وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 25 يونيو 2015

الغراب *


مفتاح العمّاري
  الغراب


      حين بدأنا نضرب المفازات القاحلة بين نهارات خائنة، وليال من زمهرير ،  كان قد نفد ماؤنا وزادنا، وعجزت كواهلنا عن حملنا حتى ثقلت علينا التدابير, وتلاشت الجهات ، فانصرم رهطنا، وبدا كل جندي يتخلص من أعبائه .
     تركنا خلفنا الخوذ ، والبنادق،  والكتب ،  والنياشين ،  والأعلام والأناشيد ،  ونحن نمشي بلا ظل أو صوت سوى فحيح وحش الهلاك ، يتربص بنا كلما أمعنا النظر في الأفق وهو ينأى .
     نمشي بلا وزر غير ما تبقى من توق واهن بدا يخفت كلّما انفرط شملُنا ، بعد أن ضلّ بعضنا ، وَكَلَّ عزمُه، وقنط من ضربِ فراغٍ ثقيلٍ ودامس ، لنكتشف بعد لأي بأننا أمسينا بضعة أشباح هزيلة يدحرجُها وهمٌ سادرٌ لا أين له.
   عشرة أيام ، أو  ثلاثة عشر مرت ،  ونحن نمشي ، لنقف أخيرا على يقين خرابنا اللامع . كانت تلك إشارة أخرى لمفردة متلكأة ، تعذّر علينا لحظتها- نحن الجنود البؤساء- ترتيب حروف وعاء الاسم . لان غثيانَ العطشِ ، وغشاوةَ التعبِ، وضراوةَ الجوعِ بالكاد جعلتنا نبصر السماء التي أضحت بهيئة أجنحة من نار ومعدن. كأننا صرنا نهذي عندما رأينا الكائنَ الذي تبدّى غراباً مرحاً يُحلّق فوقنا ، لحظة أن  تكومنا عند حافة جرفٍ مستسلمين لمشيئة الخراب وسلطة العطش. 
   كان الألم يمزق أصواتنا،  ونحن نطلق صراخنا في وحشة العالم ، ونتقيأ مرارة فجائعنا .
    في الصباح القاتم أدركنا جيدا فداحة ما نرى.
كانت جثثنا تملأ المكان .  كانت أجنحة سوداء تحجب منازل الشمس ، وعوالق لزجة تنخر ذاكرتنا، وحشرات نارية تمتص ما تبقى من دمنا وتأكل لحمنا .
كان غراب أكيد يحشد أتباعه للوليمة. وهو آخر ما رأيت .
 ____

*من نصوص : مفاتيح الكنز .