وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 6 أغسطس 2015

أبجدية الرمل . محمود البوسيفي

 مفتاح العمّاري
                         

________   جماليات التهكّم

                            


        
(1)
     أشير هنا الى أنني أحد القراء المعجبين جدا بمقالات ونصوص زميلنا الكاتب والصحفي الأستاذ " محمود البوسيفي " ، فهو وباقتدار شديد الحنكة معلّم فذّ قلّ نظيره ، وأعترف دون غضاضة  بأنني أغبطه ، وربما أحسده علنا ازاء جرأته الجسورة ، سريعة الانقضاض على الكلمات التي قلّما تخطئ في ايواء بساطة ذات غور لا يضاهي ، فهو : بقدر ما يغزو سطح الورقة مكتسحا بياضها باستنفار سريع التسويد ، بقدر ما يفلح  في تعميقها واضافة حياة شديدة البهجة والهيجان ، متسلحا بدربة واثقة ، مشفوعة سلفا بصيد نادر ، ليضعك دائما على تماس مع عبارته السلسة التي هي أخلاط منسجمة ، تتناغم في نسيجها عدة أساليب : خصائص سردية ، تقريرية أحيانا ، مع شعرية حارة ، لها حظوظها الوافرة من الاعجاز ، واصالة التعبير التي تحوز  على بهاء شرس ومناكف  ، يبدو للوهلة بدهيا ، لكنه ما يلبث أن يفرض عليك سحره ، ويشدّك اليه بتفكّه لا يخلو من مفارقة التشكك ومشاخصة اللحظة بكل توتراتها الحرجة .. لأنه يكتب الحدث بطريقة تجعله أكثر مشاركة  وصناعة وتطلّبا . هنا تكمن خصوصية البوسيفي ككاتب  وصحفي ، خصوصية تنطلق تحديدا من حيزها الكوني انسانيا لا اقليميا ، حيث تتوفر لديه نباهة  تلك الملكة التي تستحثه على الاندغام في الحدث  تبعا لسياق ( فضائه ) عولمته .. مما يجعل لغته أكثر شساعة وشمولية . قد يوغل البوسيفي أحيانا في التهكم و شرشحة العالم ، لكن من دون التخلّي عن واقعية لحظته والاخلال بعنفها ، ذلك على الرغم من نزوعه الى أسطرة المعاش كسمة جمالية ، مما يجعله على قرابة بالغة التماس مع الكتابة في بعدها الأدبي خدمة لجوهرها الصحفي .وهذا ما اكسبه حضورا يكاد أن يكون طاغيا ، بفضل تلك الفذاذة  التي توائم بين نكهة الصحافة ولذاذة الأدب .
(2)
    مناسبة هذا الحديث تأتي بمثابة احتفاء متواضع لكتاب البوسيفي الأول  ، (1) احتفاء متواضع بقامة سامقة  ، وعلى الرغم من شغفي بقراءاته- كما أشرت -  منذ أكثر من ربع قرن ، لكن تظل مسالة تقديمه متعذّرة  ، ولن أتنصل هنا من ضعف الاحاطة به ، فهو كاتب متعدّد الملكات ، متنوّع وغزير وفوضوي ومنظم وشكس ، ترافقه أينما حلّ فذاذة بالغة التفرد والاقتدار في التأسيس والاضافة :  التأسيس لفن جماليات التهكّم ،  لمشاريع صحفية أطرية ونوعية على المستوى المرجعي ،والأضافة تكمن دائما في توقه المستمر للتحديث وضخ دماء جديدة ، منسجمة ومتناغمة مع طموح العصرنة في أبلغ تجلياتها معرفة وتطورا . لذا تقتضي معرفته بالضرورة مهمّة انصافه وموقعته ضمن المكانة اللائقة به ، وهو ما يبدو أكثر مشقة في مشهد صحفي وثقافي ( محّلي )  شهد فترة من التقطّعات والتشتت والخمول ، مما أسهم في شلّ عديد الخبرات والكوادر الصحفية . محمود البوسيفي كائن يتمتّع بقدرة خارقة على سكلجة اللحظة ، ولديه أيضا –وهذه احدى الميّزات المبهرة في شخصيته - هبة ( الكاريزما ) ،حيث يحتشد في مكتبه رهط الصعاليك والمشردين وصفوة التكنوقراط.. هذه المفارقة ، ليست في  منأى عن نسيج  كتاباته  ، وهي مكمن الدهشة ازاء قدرته على أن يكون مفارقا ، والدهشة في حيوية مكنته على سبر الأشياء والكلمات ، وقدرته على التشخيص والتحليل ، مما قد يكفل له أن يكون مفكرا لو منح لأنساقه ما يشفع لها من الهدوء والتأمل . لكن ميله الى الهامش ، وفتنته الخاصةبذلك المناخ المدّجج دائما بالرفقة ، جعله يتواطأ الى حدّ التطرف مع هكذا فتنة ، لتبدو لحظته بقدر مشاعيتها وتشتّتها ، كأنها تستمد خصوصيتها بطمأنينة عالية من هذه المشاعية المفرطة ، وتكتسب تماسكها ورصانتها من تشظيها ، وأيضا تقتنص هدوءها من صلابة الضجيج.  وهو ما يضاعف الحيرة ازاء مكنته من لحظة الكتابة من دون أن يتوقف عن محادثة جلاسه ، أنه يكتب بسرعة فائقة ، ولايعبأ بمراجعة أو تنقّيح أو اعادة  قراءة ما يكتبه، كذلك يندر أن يشطب أو يستدرك أو يضيف .وقد شهدت بنفسي لحظة كتابته لعديد المقالات ، وقراءتها وهي لمّا تزل طازجة يصاعد البخار من ثنايا أحرفها . وكم تكون دهشتي حين أقرأها دونما توقف ، وبالكاد ألتقط أنفاسي من شدّة ما تنطوي عليه من أثارة وامتاع . مع أنه غير ميّال للاحتفاء بما ينشره ، حتى أنه لا يملك أرشيفا  لمعظم مقالاته  ونصوصه الأدبية التي  انفرطت وانبذرت في عديد الصحف والمجلات الوطنية والعربية  عبر أكثر من ثلاثين سنة ، لهذا يبدو البوسيفي ، على الرغم من شهرته الواسعة في الأوساط الصحفية والثقافية العربية ،  شديد التواضع ، وأيضا شديد التواطؤ  مع الشفوي ، فهو كما اشرت به شغف جامح أن يكون مدجّجا بالأصدقاء  ، وأين ما حلّ ، حتما  سيترك  صخبا يصعب نسيانه .
(3)
    أن ما يمكن التقاطه بسهولة عابرة  في مقالات البوسيفي  هو قدرتها على الرصد الحاذق ، قدرتها على تكثيف راهنية الحالة والاحاطة بالحدث الى حد المساهمة في تشكّله واعادة رسم ملامحه المخفية . وكأن البوسيفي يضمر على نحو ما تحديا لكشف حقيقة الصورة ، أو هو ينبري على تعرية المتواري وفضح المتستّر ، وفضّ  بكارة الغامض .. لذا نراه غالبا ما يروم تكثيف راهنية الحدث على طريقته  ، بتهكم لاذع وسخرية مرة ، متوغلا في هامشية التفاصيل الصغيرة  ، اذ يروق له أن ينطلق من منطقة  مهملة غاية في الصغر ، ليجعل منها بؤرة واقع نابض ، شديد النصّاعة واللمعان ، لكأنها في شكلها المفصلي  أكثر محورية وتجذّرا من أسّها المحوري  ، ولعلّ هذه السمة تتمخّض عند البوسيفي  عن تلك الطاقة العالية من السخرية المضمرة دائما بتفكّه معلن . هذه المفارقة  بين الدسّ والجهر ، بين الاخفاء والتصريح ، بين البساطة والتعقيد ، بين التسطيح والعمق  ، تتضافر مع خصيصات فنية أخرى يملكها البوسيفي  لتنضيد عديد المضان الفنية والموضوعية ، ناهيك عن ما تنطوي عليه آليته اللوجستية من أمدادات مسعفة ، سريعة الضخّ والحركة والانتشار ، مما يجعل عبارته تتحرك بأكسجين أضافيّ  ، ليهبها تلك الحيوية والنباهة والروح اللمّاحة ، المترعة بالشجاعة والمرح ، فلا غرابة اذن في أن يكسب هذا المقاتل الباسل معركة الكلمة ، وأن يأوي كلماته أخيرا في كتاب موثّق ، سيكون مدار سجال ومحط أحتفاء وأشارة وضيئة  ينبغي  التوقف عندها بمهابة وأحترام في مسيرة  فن المقالة . 
_______

(1) محمود البوسيفي . أبجدية الرمل . الناشر : الكتابة الأخرى . القاهرة 2007.