مفتاح العمّاري
الشاعر
والقصر
في روايته ( الحياة هي في مكان آخر
) يستعمل ( ميلان كونديرا ) مفاتيح
فرويد لاقتحام المناطق
المطمورة في شخصية الشاعر .. هذا الكائن الماكر أحياناً .. والذي على الرغم من
شفافيته لا تعوزه حيلة استدراج فرائس
المعرفة إلى مناطق صيده .. وكأن هبة الحدس التي يتمتّّع بها قد مكّنته من سبر الأشياء
وقراءة طلاسم العالم . ولأن الأمر هنا
يتعلّق فقط بشخصية الشاعر ، فأن الأرجنتيني ( بورخيس ) يبدو أكثر ملامسة لخفايا هذا الكائن المركّب ، عبر نثره الريبيّ
، الذي لا يدع مجالا لليقين ، وهو يمعن في الخلط بين الشك ونقيضه إلى حدّ يتعسّر
معه فصل الحقيقة عن الكذب .
في إحدى قصصه يسرد بورخيس
حكاية الإمبراطور الأصفر وهو يعرض بهاء قصره على الشاعر .. حيث سنح للأخير
أن يرى عجائب الدنيا ، وقد قُدّت من خيال مجسّم ، خضع لبراعة مهندس موسوس بالجمال
، وهبَ النحاسَ شهوةَ القمرِ ، وذوّب النجومَ عبر مسارب من رخامٍ ومرايا تحّفها
سياجاتُ الأزاهير الغريبة ، التي يكاد عطرها أن يهيّج الصخر. يومها رأى الشاعر
الفردوس بهيئة بساتين ، وأروقة وأقواس وصوامع سامقة ، عملت فيها يد النقّاش رسوماً
وزخارف لا عهد للفن بها .. ورأى الفتنة تلتبس بروح الجماد ، وحين عبر البروج
المشيّدة شاهد عن كثب الكواكب البعيدة . وهكذا ظلّ يتنقّل من إعجاز إلى آخر ، وسط
دهشة الجميع .. لكن الأمبراطور لاحظ أن
الشاعر وحده، بدا غير مكترث لمظاهر
الأبّهة ، وكأنه قد كشف سرّ هذا البهاء وما ينطوي عليه من عجائب السحر ، ولاسيما
أنه قد رأى كل شيء وسمع المديح الذي تترنم به الحاشية الإمبراطورية ، والهتاف
الصاخب الذي يطلقه الخدم والحراس . وعندما وصلوا إلى الصومعة الأخيرة خمّن الشاعر
بأنه لا محالة مطالب بإلقاء قصيدته الجديرة بالمجازات الرصينة التي عليها الإحاطة
ببلاغة القصر وعظمته ، فألقى بضع كلمات وجيزة أو ربما - كما قيل - كلمة واحدة كانت
هي القصيدة كلها التي اختزلت القصر ، واتّسعت للغرف التي بعدد أيام السنة ، والأروقة المصقولة بضوء الأساطير ، والجواري
الحسان والحيوانات الهجين ، والكواكب والنجوم ..... وما كاد الشاعر ينتهي من إلقاء قصيدته التي
تتألف – كما أشرت - من بضع كلمات ، حتى هتف الإمبراطور في وجهه غاضباً ( لقد
سلبتني القصر ).
وهكذا تكفّل على الفور سيف
الجلاد بوضع اللمسات الأخيرة التي يستحقها رأس الشاعر . ربما لأن الحكاية هنا تريد
التأكيد بأن العالم لا يحتمل وجود شيئين متناظرين . غير أن بورخيس ما يلبث أن يهشم
هذه الصورة ، فهو ومن زاوية أخرى أكثر
تهكما وسوادا ، لم يجد أية غضاضة في التلميح بإشارة ساخرة هي أبلغ فداحة من
سيرة المتنبّي .. تشير بأن الشاعر كان عبداً للإمبراطور ، ومات كذلك . ربما
، لأن تلك السبّة الشائنة قد ارتبطت بالشاعر قديما ، كمتسوّل .. وأننا عبر (
سكلجة) شخصية هذا الكائن، سنكتشف حتما بأن
جيناتها الوراثية مازالت تفرض تجلياتها بين الحين والآخر .