مفتاح العمّاري
أسطورة بيرجس
![]() |
انتوني بيرجس |
(أنتوني بيرجس) كاتبٌ وروائيٌ انجليزي ولد في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين،
من أشهر مؤلفاته : رواية ( البرتقالة
الآلية )، التي تحوّلت إلى شريط سينمائي في سبعينيات القرن الماضي ، برؤية
المخرج ( ستانلي كوبريك ).. لكن ليس هذا
بيت القصيد، فأنتوني بيرجس قبل أن يكون روائياً ،كان شغوفاً بالموسيقى، ثم ما لبثَ
أن صارَ كاتباً بعد الأربعين،تحت وطأة الألم، عندما أيقنَ أن الموتَ يتربّصُ به .
هكذا اخبره الأطباءُ بأن أقصى فترة سيعيشها لا تتجاوز سنة واحدة على أقصى تقدير ،
اذ شخّصوا لديه ورماً سرطانياً في الدماغ.
كان بيرجس وقتها في ماليزيا ،معجباً بالإسلام إلى حدّ
الوله الصوفيّ ، وقد أعلنَ في خطفة إيمان نورانيّ عن نيته باعتناق الدين الإسلامي .
أطلقَ عليه الماليزيون اسم ( يحي بن
عبدالله ) ، لكن صدمة المرض أرغمته أن يرحل عاجلا إلى انجلترا ، متخلّيا عن إشهار
إسلامه ، حيث لم يبق من همٍّ يُشْغِله سوى مواجهة الموت، مُقتَرحاً في أول الأمر
اللجوء إلى تأليف الموسيقى ، لعلّه يكسب
شيئاً من المال يتركه لأسرته الصغيرة ، ولاسيما أن أجله قد أمسى وشيكا.. لكنه بعد
لأي خائب ، قد أيقنَ بأن الموسيقى أكثر تعذّرا من أن تستجيب لإمكانياته المتواضعة
،مستدركا رداءة موسيقاه التي لن تصل به إلى إيقاظ ( بيتهوفن ) بمخيلة كمنجات انجليزية، لذا جرّب لعبة السرد
،من دون أن يُهملَ حُلُمَ المُوسِيقِيّ. لأنه في قرارة نفسه كان على يقين بأنه
سيبرع في هذا الصنف من الكتابة بعد أن استبدّ به هوسٌ عنيفٌ ،في أن يوائم بين
الموسيقى والسرد، حيث ظلّ هاجسهُ الأهمّ ، تكريس ما تبقى له من وقت لانجاز مشاريع
روائية تتميزُ بقدرتها على الحدس والتوقّع ،مقتفيا رؤى مواطنه (جورج أرويل ) . وهكذا
برع أنتوني بيرجس في كتابة الرواية . والمسألة هنا ليست محض لعبةِ حظ ، لأن الرجل
قد انغمر بكل حواسه وطاقته ومشاعره ومعرفته وخبراته وطموحه وخوفه، في تجريب أسلوب
سردي يتّسم بخصائص جمالية أصيلة ، ضخّ
عبرها كل ما يكنّه من شغف للموسيقى ،لتشكّل صوتاً داخليا يُجاور بين دلالة الكلمات
.
وهكذا انكبّ الرجل العليل على انجاز مشاريعه
الروائية بسرعة فائقة ،ليقينه بأن ثمة من يطارده ليفرغ رصاص مسدسه في رأسه ،حيث
صار إحساسه بالزمن حادا وعنيفا .
كتب من دون أن يفكّر في الموت . كانت معركتُه
الأكثر ضراوة هي الكتابة ، أي الحياة ،لا الموت .. وقد مكّنهُ هذا الانغمارُ من أن
يتجاهل الموت ، ويهمله ، بل وينساه ، لكأنه مجرَّدَ وهمٍ لا حقيقة ماثلة تتربّصُ
بتخريب دماغه .
صمد بيرجس بطريقة احتفالية ،تنطوي على قّدْرٍ
كبير ٍمن الحكمة والمتعة والشغف الذي لا يُحدّ ، وعاش قرابة أربعين سنة أخرى ، ابتكر خلالها أكثر من أربعين رواية
جعلته من بين أهم الروائيين في عصره . ترجمت إحدى روايته إلى العربية ، خلال عشرية
التسعينيات من القرن الماضي في مصر، موسومة بعنوان ( المسلمون قادمون ) . وهكذا ،
تفوّق أنتوني بيرجس على مرض السرطان بطريقته في صناعة الحياة ، مقترحاً على نفسه
الانهماك في الكتابة عوضا عن انتظار الموت ، فتوطّنت روحُه في الكلمات ،لأنه بعد أن واراه الثرى ، كان قد ورّث اللغةَ ،
حياةً باذخةً تنبضُ بالكلمات ، ستظلُّ إلى زمن بعيد فاعلةً ومؤثرة في مسيرة فنّ
الرواية العالمية .لأنها كلماتٌ تحلم ُ، وتنبضُ ، وتبصرُ ، وتشيرْ .