مفتاح
العمّاري
حلقة مفاتيح
ما يجمعنا أيّتها الشقيقة
، أكبر من أن يلخّّص في بضع كلمات . فمنذ ربع قرن عندما لم يبق على رصيف الوطن سوى
الشعراء وحدهم ، ينثرون أحلامهم في حقول الريح
.. التقينا بمشيئة الخيال البهيّ ، يومها ،
كنا نقترف الحياة بشفاه المستقبل
. فهل يحتاج نمو القصائد إلى مبرر لحظة أن
تترعرع في رحمها المدن والحدائق والموسيقى
وباقات الفرح ، هل يحتاج الشاعر إلى براهين سوى أن يكون كما هو وكفى، خجولا وعفويا وتائقا
ووفيا بهدوء . هل ثمة داع لاختلاق ضجة ما ، لكي نعبر عن إخلاصنا . فهل بالضرورة أن
أعتذر عن كسل وراثي ، تغريني مفاتن تأمله
،أو خطفة خمول جميل ، يظلّ دائما أكبر من
أن يوصف حين أتواطأ مع كائناته مأخوذا بتلك النشوة التي تمحو ملامح الأرقام ، وتنسيني تكتكات الوقت وهو يركض حثيثا – لست
أدري إلى أين -. اعترف دائما ، واكرر الاعتراف – دونما غضاضة - في حضرة قصائدي وبناتي وحبيباتي وجلاّسي الخلّص ، بأنك قبل ربع قرن قد سلمتني حلقة مفاتيح لأبواب
طرابلس ، التي وطأتها ذات صباح شتوي مطير ، بهيئة جندي سعيد الحظ ، منتعلا حذائي الثقيل
المعفر بطمي الفاقة ، مرتبكا في بدلة الشغل الخضراء ، ضاجا بالخجل وعطن الثكنات وزعتر الجبل الأخضر ، وغبار الصحراء
البعيدة ودخان الحروب . لم أفكر لحظتها
بأن ذلك اليوم سيكون الإشارة التي ستفتح لي نوافذ لم أحلم بها ، وعتبات مباركة للتعرف على الأسماء الأولى ، والرؤية عن كثب لشرفات السحر وهي تهطل بالنور والمواعيد
الحميمة ،وأن أتذوّق ثمرة اللوتس تلك التي
تجبّ ما قبلها من مفاوز ومحطات .
منذ تلك الإشارة عشقت طرابلس ، هذه الفتية الأمّارة بالخيال . فهل يلزمنا الخلان الأوفياء ، أن نعتذر عن
أخطاء لم نقترفها ؟ ثم ما ضرّ أن عدت قليلا
الى الصبا ، واستمتعت للحظات بطعم الزهو ، بعد تلك الحشود الهائلة من المكابدات التي تصرّمت نصف أسرارها . ما ضرّ
أن سهوت ، أو تأجل الوعد قليلا .. ؟ سيما
وأن عروس البحر قد وهبتني قبل هنيهة ، وبإصرار
سخيّ لا يقاوم : الرنيم الذي يختزل المسافة بين الحلم وبيني . الرنيم ذاته الذي
كان طرفا مسئولا عن إيقاظ الأحلام من سباتها الغشيم . فهل ثمة ما يقصم الوعد ، حين أعود إلى ديار
الصوت المبارك ، محيارا ، لا مهيافا .. صادقا لا أفّاكا ، أترصّد شغاف الطريق إلى ذاكرة الشعر ، مقتفيا العناوين نفسها ، التي قد تطفئ أبواب مودتها ، وربّما تبتسم هواتفها أو تلوي بوزها ، أو
يتعذر حدس مزاجها الحراري ( كأن يتقمص دفئها
دواميس من زمهرير ) .. فأنصرف في آخر المطاف خائبا ، وغافلا كالعادة عن ما يؤجل المواعيد .
¨