مفتاح العمّاري
كنزُ العين
الصورةُ كنزُ العين ، كلاهما صنّو الآخر: الفريسةُ والأسيرُ والطريدُ والعاشقُ ،
لاسيما وأن العالمَ الآن قد أضحى بقضّه
وقضيضه يخضعُ رغماً عنه لأنساق الصورةِ ،
كمنظومةٍ جديدةٍ لا تعتمد على دورِ النخبةِ في تأثيثِ قيمَها بعد أن وصلت من خلال
سحر البصر إلى مَشاع ، تَشي تمظهراتُه بترويج ثقافة مجتمعية تنحو لتبسيط رسالتها ،
بحيث لا يتعذّر فهمها طالما هي تتيحُ التنوّعَ والتعدّدَ وحريةَ التأويل . ومن ثَم
انزاحت الصورة ُلتحتلّ بؤرةَ الإشعاع الثقافي كمصدر محوريّ لبثّ وتكريس نموذجَ
ثقافتها السهلة والمحيّرة في آن واحد .
الصورةُ على الرغم من بساطة شكلها ، تظلُّ في
عمقها أكثر تعقيداً ، بحيث كثرت حولها
المفاهيمُ والنظرياتُ ،وتشعبت التأويلاتُ والدلالاتُ التي أسهبَ في طرح أسئلتها
عديدُ المفكرين والمثقفين، من تشومسكي ، إلى
ادوارد سعيد ، مرورا ببودريار وريجيس دوبريه . عالمُ الصورةِ
أو ثقافةُ الصورةِ - سواء شئنا أم أبينا -
علينا كجزء من هذا العالم أن نخضعَ
- وعن طيب خاطر - لما تُمليه سلطتُها من نمذجة لتنميط سلوكنا و(سَكْلَجَة)
أذواقنا وخيارتنا ، ومن ثم برمجتنا تبعاً
لذاكرتها وأرقامها وحساسيتها ، إلى الحدّ الذي
لا خيار أمامنا ، سوى الاحتكام إلى مرجعياتها واللجوء إلى قوانينها واستقاء معرفتنا وتوجيه
حساسيتنا من خلالها .
يبدو أن التسليمَ بهيمنة الصورة، ضربٌ من
الاعتراف بجوهرها كأُسٍ معرفيٍّ يشكّلُ علامةً ثقافيةً تَسمُ ما وصلتْ إليه
تكويناتُ العقلِ البشريّ في لحظتنا الراهنة ، وأيضاً التسليم بظاهرها أو سطحها من
جهة أخرى ، بما يمثله من علامة تجارية ترمزُ إلى هيكلةِ سلطةِ السوق كأهمّ عنوان
من عناوين سياسات العولمة .. ومن ثم قد
انعكس هذا المعيارُ بما يُضمره ويخفيه ، على فرضية وجود سياقات جديدة في إنتاج
المعرفة بشتى أجناسها وأنواعها ، حيث لا
فكاكَ من أن تندرجَ الفنونُ والآدابُ كشقّ من هذا المتن الواسع ضمن آليات وأنظمة
ثقافة الصورة ، وبخاصة تلك الأنواع الأدبية التي تمسّ الهويات ، بحيث صارت هي
الأخرى لا مفرّ من أن تحذو حذو هذا الزحف
البصري الكاسح ، وهي مسألةٌ طبيعيةٌ جداً إذا سلمنا نحن العرب الذين نحاذر من
مغبّة الغزو الثقافي على هويتنا ، بأن
الأدبَ بصورة عامة ، والشّعرَ بصورة خاصة من الأجناس الأكثر حساسية في استجابتها . فما من شيء سيكون خارج هذا التأثير . لكن يبدو
أن شططَ الإزاحة باتجاه تكريس نموذج
الصورة قد خلخل ما نعتقد رسوخه من جماليات في شعر العربية ،
الذي تنازل عن هبة الصوت إكراماً لشغف الصورة ، ففقد الاثنين معا . بحيث صرنا أمام أشلاء لكائن مسخ لا صوت،
ولا صورة له .