مفتاح
العمّاري
الغراب
حين بدأنا نضرب المفازات القاحلة بين نهارات
خائنة، وليال من زمهرير ، كان قد نفد
ماؤنا وزادنا، وعجزت كواهلنا عن حملنا حتى ثقلت علينا التدابير, وتلاشت الجهات ، فانصرم
رهطنا، وبدا كل جندي يتخلص من أعبائه .
تركنا خلفنا الخوذ ، والبنادق، والكتب ، والنياشين ، والأعلام والأناشيد ، ونحن نمشي بلا ظل أو صوت سوى فحيح وحش الهلاك ، يتربص
بنا كلما أمعنا النظر في الأفق وهو ينأى .
نمشي بلا وزر غير ما تبقى
من توق واهن بدا يخفت كلّما انفرط شملُنا ، بعد أن ضلّ بعضنا ، وَكَلَّ عزمُه،
وقنط من ضربِ فراغٍ ثقيلٍ ودامس ، لنكتشف بعد لأي بأننا أمسينا بضعة أشباح هزيلة
يدحرجُها وهمٌ سادرٌ لا أين له.
عشرة أيام ، أو ثلاثة عشر مرت ، ونحن نمشي ، لنقف أخيرا على يقين خرابنا اللامع .
كانت تلك إشارة أخرى لمفردة متلكأة ، تعذّر علينا لحظتها- نحن الجنود البؤساء-
ترتيب حروف وعاء الاسم . لان غثيانَ العطشِ ، وغشاوةَ التعبِ، وضراوةَ الجوعِ
بالكاد جعلتنا نبصر السماء التي أضحت بهيئة أجنحة من نار ومعدن. كأننا صرنا نهذي
عندما رأينا الكائنَ الذي تبدّى غراباً مرحاً يُحلّق فوقنا ، لحظة أن تكومنا عند حافة جرفٍ مستسلمين لمشيئة الخراب
وسلطة العطش.
كان الألم يمزق أصواتنا، ونحن نطلق صراخنا في وحشة العالم ، ونتقيأ مرارة
فجائعنا .
في الصباح القاتم أدركنا
جيدا فداحة ما نرى.
كانت جثثنا تملأ المكان . كانت
أجنحة سوداء تحجب منازل الشمس ، وعوالق لزجة تنخر ذاكرتنا، وحشرات نارية تمتص ما
تبقى من دمنا وتأكل لحمنا .
كان غراب أكيد يحشد أتباعه للوليمة. وهو آخر ما رأيت .
____
*من نصوص : مفاتيح الكنز .