مفتاح العمّاري
خارج
الثكنة
- 1-
كيف يسعني الآن تذكّر أشياء قد تلاشت ، وتاهت صورُها وكلماتُها
. ليس الأمر هينا حين يتعلق بإيقاظ الموتى . أعلم ذلك جيدا ، وقد أضحى التذكّر
عبئا هذه المرة . لم أكن أتصوّر بأنني سأخضع رغما عنّي لاستحضار أناس لم تكن بي أيما حاجة لضجيجهم. أنا الآن وحدي
.لكن تلك السماء يستحيل نسيانها ، أعني سماء الجنوب : سماء نظيفة ولامعة وحرّة
تكتنز بحشود هائلة من النجوم التي تبدو أكثر سطوعا ومرحا من أية نجوم رأيتها من
قبل . تلك السماء التي تستلقي بهدوء فوق
الصحراء الكبيرة ، بلا آفاق أو حدود ، لكـأنها بشساعتها العظيمة تقارع الصحراء من
فوق . أذكر بأننا كنا على مشارف (أوجنقا ).. وقد افترشنا قطع المشمع على الرمال
لنبيت ليلتنا تلك ، ثم نستأنف في الصباح
رحلتنا . لأن آمر الكتيبة رأى من الحكمة عدم عبور تلك الفجاج الجبلية الواقعة
على الحدود الشمالية لمدخل ( اوجنقا ) في ميقات الغروب ، تخوفا من
أي كمين ماكر قد يباغتنا ليلا ، فليس من الحنكة اتخاذ مثل هذه المغامرة ، ولا سيما
أن مذبحة ليلة عيد الأضحى التي تعرضت لها
إحدى سرايا كتيبة المشاة الثالثة قبل
أسبوع ، ما يزال تأثيرها المحزن ماثلا ، يلقي خوفا ورهبة في نفسية أفراد كتيبتنا .
-2-
عندما تعلمون بأنني فنان منسي ، قد تتساءلون كيف لرجل أفنى جلّ عمره في عشق
الفن أن يكون قاتلا. في الحقيقة قد التحقت
بالجيش كرها ، وحملت السلاح رغما عن أنفي
، كما قدّر لي أن أخوض حربا من ثلاث معارك شرسة ، لكنني لم أقتل أحدا . فقط ، كنت فيما كنته ، محض ممثل مهمل
في بيئة لا تقيم وزنا للفن ، وأن الفنان في نظرها يظل في أفضل الأحوال
مهرجا ضئيلا يخرج عليهم عبر شاشة التلفاز ، ولا سيما في شهر الصوم من كل عام ، ليقدم صحبة آخرين بعض فقرات تافهة من مقاطع درامية مجزوءة قد
عملت فيها مقصات الرقيب ما عملت ، بعد أن تُراز من لجان النصوص ، وتُمحّص في مكاتب
المخبرين ، وتخضع لمشارط الرقيب في عمليات جراحية لن تتوانى وساوس وارتيابات لجنتها عن بتر معظم الأجزاء حيوية لمجرد أقل
شكوك قد يستشعرها أنف الرقيب المخبر ، فتُشبع تقطيعا وفصدا وتمزيقا لتظلّ في نهاية مطافها الدموي
محض لقطات ميتة ، لا حياة فيها ، سوى ما تبقى من بعض نطّ ، وفجاجات حوار لا يصلح
إلاّ للهزء والشفقة والرثاء . قفل المسرح الوطني ، مرات ومرات ، ثم أعيد فتحه أخيرا
بعد أن كلّف بإدارته عدة نفر من المخبرين والمخنثين الذين لا يقيمون للفن وزنا ،
ولا يعرفون ما إذا كان شكسبير مسرحيا أم بائع خردوات . في الواقع قد فكرت كثيرا في
التخلي عن الفن وأهله وأروقته وخيباته، لأبحث لنفسي عن شغل آخر أكثر جدوى ، لكنني
لم أفلح في شيء وكلّما حاولت النأي بعيداّ عن خشبات مسارح لا حياة فيها سوى
الثرثرة والشكاة ، أجدني من حيث لا أدري منقادا كلّ يوم إلى مقر فرقة المسرح الوطني . هناك نلتقي مجموعة من
الصعاليك الذين لا عمل لهم ، نُرغي كثيرا ، ثم تحتسي كؤوسا حارقة من التاكيلا التي
تعودنا معاقرتها كل مساء ليرمي بنا آخر الليل كيفما يتفق الحال ، متعتعين
وسكارى نبحث عن ركن ننزوي فيه .
-
3 -
في
الحقيقة أنا شاعر ، وهذه مسألة تخصني وحدي ، فلم أظهر موهبتي في كتابة القصائد سوى
لنفر قليل من صحبي الخلّص . لأنني بعد أن يئست من عبث الممثل ، لذت بقصيدتي ، وأن كنت حائرا كيف يمكن أن يكون
الشاعر قاتلا محترفا ـ. وأن يجاور بين القتل والقصيدة ، قد يبدو الأمر محيرا بالنسبة
لكم ،. كما هو بالنسبة لي . لعل المعضل هنا يتعلق تحديدا بمسألة الجمع بين الشاعر
والجندي، وهذا ما لم أفهمه ، ربما لأنني كنت دائما أتنصّل من شبهة الجندي .. وهي
حقا عقدة محكمة يتعذّر حلها حتى و إن أقسمت لكم بأغلظ الإيمان بأنني لم أقتل أحدا
طيلة ثلاث معارك خضتها عبر ثمانية أشهر في الجنوب أثناء الصراع المسلح على السلطة
بين قادة الفرق المتناحرة في تشاد .. أولئك الذين تربّى معظمهم في ثكنات القائد الأممي الكولونيل معمر القذافي ..واستظلوا بخيمة باب
العزيزية ، كنت أفهم في تشكيل الكلمات ، أصنع منها عمارة من المعاني والصور
والدلالات . لم تكن قصائدي سوى صلوات تخصني وحدي ، ولذا سأكون بالطبيعة أشد قلقا
حين أجد نفسي أحمل بندقية الكلاشنكوف عوضا عن القلم ، وأطلق الرصاص على أهداف حية
مبيدا أحلامها ، كاتما تنفسها . كانت تلك صورة في غاية الرعب بالنسبة لي . لذا
أؤكد لكم بأنني لم أطلق رصاصة واحدة على كائن حي ، سواء كان إنسانا أم حيوانا أو
نباتا . فقط تظاهرت متحايلا باستخدام بندقيتي وأطلقت رصاصا كثيرا على أهداف لا حياة
فيها ، لتمرق طلقاتي طائشة في المدى البعيد ، وأنا على ثقة ببراءة نفسي من أي
إزهاق لروح تمشي أو تصيح أو تهبّ . أمضيت هناك ثمانية أشهر طوال ، أملتها صروف
الصحراء وقسوتها وتقلب طقسها وجنون عواصفها الرملية ونأيها وغرابتها . لكن الأيام
هي الأيام ، ما تلبث أن تمضي بقضها وقضيضها ، أو كما يقال بخيرها وشرها . وها أنا
ذا أستعيد هذه الصور الرثة بعد مضي قرابة أثنين وثلاثين سنة ، تسنى لي خلالها بعد أن ضقت ذرعا بترهات المسرح لأستسلم طواعية
لفتنة الكتابة ، مكتفيا في حد أدنى بإرضاء نفسي ، فلم تعد الكتابة في هذه البيئة
التي تتقلّب على حافة الجنون حدثا يمكن أن يُحتفى به ـ أو تمثل أيما جدوى ، ولا
سيما كتابة الشعر التي وصلت إلى أسفل غور الحضيض وضاعة وإهمالا ، حتى أن الشاعر بدا يتبرأ كلما نعته أحدهم بصفة الشاعر ، والتي
لا تؤجج من حوله سوى نبرات السخرية
والتهكم . لكن وعلى الرغم من كل هذه المثالب الشائنة ، وهذه الوقائع المخيبة كنت
أروم سرا مزاولة الشعر بشغف ظل يتنامى ويكبر
بدل أن يذوي ويموت . صحيح لم يحفل بشعري سوى القليل من العشاق الفانين
الذين تفضّل بعضُهم بكتابة شيءٍ من المديح ،كإنصاف خجول لتجربتي . لكن بقدر ما
انشرحت وانتشيت بتلك التلطّفات الرحيمة والإشارات الحميدة في زمن لم تكن فيه للشعر
منابر وأسواق ومحافل ، غير أنني لم أعوّل كثيرا على مديح أو هجاء . كنت أفضّل الانزواء نائيا بقصيدتي ونفسي عن
مطارح الصخب ، مستمتعا بمنفاي الذي اخترته طوعا . صحيح بأنني قد أصدرت ديوانا
يتيما ضم بعض المنتخبات الشعرية الأثيرة .. إذ فعلت ذلك تلبية لتوقي في أن يكون لي
كتاب ، علّه يعوض القصيدة عن إجحاف لحظتها وضراوة النسيان . لم يكن ذلك همّا
بالمعنى التراجيدي الذي يستدعي إحالة هكذا موت لجزء ضروري من المعرفة على جهة
المآسي في دراما تاريخ الأدب المعاصر . حاولت مرارا إقناع نفسي بأن أواخر الألفية
الثانية هي بمثابة حالة من التفسخ في قيم الثقافة الإنسانية .. لكنني أخيرا ، وأنا في تلك الصحراء خضعت مرغما لسلطان النوم
، ففي الصباح ، سيكون علينا مواصلة الطريق
باتجاه ( اوجنقا ) .