وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

السبت، 15 أغسطس 2015

حديقة بورتا بينيتو

مفتاح العمّاري



كانت تمطر ..






         كلّما تجاوزت كسلي فكّرت في الخبز طرياً طازجاً، خرجَ لتوه ساخناً من جوف الفرن . لهذا استمرأت أحيانا وبشيءٍ من الاحتفاء الخروج إلى الشارع ، والذهاب سيراً على الأقدام إلى الفرن الواقع خلف طريق السور  قبالة مدرسة علي النجار . وكالعادة ، في طريقي سأتخلّص من القمامة . شطفت وجهي بالماء البارد ، واستبدلت ملابسي ، وتعطّرت كما يليق بسوانح خروجي المتقطعة لجلب الخبز والخضار . هبطت درج العمارة المتّسخ : غبار وأعقاب سجائر وأكياس سيلوفان فارغة . حين ولجت الشارع كانت السماء ملبّدة بغيوم  تُنذر بمطرٍ وشيك ، فيما بدت واجهات العمارات بألوانها الترابية كالحة ومتجهمة ، تُوحي جدرانها الصامتة بالكآبة والضجر . عرّجت ناحية الساحة الأسمنتية التي تحّولت من ملعب لكرة القدم إلى موقف للسيارات . كان ثمة شاب يرتب كراس وطاولات بفيراندا كافيتيريا فُتحت حديثا ، تطلّ على الساحة التي لا اسم لها .  رميتُ القمامةَ عند حافة الرصيف . كانت الساعة الخامسة مساء بتوقيت طرابلس الغرب في نهاية ربيع خائب  . وأنا أعبرُ  كعادتي وحيداً بمحاذاة سور حديقة بورتا بينيتو ، أو  الحرية كما تُكتب في الخرائط والعناوين الرسمية ، والتي كانت قبل ثلاثة عقود  سجن الحصان الأسود ، متحاشيا النظر طويلا إلى شبّان الناصية ، عند زاوية الحديقة المهملة ، والذين كأنهم وُلدوا فقط لتعاطي الحشيش والفراغ والثرثرة في تفاصيل الموضة وكرة القدم والنساء. بالطبع  لن يعيروني انتباها ، فلطالما رأوني أحمل في مشية مسالمة أرغفة وخضارا . في قرارة نفسي كنت أشفق عليهم ، كما لو أن سحناتهم الذاوية تذكّرني  بنفاية الحياة وبؤس أوقاتها ، أو أن النظر في عيونهم التائهة ، يحيلني إلى صحراء لا تطاق ، عندما كنت محاربا مهملا ، حيث الجرحى لا يُعبأ بأمرهم ، يُنزفون في الخلاء إلى أن تجفّ أصواتهم ، وهم  يتضورون ألما حتى الموت ، ليظلوا أخيرا بلا حراك  في العراء القاسي . ثمة شيء فيهم - أعني شبان بورتا بينيتو  - ينتسب لبقايا تلك الأشلاء التي ربما نجا بعضها من الهلاك بفعل الحظ وحده ، وهنا ألمّح إلى رفاقي القدامي في الكتيبة 23 مشاة ، أولئك الجنود الذين أخذوا معهم وجوههم وأحذيتهم وأسماءهم  ، وحكاياتهم التي لم يعد يتذكّرها أحد . اشتريتُ بربع دينار عشر بانينات . وحين خرجت من الفرن كانت تمطر في باب بن غشير .احتميت بالجدران ومظلات المحلات ،ولمّا تضاعف عنف زخّات المطر ، اندسست لائذا بجوف محطة حافلات قديمة . رُكنت بجانبها أربع حاويات قمامة فائضة وعفنة . غمرتني رائحة الأرغفة الساخنة ممزوجة بعطن النفايات والتراب وعادم السيارات المسرعة .  انطويت هناك قرابة العشر دقائق ، أشعلت خلالها سيجارة وفكّرت في سلطانة ، والتي  لست أدري كيف استيقظ طيفُها الرحيمُ بعد غياب أربعين عاما . فماذا عساه يكون شكلها الآن ، أتذكرها وهي لمّا تزل  صبية حالمة وزوجة حزينة . أتنشّق عطرها وأنفاسها الحارة كما لو أننا تحت غطاء واحد  . لعل المطر  من أوحى لي باستعادة الأيام تلك . فذات صباح عندما تهيأت للذهاب إلى المدرسة ، كانت تمطر في سيدي عبد الجليل . لم تشأ سلطانة أن تدعني أذهب إلى المدرسة بمفردي ، فرافقتني . صنعت لي واقيا مطريا من جوال خيش سميك ، طوت نصف طوله داخل جوفه ، ووضعته على رأسي  على هيئة برنوس ،  ليقيني من مغبّة البلل ، وعلى الرغم من ذلك ما فتئت  طوال الطريق تضمّني إلى جنبها ونحن سائرين لكأنها تحيل بيني وبين المطر ، قاطعين الدروب الموحلة والبرك باتجاه مدرسة الحميضة . ولم تتركني حتى أودعتني داخل رواق المدرسة المغطّى . سألني يومها أستاذ مادة الدين : أهذه أختك ، فأومات برأسي مجيبا ، إنها أختي . أجل كانت سلطانة أختي وأمي وحبيبتي في تلك الأيام التي ضاعت فلم يبق منها الآن أيما أثر لحيّ سيدي عبد الجليل ، بعد أن تصالبت على أنقاضه طبقات من البنايات العالية واصطفت الشوارع الضاجة بعابريها ودكاكينها وأحقادها .واختفت الطيور والأكواخ  وأشجار النخيل ومواكب الحضرة في عيد المولد النبوي ، وعربات السفنز ، وحبيبتي . ظلّت تمطر دونما هوادة . تحررتُ من خوفي مغادرا المحطة بعفونتها . وأنا أقول في نفسي : إنها تمطر ، كما كانت تمطر في سيدي عبد الجليل . عرّجت في طريقي  على بقالة الخَضّار  . اشتريتُ جزراً وبصلاً وربطةَ حبق . أقول لنفسي أيضا : المشية الرحيمة ، تعودُ بك  رغم البلل سالماً إلى جنّة البيت ، لأن الرصاص هو الآخر  منذ ثلاث سنوات لا يهدأ في باب بن غشير ، حتى أننا لم نعد نوليه أدنى التفاتة ، وان كنّا نخشى طيش بنادقه ونزق مريديه . عبرتُ بمحاذاة سياج الحديقة مرة أخرى وقد شعرت بالإعياء . صار المشي سريعا مصدر تعب ، فتمهّلت وقد غمرتني بهجة تحنانة زوّدتني بطاقة نشيطة . كنت  قبل ست سنوات مشاءً لا يكل ، أضرب أحياء طرابلس حياً تلو الآخر دونما تعب ، من باب بن غشير إلى سوق الجمعة ، مرورا برأس حسن ، والهاني ، ثم أقفل عائدا إلى ميدان الجزائر عبر طريق الشط . حيث يطيب لي تناول فنجان اسبريسو، في مقهى الأورورا ،والتأمل بضع الوقت في مهابة الكنيسة العملاقة التي غدت جامعا . هناك كنّا أحيانا نلتقي أنا وصديقي الفنان التشكيلي  قبل رحيله  لاجئا إلى هولندا . لكن ها أنّ تنفسي يضيق ،  وقواي ما تلبث أن تَهِن وتخُور ، وتكلّ قدماي لمجرد قطع مسافة قصيرة لا تتعدى خمسمائة متر من سكني إلى الفرن . هذا بعض ما خلّفه السرطان الذي عانيت الأمرّين من استبداده بجسدي خلال الأعوام الستة الأخيرة . فمنذ أن اعتلالي وأنا أفتقد حيوية المشي راجلا . قطعت الطريق باتجاه زنقة مطعم الدحي ، وحين غزت أنفاسي روائحُ البيض المقلي ، فكّرت بأنني ما أن ألج شقتي حتى أعدّ لنفسي ساندويشا بالبيض والجبن  .في الأثناء استوقفني صوت المرأة المتسوّلة التي كانت تحتمي بمظلّة البناية المقابلة للمطعم . ناولتها ما تيسر من نقود المعدن ، واستأنفت سيري إلى مدخل العمارة ، وما  أن دخلت شقتي ، حتى غيرت ثيابي المبللة ، مرتديا بيجامة نوم ، ومن ثم  باشرت في أعداد وجبتي كما أشتهيت ، بيضا مخفوقا بالجبن قُلي على نار هادئة . وحمدت الرزّاق الذي لم يخلقني متسوّلا ، وأن مرضي لم يحل بيني وبين الكتابة المتقطعة للصحف . ومن ريع هذا المنتوج  المتواضع أتدبّر طعامي وأدويتي وسجائري ، وأشتري صحفا وكُتُبَاً بين الحين والآخر . فيما كنت أتناول وجبتي ، كان صوت المتسولة يتناهى إليّ عبر نافذة غرفتي المطلة على  زنقة مطعم الدحي . تذكّرت  جدّتي ، وأمي ، وفطوم ، وجود ، ورحمة ، وكل النساء الطيبات ، وقلت في نفسي : لعل سلطانة لم تكن غير حلم ضائع .   
_____________  
باب بن غشير . السبت 5 ابريل 2014