مفتاح العمّاري
جسد يركض بعيدا
تشي
ظاهرةُ تراجع قراءة الأدب بتراجع الأدب ذاته ، لتكشف من ثم عن تراجع معايير
المجتمع البشريّ وتفسّخ القيم الإنسانية لحساب معايير أخرى ،رسّختها تحوّلاتُ
حداثة العالم الجديد ضمن علاقات ماكرة تنبني على التنميط والتسليع ونمذجة الجسد
،وتكريس آليات بالغة التقنية ، لغرس مفاهيم حداثية ماكرة إلى حدّ الخبث ، أسهمت
بطرائق ومخططات بالغة الدهاء في ترسيخ
نموذجها الاستهلاكي الذي نمَّطَ العديدَ من الإشارات والعلامات التي تروّجُ لعالم
مهيمن ، وواقع مستبدّ ، يمجّدُ الحسّي والماديّ ، وينتصرُ للجسد متواطئاً إلى حدّ
التطرّف مع أهوائه ومثالب نزواته ، وشطحات تفسخّه . هذا الركضُ العنيفُ للجسد
البشريّ تركَ الروحَ خلفه وحيدةً بلا مأوى ، ومن ثم خلقَ أزمةً بالغةَ التعقيد بين
الحسيّ والمعنويّ .
هذه الأزمةُ هي التي تعكسها لحظتُنا الماثلةُ
عبر العلاقة المتوتّرة والمختلّة بين الشعرية والواقع ، بحيث نتجَ عنها تراجعُ دور
الأدب كعلاقة نسيجية ، ومن ثم ضياعُ الشعر ، أو بالأحرى ضياعُ القصيدة باعتبارها النمط
الأكثر حساسية واستشعارا وتأثرا وتأذيا ، ليس لضعفها ، بل لرهافتها البالغة .
ضياعُ القصيدة إذاً ، ينعكسُ بامتياز خلال عديد
التمظهرات والتهيؤات التي تَشي من جهة بفقدان موقعها ، من حيث الفاعلية والحضور
والتقبّل، ومن جهة أخرى بتهدّم أبنيتها،
وسعيها التائه لخلق أبنية بديلة ضمن وهم المواءمة بينها وبين واقع ،هو دائم
التهتّك والترجرج والتخلخل، وفي الوقت ذاته يدافعُ بدوره عن أواليات وجوده عبر
ايهامات شعرية بديلة ، تتمثّل بعضُ تمظهراتها الخبيثة في ما تعكسه تقنياتُ الفيديو كليب من غوايات
بليدة ، ولعلّ موجة موسيقى الراب إحدى هذه الأشكال التي بقدر ما ترفع صوتيا وتيرة تمردها على الواقع ، تتورط فيه وتكرّسه من خلال تفسّخ اللفظ والمعنى ومجانية الشكل ، والتي تصوّرُ
بامتياز نزعةَ الانحياز إلى عربدة وضوضاء
وصراخ الجسد على حساب الوجدان . لكن الإيهام الأكثر فداحة وتراجيدية يتجلّى بامتياز ، وعلى نحو في غاية التفسّخ في
ما تعكسه بعضُ مخاضات الخطاب الأدبي نفسه ( شعرا وسردا ) ، والتي تتخذُ من مسوّغات
كتابة الجسد ، ذريعةً للتماهي بالايروتيك ضمن حيزه الشهوي ، متنازلة عن العديد من شروطها الجمالية
، تمشياً مع الموضة . لذا فقدت الشعرية ُبهاءَها
وحضورَها وفاعليتها ، ولم تعد تشكّلُ علامةً مميزةً من علامات المنتوج الثقافيّ في
واقعنا الراهن ، ولعلّ التوصيفُ نفسهُ ينطبقُ على شخصية الشاعر التي تلاشت هي
الأخرى من ذاكرة مدوّنة عصرنا ، وفقدت من ثم حرارة الكاريزما ، التي كانت تكفلُ
للعالم أن يحتفظَ بتلك الروح التي تشيرُ إلى آدميته ، وتَسمو بوجدانه.