مفتاح العمّاري
جميل حمادة
يذكّرني صديقي الشاعر
جميل حمادة بقصيدة لم تكتب ، ببحر بعيد لم نذهب إليه بعد ، مثلما يحيلني لترقّب ما
قد تحمله شباك صيد ، قدّر لها أن تظلّ دائما
خفيّة ومدهشة وثرية وغامضة ونابهة ومشاكسة وذكية ، ولا سيما عندما تُرمي في لجة الليل . كذلك يذكّرني بأسئلة وكلمات وباقات
ورد وبلدان بمذاق الخيال ، ومآثر بعيدة ، نخاف أن تضيع في زحمة العالم . يذكّرني
دائما بضرورة أن يكون لك صديقا طيبا وصاخبا وطفلا ، كي تستأنف أحلامك كل يوم وأنت
أكثر ركضا ومرحا باتجاه المستقبل ، يذكّرني أيضا
هذا الصياد الماكر ، والرحّالة
العارف بتواريخ الغربة وجغرافيا
الشتات ، بمدينة شبيهة ، لها مالها من شوارع ونوافذ ونساء وحدائق وحمّامات ، مدينة
مستبدّة تكتسح الشعر والنوم والعطر والسينما
والتسكّع والحكايات .. هي دائما حاضرة في
حواس الحزن والفرح والموسيقى وعربدة الذاكرة . مدينة حالمة وبهية وشاسعة ، لا
تريد مهما كبرت أو كابدت أن تبرح ضفاف طفولتها . لهذا يذكّرني جميل كلّما تمعّنت
في صوره وقصائده وحكاياته وظلاله وفوضاه بأشياء أحيانا يتعذّر العيش من دون سطوة
بهائها ، كالشغف بالقطارات ، وتعلّم الرماية
والبحر وركوب الخيال ، وأن الحياة
ستكون حتما فارغة وموحشة وبليدة إذا خلت محطاتها من أصدقاء : صنو الندرة بصفاء هذا
الطفل الذي لا يملّ اللعب ، على الرغم من
فداحة النار التي تلتهم الألوان لكي يعبر
حريقها .. يذكّرني بعد مرور ثلاثين سنة ، هذا الغزّاوي المكابر ، هذا الصياد
البارع ، هذا الكبير كطفل ، اسمه جميل حمادة
، يذكّرني الآن دونما تكلّف أو
مراوغة بصديقي الحميم الشاعر : جميل حمادة
، أيام باب البحر ، عندما فتحنا سماء
قلوبنا للغة الماء والطير والشجر والموسيقى ،وأيضا لمريدين
ومنصتين وجلاّس عربيدين ، ظنناهم في أول الدرب ، من سلالة الشنفرى أو رهط المتنبي ، وإذ بهم محض كائنات دعية ، تنطوي خاماتها على
مسروقات شتى ، فقط مجرد متسولين بهيئة من
لا يعوّل عليه . فأين هم الآن يا جميل حمادة
، أولئك الذين شاركناهم ثريدنا
وأوقات خيالنا وسخاء بيوتنا ، أين هم فتية النفير الكاذب ، الذين لم يكونوا بعد قليل
غير لصوص ظرفاء . لكن لا بأس يا صديقي ،
فعلى الرغم من هذه الهشاشات العابرة ، ستظل الحياة في غاية البهاء ، مغوية
ومثيرة وساحرة ولذيذة ، عندما يتكفّل الشاعرُ بتضميد جراحها ، حيث يكفي أن يُجاور بين تفاحة وقصيدة ، لتبدو
مغامرة السفر أكثر ضرورة وتطلبا ، لكي
نلتقي من جديد ، لنثير ضحكاً لا يُمل ّ .