وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 31 مايو 2020

نظام القبح (2)

مفتاح العماري




________  تغييب المتخيّل

    لا شك أنها مسألة معقدة تلك التي تجعلنا مهددين بفقدان هبة الخيال. أن مجرد التفكير في كوننا نخوض الحياة دون مخيلة لهو أمر في غاية الغموض. قد يحرم الإنسان من الحرية، ومن الضوء وحتى الطعام، ويخوض صراعا لاسترداد حقه في العيش بكرامة؛ لكن أن يكابد من أجل استعادة حقه في التخيل لهو شيء يتعذر شرحه بالقدر الذي'يجعل من هذه المسألة قضية مشروعة، وعلى درجة من السمو لا تقل من حيث سلم الأولويات عن حاجتنا للهواء النقي. 

    كيف يمكن في ليبيا مثلا ولاسيما في ظروف الحرب الأهلية التي تحتل خلالها متطلبات الأمن والغذاء والدواء والمأوى والتعليم استحقاقات أساسية تغطي على ما عداها، كيف لنا إزاء هذا الوضع المأساوي إيجاد أي مسوغ لطرح قضية استعادة الإنسان لحقه في التخيل. لا شك أن المساحة المرجوة إن لم تكن معدومة فهي ضيقة جدا، وهامشية إلى حد التفاهة لحظة إنتاج مثل هذا الصنف من الأسئلة التي في ابسط الأحوال ستعد عقيمة وبلهاء. 

المعنى هنا لا ينحصر في قدرتنا على التخيل بل في قدرتنا على استغلال هذه الطاقة كمضخة إنتاجية. باختصار شديد أشير تحديدا إلى الخلق الإبداعي كمستوى فائق من مستويات التفكير والمعرفة. 

لأن تغييب تجليات الخيال وتكريس منظومة تفعيلها داخل نسيجنا المجتمعي هو من يُكسب هذه الهبة جدواها المرجوة في تحريك مستويات تفكيرنا، فضلا عن تهذيب سلوكنا والرفع من ذائقتنا، وتنمية حواسنا وكافة قدراتنا الإدراكية لتكون أكثر استبصارا في ترجمة القيمة؛ قيمة المعرفة بوصفها فعلا إنسانيا سيذلل حتما من وطأة الأزمات الاجتماعية ويجد لها الحلول والمخرجات التي تنسجم مع وعيه من خلال معالجته لمشاكله عوض'إعادة إنتاجها وتأزيم كل ما هو متأزم، عبر تصعيد مشاكله ومراكمتها إلى ما هو أسوأ. 
ونحن لا نثير هكذا أسئلة سعيا لإيقاظ أو تحريك آليات تفكير إجرائية، سواء أكانت رسمية تتبع الدولة أو أهلية كمؤسسات المجتمع المدني؛ فهذه قضية أخرى لها مالها، وعليها ما عليها وبصورة خاصة إذا ما كان المشهد الثقافي يتعلق بالمجتمعات الأكثر تخلفا. 
بل نطرح السؤال بصيغته الفلسفية كمحاولة لتشخيص وتحليل هذا الصنف من الأزمات المسكوت عنها؛ بوصفها خارج جدولة القضايا الإستراتيجية طالما ثمة أولويات أخرى عليها أن تحتل الصدارة في انشغالات المجتمع.. بحيث يجعل من المتعذر بالنسبة لنا الظفر بحيز يتسع لإيواء سؤالنا حول معضلة هذه الجريمة المتعلقة تحديدا بحرمان جزء من المجتمع البشري من التمتع بتفعيل مخيلته، بوصفها فعلا حقيقيا ذا قيمة جوهرية للتعبير'عن آدميته، فضلا عن كونها ضرورة اجتماعية أساسية تمكنه في الوقت ذاته من إنماء عقله وتطوير أدائه في زحزحة مشاكله وحلحلتها، لا التورط في شراكها وإعادة إنتاجها وتسويقها. 
حين نفكر بأن معظم مشاكل مجتمعنا الليبي ناتجة تحديدا عن ضعف دور المخيلة وتحييد طاقتها؛ سيبدو الأمر للوهلة لدى البعض مدعاة للسخرية؛ لأسباب كثيرة لا حصر لها، يندرج أغلبها في مخلفات تراثنا الثقافي بكل خرافاته المؤسسة لنمط من العقل المجتر لرفاته؛ باعتباره نمطا تبعيا توقف عن النمو منذ قرابة ألف عام وانحصر في التسليم بمنجزات الموتى. مما يستحيل معه الاعتراف بدور الخبرات التراكمية؛ كأننا لم نكن جزءا من تطور تجارب البشرية وتكدس معارفها خلال عشرة قرون ليظل الإيمان بعقل السلف ( الصالح) وحده كافيا لإلغاء عقولنا وشل قدراتنا على الخلق والابتكار والإبداع والعطاء. وهكذا ساهم إحياء البائد في إعدام الحاضر. ومن ثم سيغدو المستقبل مجرد خبط عشواء، دائما ضبابيا وغامضا وغير منجز. 

الأربعاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٩