مفتاح العماري
حياة
صديقي ، مخرج المرئيات الباهرة ،الفنان
الفذ ، عبد السلام حسين الذي يكرس معظم انشغاله لصناعة الصورة ، والانخراط إلى حد
الهوس في تفاصيل جمالياتها وفنونها وتقنياتها . زارني ذات يوم في بيتي ، مرحا وبشوشا وساخرا كعادته ، وأيضا كعادته كان فنانا وهو يستدرج الحديث وبشعرية عالية إلى
عالم الصورة ، وهو عالم ثري وآسر ، إذ يستهويني
أنا الآخر الكلام في الصورة وعنها ، لا سيما وأن معظم ثقافة عصرنا تعتمد على فن
الصورة . بعد حيز قصير من الصمت ، فكر صديقي
، ثم ومن دون أية مقدمات اقترح رسم لوحة
مهولة ، تسفر تفاصيلها المربكة عن وجود صحراء بحجم قارة بأسرها من الرمال
والعزلة والشمس والوحشة والرياح
الشرسة .. صحراء قاحلة ومتوحدة ونائية لا حياة فيها سوى ما يمليه السعير من حر لا يطاق
. ثم أقترح عوضا عن الموت والجحيم الذي يسكن خلاياها أن نتخيل عصرا مطيرا ، مما
يقتضي إعادة تأثيث كيانها بكل ما يتمخض عن وفرة الماء من كائنات نضرة ، وأسماء
طازجة ، ومخلوقات أكثر استئناسا ومرحا وألفة . وقبل أن يغادرني ، ترك لي الخيار في إضافة مزارع مهولة من البرتقال والزيتون والعنب
.. تاركا عبارة شرطية مفادها : أن ما نتخيله هو في حقيقة الأمر واقع حي لا غبار
عليه ، فقط علينا أن نضع اللمسات القادحة والذكية على الكلمات التي تليق بقصيدة
مديح للحياة حين تبعث من جديد ، وذلك إنصافا لصناعة الصورة في شكلها الوثائقي حتى
تكون بارة بالطبيعة التي توائم بين الموت والحياة في جسد واحد . مفضيا من ثم بأن الاعتراف
بمعجزات الماء لا يشكل فقط تحديا للفناء المشخص مجازا بهيئة الموت ، بل هو في
اللحظة عينها يعد اعترافا بالموت كطاقة خفية لا تنمو الصورة إلا ضمن نسيجها.
مرّ عام وأنا لا
أفكّر في شيء الا في ابتكار الكلمة الجديرة بهذه الصحراء التي ظلت طيلة الدهر تغزو
خارطة كياني بأشباح موتاها ، حيث تمكّنت في أول الآمر من تحصين مخيلتي ضد ما يشي
بالخوف حتى يتاح لي حشد الدلالات التي بهيئة
أعمدة صلبة جديرة بأن ترفع سقف سماء سخية بالغيوم
والكواكب وصور البهاء ، لهذا صرت أكتب وأكتب حتى تحولت القصائد إلى نهر دافق ، أينما
يذهب يفتح بلادا جديدة .