مفتاح العمّاري
________ جماليات التهكّم
(1)
أشير هنا الى أنني أحد القراء المعجبين جدا
بمقالات ونصوص زميلنا الكاتب والصحفي الأستاذ " محمود البوسيفي " ، فهو
وباقتدار شديد الحنكة معلّم فذّ قلّ نظيره ، وأعترف دون غضاضة بأنني أغبطه ، وربما أحسده علنا ازاء جرأته الجسورة
، سريعة الانقضاض على الكلمات التي قلّما تخطئ في ايواء بساطة ذات غور لا يضاهي ،
فهو : بقدر ما يغزو سطح الورقة مكتسحا بياضها باستنفار سريع التسويد ، بقدر ما
يفلح في تعميقها واضافة حياة شديدة البهجة
والهيجان ، متسلحا بدربة واثقة ، مشفوعة سلفا بصيد نادر ، ليضعك دائما على تماس مع
عبارته السلسة التي هي أخلاط منسجمة ، تتناغم في نسيجها عدة أساليب : خصائص سردية
، تقريرية أحيانا ، مع شعرية حارة ، لها حظوظها الوافرة من الاعجاز ، واصالة التعبير
التي تحوز على بهاء شرس ومناكف ، يبدو للوهلة بدهيا ، لكنه ما يلبث أن يفرض
عليك سحره ، ويشدّك اليه بتفكّه لا يخلو من مفارقة التشكك ومشاخصة اللحظة بكل
توتراتها الحرجة .. لأنه يكتب الحدث بطريقة تجعله أكثر مشاركة وصناعة وتطلّبا . هنا تكمن خصوصية البوسيفي
ككاتب وصحفي ، خصوصية تنطلق تحديدا من
حيزها الكوني انسانيا لا اقليميا ، حيث تتوفر لديه نباهة تلك الملكة التي تستحثه على الاندغام في
الحدث تبعا لسياق ( فضائه ) عولمته .. مما
يجعل لغته أكثر شساعة وشمولية . قد يوغل البوسيفي أحيانا في التهكم و شرشحة العالم
، لكن من دون التخلّي عن واقعية لحظته والاخلال بعنفها ، ذلك على الرغم من نزوعه
الى أسطرة المعاش كسمة جمالية ، مما يجعله على قرابة بالغة التماس مع الكتابة في
بعدها الأدبي خدمة لجوهرها الصحفي .وهذا ما اكسبه حضورا يكاد أن يكون طاغيا ، بفضل
تلك الفذاذة التي توائم بين نكهة الصحافة
ولذاذة الأدب .
(2)
مناسبة
هذا الحديث تأتي بمثابة احتفاء متواضع لكتاب البوسيفي الأول ، (1) احتفاء متواضع بقامة سامقة ، وعلى الرغم من شغفي بقراءاته- كما أشرت - منذ أكثر من ربع قرن ، لكن تظل مسالة تقديمه
متعذّرة ، ولن أتنصل هنا من ضعف الاحاطة
به ، فهو كاتب متعدّد الملكات ، متنوّع وغزير وفوضوي ومنظم وشكس ، ترافقه أينما
حلّ فذاذة بالغة التفرد والاقتدار في التأسيس والاضافة : التأسيس لفن جماليات التهكّم ، لمشاريع صحفية أطرية ونوعية على المستوى المرجعي
،والأضافة تكمن دائما في توقه المستمر للتحديث وضخ دماء جديدة ، منسجمة ومتناغمة مع
طموح العصرنة في أبلغ تجلياتها معرفة وتطورا . لذا تقتضي معرفته بالضرورة مهمّة
انصافه وموقعته ضمن المكانة اللائقة به ، وهو ما يبدو أكثر مشقة في مشهد صحفي
وثقافي ( محّلي ) شهد فترة من التقطّعات
والتشتت والخمول ، مما أسهم في شلّ عديد الخبرات والكوادر الصحفية . محمود
البوسيفي كائن يتمتّع بقدرة خارقة على سكلجة اللحظة ، ولديه أيضا –وهذه احدى
الميّزات المبهرة في شخصيته - هبة ( الكاريزما ) ،حيث يحتشد في مكتبه رهط الصعاليك
والمشردين وصفوة التكنوقراط.. هذه المفارقة ، ليست في منأى عن نسيج كتاباته ، وهي مكمن الدهشة ازاء قدرته على أن يكون
مفارقا ، والدهشة في حيوية مكنته على سبر الأشياء والكلمات ، وقدرته على التشخيص
والتحليل ، مما قد يكفل له أن يكون مفكرا لو منح لأنساقه ما يشفع لها من الهدوء
والتأمل . لكن ميله الى الهامش ، وفتنته الخاصةبذلك المناخ المدّجج دائما بالرفقة
، جعله يتواطأ الى حدّ التطرف مع هكذا فتنة ، لتبدو لحظته بقدر مشاعيتها وتشتّتها
، كأنها تستمد خصوصيتها بطمأنينة عالية من هذه المشاعية المفرطة ، وتكتسب تماسكها
ورصانتها من تشظيها ، وأيضا تقتنص هدوءها من صلابة الضجيج. وهو ما يضاعف الحيرة ازاء مكنته من لحظة الكتابة
من دون أن يتوقف عن محادثة جلاسه ، أنه يكتب بسرعة فائقة ، ولايعبأ بمراجعة أو تنقّيح
أو اعادة قراءة ما يكتبه، كذلك يندر أن
يشطب أو يستدرك أو يضيف .وقد شهدت بنفسي لحظة كتابته لعديد المقالات ، وقراءتها
وهي لمّا تزل طازجة يصاعد البخار من ثنايا أحرفها . وكم تكون دهشتي حين أقرأها
دونما توقف ، وبالكاد ألتقط أنفاسي من شدّة ما تنطوي عليه من أثارة وامتاع . مع
أنه غير ميّال للاحتفاء بما ينشره ، حتى أنه لا يملك أرشيفا لمعظم مقالاته
ونصوصه الأدبية التي انفرطت
وانبذرت في عديد الصحف والمجلات الوطنية والعربية
عبر أكثر من ثلاثين سنة ، لهذا يبدو البوسيفي ، على الرغم من شهرته الواسعة
في الأوساط الصحفية والثقافية العربية ، شديد التواضع ، وأيضا شديد التواطؤ مع الشفوي ، فهو كما اشرت به شغف جامح أن يكون
مدجّجا بالأصدقاء ، وأين ما حلّ ، حتما سيترك
صخبا يصعب نسيانه .
(3)
أن ما يمكن التقاطه بسهولة عابرة في مقالات البوسيفي هو قدرتها على الرصد الحاذق ، قدرتها على تكثيف
راهنية الحالة والاحاطة بالحدث الى حد المساهمة في تشكّله واعادة رسم ملامحه المخفية
. وكأن البوسيفي يضمر على نحو ما تحديا لكشف حقيقة الصورة ، أو هو ينبري على تعرية
المتواري وفضح المتستّر ، وفضّ بكارة الغامض
.. لذا نراه غالبا ما يروم تكثيف راهنية الحدث على طريقته ، بتهكم لاذع وسخرية مرة ، متوغلا في هامشية
التفاصيل الصغيرة ، اذ يروق له أن ينطلق
من منطقة مهملة غاية في الصغر ، ليجعل
منها بؤرة واقع نابض ، شديد النصّاعة واللمعان ، لكأنها في شكلها المفصلي أكثر محورية وتجذّرا من أسّها المحوري ، ولعلّ هذه السمة تتمخّض عند البوسيفي عن تلك الطاقة العالية من السخرية المضمرة
دائما بتفكّه معلن . هذه المفارقة بين
الدسّ والجهر ، بين الاخفاء والتصريح ، بين البساطة والتعقيد ، بين التسطيح
والعمق ، تتضافر مع خصيصات فنية أخرى
يملكها البوسيفي لتنضيد عديد المضان
الفنية والموضوعية ، ناهيك عن ما تنطوي عليه آليته اللوجستية من أمدادات مسعفة ،
سريعة الضخّ والحركة والانتشار ، مما يجعل عبارته تتحرك بأكسجين أضافيّ ، ليهبها تلك الحيوية والنباهة والروح اللمّاحة
، المترعة بالشجاعة والمرح ، فلا غرابة اذن في أن يكسب هذا المقاتل الباسل معركة
الكلمة ، وأن يأوي كلماته أخيرا في كتاب موثّق ، سيكون مدار سجال ومحط أحتفاء
وأشارة وضيئة ينبغي التوقف عندها بمهابة وأحترام في مسيرة فن المقالة .
_______
(1)
محمود البوسيفي . أبجدية الرمل . الناشر : الكتابة الأخرى . القاهرة 2007.