مفتاح العمّاري
تعليق على
هامش رواية جوّنتنامو
صاحب
( عزازيل ) ، الرواية الانعطافة في أقاليم السرد العربي والتي حازت باقتدار على
بوكر العربية في نسختها الثانية : يوسف زيدان ، يقترح في ( جوّنتنامو ) إضافة
جديدة لا تقل فذاذة ورصانة وحفرا عن عزازيل . رواية مغوية وأسرة لا تنفك عن إثارة
تفانين السرد وكشف شهواته باقتدار يعيد للغة مهابتها بتلطّف وذكاء لا تعوزهما حنكة
الكيميائي ، وحكمة العارف بأسرار العربية وخباياها وزينتها . ولعلّ هذه الخاصية من
أهمّ مآثر وميّزات ( زيدان ) . ولأنه مفتون بالمضمر ، تحايل وبمكر الصيرفي ودهائه
على صهر عبارته بخامات هي اخلاط من كائنات تنمو برسوخ متعدد ، فيها شطحٌ صوفيٌّ ،
وسفرٌ رائي ، وريبة مؤمنة آمنة ، وقلق شكّاك ، ، وضراوة هاتكة ، ليسكّها من ثم بتلك الآلة العجيبة التي تعجن الشعر نثراً خالصاً
لا شائبة تطال أصالة نسبه غير نكهة خجولة
تدحرج السرد من مفازة ( ابن المقفّع ) إلى معقل ( جوّنتنامو) وحديقة ال ( هايد بارك ) . وقد احتال زيدان
لتمرير هكذا لغة عبر استدراج تلك الخلفية الدينية : الصوفية لبطل روايته ( أبو
بلال ، أو برس أو 717 ) : رهين محبس غونتنامو . والذي من خلال مكابداته التي
تواصلت قرابة ست سنوات من العزلة والتعذيب والترويع والإذلال ، حيث تتداعى صور
مريعة ، ومشاهد ضارية ، انطوت على تفاصيل شتى من الألم والانسحاق والصبر الأسطوري
. نتعرف على ( أبو بلال ) بدءا من لحظة اعتقاله ، وترحيله من قندهار ، الى
غونتنامو . صور عنيفة يتوطّن في حيزها المظلم والوضيء حشدٌ هائل من المفارقات .
ولكم تبدو الحياة هنا وهي تستيقظ محفوفة بأضدادها ، الموت ، الجريمة ، الحب ،
الزهد ، الشهوة ، الشذوذ ، القوة ، الهشاشة .. حيث نتعرّف على غثاثة سلالة بن لادن
، وهشاشة عرب قندهار ، وقنابل النابلم التي هي محض غائط يتقاذف عبر زنازين الجماعة
حين تختلف في توصيف الجن ، وترهات أخرى ، لا حصر لقيئها ، تفنّن ( زيدان ) في
جعلها مادة ثرية للتهكّم القادح بذكاء يغبط عليه . فضلا عن ذلك ، فأن الرواية بقدر
ما توصّف عالمها ، وتسرد وقائع تراجيديته
الدامية وأحداثه الوحشية ، تقدّم في الوقت نفسه تشخيصا ذكيا ، يشي بقراءة واعية
لأهم توترات لحظتنا الراهنة ، لاسيما فيما يتعلّق بمظاهر التطرف والعنف ، واللعبة
الغامضة للمخابرات الدولية خلف هذا الخراب . استمرأ زيدان أيضا في جونتنامو حيلة أخرى لا تقل مكرا ومجازا عن فتنة لغته
وسحرها حين حاول عبر السرد تمرير العديد من الأفكار والتأويلات التي تتعلق
بالعبادات والعقائد والتشريعات ، كالوضوء
والصلوات الخمس ، وتعدد الزوجات في الإسلام ، ومقارنة الأديان ، وغيرها من التلميحات
التي افترضها السرد عبر سياقه .