وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الاثنين، 27 يوليو 2015

كثبان النمل في السافانا *


مفتاح العمّاري



لغة بيضاء لحكاية سوداء







" أفريقيا أخبريني ، يا إفريقيا
أهذه أنت  ، هذا الظهر المنحني
هذا الظهر الذي ينوء بحمل الإذلال
الظهر المرتعش بفعل الندوب الحمراء
يقول نعم للسوط تحت شمس الظهيرة
لكن صوتا وقورا يجيبني
أيها الابن المتهور . تلك الشجرة يافعة وقوية
تلك الشجرة المنتصبة هناك
في وحدة رائعة وسط الأزهار البيضاء والأزهار الباهتة
هي ذي إفريقيا ،  إفريقيتك
تكبر ثانية بصبر وعناد
وتكتسب ثمارها شيئا فشيئا
طعم الحرية المر "
   ( ديفد ديوب – أفريقيا ) (1)


        تحمل رواية  " كثبان النمل في السافانا " (2)  لتشنوا أشيبي رؤية واقعية لأفريقيا ما بعد الرجل الأبيض . أو لأفريقيا ضمن مخلّفات الأبيض ،  حيث يغدو الصراع على السلطة موضوع جريمة لا موضوع حياة إنسانية .  لكن التساؤل الذي يربك تنظيم نثر العلاقات في هذا المتن الأسود ، يبدأ انطلاقا من اللغة : اللغة ككائن حي ، ومتطلّب جوهري يموقع خارطة الحياة في بعدها الوجودي ، ليس كنسق فنّي ، بل كقيم وجودية ، تشير إلى هويات من روائح ورياح ورمال  وأضواء وظلال ونبض وقلق وحلم وخيال .
     نعثر في كثبان النمل على كل ما هو أشكالي ومعقد ومحير ومربك . فضاء يتسع للتملق والجبن والخديعة والتآمر والخيانة والغدر ، كما يتسع في اللحظة ذاتها ، للصدق والوطنية والحب والوفاء والنبل والشجاعة والإخلاص . نعثر أيضا ، على أجزاء مركّبة ،  من التاريخ ، والفلسفة ، والشعر ، والأسطورة ، والتربية ، والأدب ، وعلم النفس . كذلك على قطع من خريطة أفريقيا : الواقع والمتخيل .  كل شيء يمكن حشده في كثبان النمل ، مثلما يمكن لملمة العديد من الرموز والإشارات والملامح . ما من شيء متعذّر إلا ويأخذ حيزا معلنا أو خفيا . نجد العنف ، الطغيان ، الاستبداد ، السطوة ، والفوضى ، جوار التسامح والألفة والديمقراطية والشراكة . عالم بأسره يبدو أكثر قساوة وظلما ، وهو ينضّد علاقاته النثرية عبر هذا المقترح السردي الذي أراد الروائي  أن يصور من خلاله وقائع لحظته  ، في أدق تفاصيلها حرجاً وتوترا ، وأن يقفز من جهة أخرى متجاوزا الكائن ،  إلى ما هو متخيل وممكن ومحتمل . من جهتي قد أتوقّف عند ذلك الالتباس المتوتر  الذي يلتقط علاقة المثقف بالسلطة . وهنا يمكن استنطاق العديد من المناطق المعقدة .حيث نعثر هنا على كل شيء ، بما في ذلك اللغة البيضاء كمأزق حرج في آلية المتخيل الراوي  .
مأزق كانجان :
يكمن مأزق ( كانجان ) كقطعة متخيلة من خارطة إفريقيا فضاء الرواية ، يكمن تحديدا  في مأزق اللغة كأزمة ظاهرة تشكل نمط السلوك وتنشر الفساد في خلاياه ،  وتحدث خللا وجوديا في العلاقات بين الأشياء  و في نسيج قماشة الكائنات التي يبدو أنها تجد معضلة في التفكير ، في الحلم ، في استمرارية الحياة على نحو يهبها قدرا من الخصوصية .  أي أن سير الأحداث الذي تفترضه كثبان النمل ، يضعنا بالضرورة  إزاء أزمة هوية مفارقة ,  تعلن عن اشكاليتها بدءا من منشأ وأصل لغة السارد المتسلّط بطبعه على خلق وبناء أمة  كانجان ودولتها الهشة . أزمة مزدوجة تشي بنفسها خارج الرواية ، أي من تلك اللحظة التي أوجد فبها الراوي مسوغا يبرر تنظيم نثر علاقاته السردية بلغة اخرى غير اللغة الأصلية لكانجان . هذه اللغة هي لغة المستعمر . وبما أن مرحلة الأحداث المقترحة هي ما بعد حكم الأبيض . تنبري لغة الكتابة هنا كمفسدة محورية في عقل كائنات الرواية وجسدها . الأمر الذي يعد بمثابة مثلبة شديدة التعقيد في طبيعة مكونات النسق ، نظام العلاقات بين الأشياء والأسماء / نسق التفكير  والحلم والتخيل . هذه المعضلة التي يبررها الكاتب حسب ما جاء في المقدمة التي أوردها المترجم  بصدد طبيعة لغة الرواية كمفصل وجودي أولا  وفني ثانيا . باعتبار أن أول تماس يشار إليه يبدأ بسؤال محير من المترجم في مستهل مقدمته : " أيمكن تعقّب كلمات الفيلسوف أنتوني أبيا ، من جامعة هارفارد ، في وصفه لتشنوا أشيبي كأب مؤسس للأدب الأفريقي باللغة الانجليزية إلى أول تماس لأشيبي في خمسينيات القرن العشرين مع رواية جويش كاري " السيد جونسون " التي تدور أحداثها في موطن أشيبي ، نيجيريا . وكان قرأها عندما كان طالبا في جامعة ابادان في المرحلة الأخيرة من الحكم البريطاني للبلاد " . ؟
إذن تقر هذه الشهادة سلفا بتلمذة أشيبي وتأثره بأدب المستعمر  ، حيث لابد من التورط في لغة الآخر وثقافته . لكن ماذا عن رأي الكاتب نفسه في اختياره للانجليزية كلغة للكتابة . نقلا عن مقدمة المترجم أيضا، يقول أشيبي في هذا الصدد ، -  أنه قرر الكتابة بالانجليزية  الإفريقية  - " لأبين الصوت الجديد الذي  يصدر عن إفريقيا وأتحدث عن التجارب الإفريقية بلغة منتشرة عالميا ، وعليه فان إجابتي عن السؤال هل بإمكان الإفريقي أن يتقن الانجليزية بدرجة جيدة ليمكنه استعمالها بجدارة في الكتابة الخلاقة ؟ هي بكل تأكيد نعم . وإذا كان السؤال هل يمكنه استعمالها كمتحدث مثل أهلها  سيكون جوابي أرجو  ألا  يحدث ذلك ، حيث يجب أن يكون هدف الكاتب الأفريقي هو استعمال اللغة الانجليزية لكي يعبر عن رسالته أفضل تعبير ، دون احداث تغيير في بنية اللغة يفقدها قيمتها كعامل للتبادل العالمي " .
وعلى الرغم من هذا التبرير الذي جاء على لسان الكاتب الا أن مسألة اللغة تبدو قضية إشكالية أكثر من كونها مجرد أداة لصياغة تقرير اخباري او مراسلة اعلامية .  وبذا يمكن اعتبار كثبان الرمل تبعا للغتها : رواية انجليزية كتبت عن افريقيا . لأننا اذا أجزنا هذا المسوّغ سنبدو على نحو ما اكثر تملّقا للغة المستعمر باعتبارها لغة عالمية ، الأمر الذي يبرر لكل مجتمعات العالم الثالث أن تغير مسار وجهتها في لغة الكتابة وتقترح لغة الآخر باعتبارها الأكثر انتشارا وعالمية ، ومن ثم لتثبت جدارتها في اتقان لغته مثلما تتقن استخدام واستهلاك منتجاته الصناعية .

أزمة الحكم :
______      تنطلق الرواية تحديدا من ذلك المنعطف الحاد والمأزق الشرس في السلطة . " عندما دعي ذلك القائد العسكري الشاب من قبل أعضاء قيادة الانقلاب ليصبح صاحب الفخامة ، رئيس الدولة ، لم يكن لديه سوى أفكار قليلة حول ما يتعين عليه عمله ، فتصرف كأي شخص ذكي  . أستدعى أصدقاءه وقال : ماذا يجب أن افعل  ؟ " . لكن ما يلبث الحاكم بعد حين أن يرتدّ على أصدقائه وينقلب على نفسه ليخون قيمه ومعتقداته ،  ومن ثم تستفحل أداة الخيانة التي تم استنفار كوامنها وإيقاظ وساوسها وتتعقد آلتها إلى الحد الذي تبدو فيه أكثر هوسا بقطع أعناق أقرب الأصدقاء من رجال الدولة
الذين تم انتخابهم بقرابة روحية استأنست في أول أيام حكمها بصفوة الأصدقاء من المثقفين وأصحاب الخبرات الذين كان الولاء للوطن والإخلاص والصدق في خدمة تنميته هي الرهانات التي بموجبها تمت الاستعانة بهم ، إضافة إلى تلك القرابة الروحية وروح الصداقة التي تربط بعضهم بالحاكم منذ ربع قرن . وبذا فأن خيانة الحاكم لنفسه ، هي بمثابة إنذار يتفاقم يوما بعد يوم ضد المخلصين من أكثر رجال الدولة نزاهة . جريمتهم أنهم ظلوا على قيمهم وشجاعتهم في معالجة تعقيدات الحكم بمكاشفة عالية وشفافية معلنة . ولم يسلم من سيف الجلاد سوى أولئك الذين وجدوا في تملق الحاكم وسيلة مجدية للنجاة ، ومن ثم الانخراط في نسيج الخيانة . خيانة مثل وقيم ومعتقدات وأفكار  ، وأيضا خيانة وطن بأسره . أحد هؤلاء يسوّغ تملّقه بتمجيد الحاكم  " .. لأن ما تحتاجه هذه البلاد بالفعل هو دكتاتور قاس ، على الأقل لخمس سنوات كاملة  .. "  . في وقت أمسى فيه الحاكم  كطاغية موسوس يتململ في خياله السوداوي ، وأوهامه النزقة ، ومزاجية لحظاته المتقلّبة وهو يتهم من آزروه على تسيير دفة حكم دولة ( كانجان ) التي دفعت فاتورة باهظة من دماء أبنائها لكي تتحرر من دنس المستعمر الأبيض . وها هي تدخل من جديد في معترك الفوضى لتهرق المزيد من الدماء .  تقول أحدى شخصيات الرواية , " الآن يعيد الزمن نفسه من جديد في ارض الحكايات ، ربما ليس بالسوء نفسه كما في المرة الأولى ، ولكن قد تنتهي الأمور إلى الأسوأ  ، لماذا لأنه من غير الممكن أن يقوم شخص ما بالسير جنوبا ، مهتديا بضوء النجوم ، تاركا خلفه صغارا معاقين في برية السافانا ، وان يصل بتكتم إلى قرية صغيرة  ، ويقضي على قاطنيها  ويحتل أرضهم ويقول  : فعلت ذلك لأن الموت حدّق من خلا ل عيني ." وهكذا    تبدأ منطقة التوتر  في كثبان النمل انطلاقا من تلك المقالات التي يحررها ( أيكو أوسودي ) رئيس تحرير صحيفة الجازيت ، الذي تسلّم رئاستها من ( كريس ) بعد أن تولى الأخير مهمة منصب وزير للإعلام . لأن الافتتاحيات اليومية التي يحررها رئيس التحرير قد أخذت انتقاداتها الصريحة والحادة تقلق نوم سعادته.  يقول صديقه ( كريس ) وزير الإعلام " أنها تثير عدائية الجميع ... ما هي إلا مقالات مغلّفة بالموت ...  غير منتجة " . فتتفاقم حالة القلق لدى رئيس التحرير الذي يكتنفه شعور بالاضطهاد ومراقبة رجال أمن الدولة له ، الذين أخذوا يلاحقونه من مكان إلى آخر ، مقتفين أثر مشاويره اليومية بطريقة مقزّزة تثير غثيانا في نفسه وتساؤلا محيّرا يتحول إلى ميلو دراما من الحوار الداخلي ,"  سيعمل أولئك المسيطرون على زمام أمورنا  على وأد انتقاداتنا في مهدها  بإيهامنا بأن في حوزتهم حقائق لا تتوافر للآخرين من أمثالنا ، وأعرف  أنه من المحتم  التعامل معهم بشروطهم  ، فسلاحنا الأفضل ضدهم  ليس تجميع الحقائق ، وهو الأمر الذي يجيدونه ، بل هو العاطفة ، العاطفة فيها قوتنا وأملنا  ، وهي تساعد كثيرا عند الشدائد " .  لكن الأحداث تتصاعد في وتيرتها التراجيدية فيصدر الأمر بالقبض على رئيس التحرير الذي أعتبر نشاطه الصحفي والثقافي مؤامرة ضد أمن الدولة تحيك خططها أطراف أجنبية تسعى الى زعزعة استقرار البلاد ، وهكذا أتهم أيكو  في بيان رسمي صادر عن الدولة ، وعلى أثره  بدأت فصول سيناريو القبض عليه وقتله في ظروف غامضة .  لكن تفاصيل آيكو قد افترضت العديد من الملابسات الأخرى ، تطال صديقه كريس وزير الإعلام وخطيبته  بيييترس التي رفضت الرضوخ إلى شهوات الحاكم ، وواجهت محاولة اغوائها بصلابة جارحة مسّت مهابة صاحب السمو . هذه الواقعة ستكلفها ثمنا غاليا هي وخطيبها وزير الأعلام الذي سيقتل بعد أن يحاول  الهرب بعيدا عن العاصمة ، متنكرا في زي بائع لقطع غيار الدراجات النارية ،  حيث سيقتل بعد قليل ، وسط مشهد هزلي شديد المفارقة ، عندما تستفحل الفوضى من جديد ، في لحظة انقلاب أخرى  تحدث أثناء الهرب ، قتل عمدا ببندقية شرطي سكير استولى على شاحنة صناديق بيرة ، وحاول من ثم اغتصاب فتاة صغيرة .. حدث ذلك مصادفة على مرأى من حشد غفير من الناس ، بينهم كريسبي الذي كان قد استفزه الموقف فتحدى الشر طي السكير  من دون أن يحدس بأنه يسعى إلى حتفه . 
    كثبان النمل في السافانا ، تشي بالكثير من الوقائع الدامية : اضطرابات ، فوضى ، قمع ، عنف ، استبداد . لكن  وعلى الرغم من هذه الخلفيات التي ترسم جزءا من الخريطة السوداء ، هل يمكن اعتبارها رواية من الأدب الأفريقي . أثبت هذا السؤال استطرادا لمأزق اللغة التي نضدت بها طاقة هذه الرواية المتشابكة في نسيجها الفني بين السرد الوصفي  وشعرية النثر  مع غرابة عالية في التنويع أحيانا على الميثولوجي والاغتراف من أساطير المنطقة وضخ خرافاتها في نسيج السرد بتقنيات تأويلية  تفتح ممرات شديدة الإيغال في سراديب ذاكرة المخيلة الأفريقية .  



__________________________________________

*  عن كتابنا ( فن العزلة .. نهاية العالم ) 
 (1) من رواية  ( كثبان النمل في السافانا  )  .   
 (2) كثبان النمل في السافانا  للروائي  النيجيري : تشنو آشيبي .  ترجمة : فرج الترهوني .