في الأثناء
استوقفني صوت المرأة المتسوّلة التي كانت تحتمي بمظلّة البناية المقابلة للمطعم .
ناولتها ما تيسر من نقود المعدن ، واستأنفت سيري إلى مدخل العمارة ، وما أن دخلت شقتي ، حتى غيرت ثيابي المبللة ، مرتديا
بيجامة نوم ، ومن ثم باشرت في أعداد وجبتي
كما أشتهيت ، بيضا مخفوقا بالجبن قُلي على نار هادئة . وحمدت الرزّاق الذي لم
يخلقني متسوّلا ، وأن مرضي لم يحل بيني وبين الكتابة المتقطعة للصحف . ومن ريع هذا
المنتوج المتواضع أتدبّر طعامي وأدويتي
وسجائري ، وأشتري صحفا وكُتُبَاً بين الحين والآخر . فيما كنت أتناول وجبتي ، كان
صوت المتسولة يتناهى إليّ عبر نافذة غرفتي المطلة على زنقة مطعم الدحي . تذكّرت جدّتي ، وأمي ، وفطوم ، وجود ، ورحمة ، وكل
النساء الطيبات ، وقلت في نفسي : لعل سلطانة لم تكن غير حلم ضائع .
_____________
باب بن غشير . السبت 5 ابريل 2014