مفتاح العمّاري
كهل في مهبّ هجرات طارئة
1
أيقظه شجارٌ بين ريح ونافذة ..
كهلٌ وحيدٌ في الليل يتوجس كآبة الشرفات والأشجار
الميتة
فيما القمر ينشر فضته المسروقة فوق جسر( شارع السَّيّدِي) .
كان يؤلمه أنه لم يعد يقوى على المشي لمسافات
أبعد من فرن الحيّ
لهذا أضحت مشاوير رمي القمامة نزهة مرتقبة
، تتيح رؤية الخارج بحذر شديد
خشية العربات العمياء والرصاص الطائش
لأنه ما من أحد هنا ينتظره في مقهى أو حديقة
حيث يتعذر الإصغاء الآمن لموسيقى نظيفة .
2
هنا
، في باب بن غشير ،
تماما
خلف سينما الجمهورية بأمتار قليلة
ثمة ثلاثة مطاعم للفلافل والبيتزا والبيض
المقلي تضج بالمسلحين
ثمة أيضا محل سجائر ، وصيدلية ، ونفايات
تنمو بزهو ،
ثمة عظام خرسانية تصعد بسبعة طوابق لعمارة
مارقة
تُبنى على عجل .
لهذا ،
لم تعد الشمس تغسل كل صباح غرفتَه الكسولة
فقط تتكالب فرقعاتُ القواذف وروائحُ الأطعمة وصراخُ الجارات ولغطُ عمال
البناء وعواءُ سيارات الإسعاف والمراسم ،
لصناعةِ قدر كبير من الضوضاء الغبية .
3
هنا ،
إذا وقفت بمحاذاة سورٍ من طوبٍ
أسمنتي ، يغتصبُ عنوة
الأرضَ التي كانت قبل التحرير مشروع حديقة
تماما حيث تُولِي ظهرَك للافتة تحمل عبارة
( سقيفة الغرباء )
كإشهارٍ لمكتبةٍ حديثة العهد تبيع الكتب
الإسلامية
وأقراصا مدمجة لخطب شيوخ الحركة
الوهابية
يملكها فتى سمين ، كلما عبر الشارع
بدا منحنيا داخل جلبابه ، لكأنه يتبع لحيته
الطويلة .
هنا يقيم كهلٌ عليل
تماما بالطابق الأول في بناية قديمة
تماما في الزاوية الضيقة من جدران اللغة
المنبوذة
تماما إذا أحسنتَ الإصغاء، ستكتشف كيف
ينتزع المحاربُ القديم
قشور القوافي من جلد قصيدته ،
وينظف حنجرة الكلمات
لكأنها سبطانة كلاشنكوف اختنقت برمال
الصحراء .
4
هذا الكهل :
قبل أن يكون جنديا ، عمل خادما جوالا لخيال الظل عندما كانت بنغازي ترقص مثل أميرة
في خرافات شهرزاد ،
وأيضا
غاسل صحون في مطعم فاصوليا ، وصبيا لدى خياط (درناوي)
ثم التحق بدورة مهنية لتعلّم ميكانيكا
السيارات .
من سنة 1971إلى 1989 أمضى 18 سنة في الجيش
الليبي ،
من
لواء الشهيد عمر المختار إلى اللواء التاسع المدرع ،
مرورا بكتائب وجحافل وحروب طارئة .
كان بين الحين والآخر يكتب رسائل لحبيبات
بلا عناوين ..
رسائل ساذجة لم تغادر سريرها ،
تحوّلت كلماتها بعد قليل إلى قصائد وحكايات
لا يقرأها أحد سواه
لذا يمكن الإصغاء بحذر صبور
لئلا يرتبك مزاجُ الحارس السكران فيصيب
مدرسة بقذيفة عشواء
أو
يحرق حقلا من الغيوم .
5
وهنا ،
إذا شئت
يمكنك الاكتفاء بِطَرقات خفيفة على الباب
لحظة أن تكون الخادمة في البيت.
في الحقيقية ما من خادمة بعد .
كانت فقط محض أمنية متخيلة تعتري الكهل
أحيانا كلما فكر في التعويض المالي المنتظر من منظمة قدامى المحاربين .
حين
كان محض خادم مطيع للقصيدة .
أجل " خادم مطيع للقصيدة " قال
لنفسه : لطالما كررتُ هذه العبارة مرات عديدة حتى لا تذبل ..
همستُها بسخرية في سجن الثكنة فوق حفرة الغائط
العفنة ،
كما ضمنتها روايتي المقطّعة ، ( ثلاث نملات
تعبر كتابا ) ،
وقلتها بحماقة لوالدي ذات مساء عندما كان
يُعنّفني
اجل : فكرت فيها مليا ، لحظة مثولي في مجلس
تأديبي بمكتب آمر الكتيبة 23 مشاة .
حدث ذلك عندما كنت فتيا
أما الآن فأنني حين أترنّح ، أو أجثو من
فرط الألم
ما من أحد من أشقائي سيهرع لنجدتي
صاروا أبعد من أن يصغوا لترهات كهل
يحتضر
أصدقائي أيضا فروا بجلودهم وتركوني أتململ
في ذاكرتي
غادروا الوطن في هجرات طارئة .
6
هنا ، ليس الريح وحسب من يستنفر غضبَه
لتحطيم النوافذ
ثمة أيضا كائنات يتعذر رؤيتها بغير الحدس
تنام مع الموتى
لهذا يصعب انتزاعها من الجدران وحرق صورها ،
أسماء كثيرة للخوف .
______
طرابلس ربيع 2012