وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

فصد مُعلن لتاريخ الوله *



مفتاح العمّاري

فصد معلن لتاريخِ الوله

(1)
 في هذا الليلِ البعيد ،
 لم أجد  يا أبي شرفة صغيرة،
 أضع خدّي على نقاوة رخامها ، مرتشفا نكهة برودته المنعشة .
 لعلّي أستمتع قليلا برؤية الريح والأطفال والحدائق والأعياد .
لم أجد باباً رحيماً أطرقه ،
 أو قصيدةَ نثرٍ بريئة من معطف بيرنار.
لم التق شاعرَ حداثةٍ ، إلا ويدّعي الصداعَ  وعبادةَ رامبو
 وغزوَ الحاناتِ ، وتفكيكَ الجسد ،
وطردَ الجنِّ من أوديةِ الموسيقى .
لم أجد في صندوق بريدي رسالةَ عشقٍ واحدة
 أثق في نزاهة حبرها ،
 لكي  ألجأ إليها كشاعر أو عاشق أو متسول .
لم أجد وردةً أطمئنُ إلى شوكِها 
حتى أضعها كتاجٍ  على رأس حبيبتي .
 لأني لم أجد في آخر طبعةٍ رديئةٍ من كتابِ ( طوق الحمامة ) ،
حبيبةً واحدة  لم تغدر  بي نزوتُها ،
 كلما سرقني الوجع  بعيدا عن مزاج مخالبها .
فما أكاد أتشبّثُ بمتنِ عاشقةٍ حتى تنهار جدرانُ محبّتي
اثر أولِ هزّةٍ ليقينِ الخديعة .
وأيضا لم أجد في كلّ المصنّفاتِ الأثيرة ،
من ألف ليلة وليلة إلى (11 دقيقة ) لباولو كويلهو ،
 مرورا بالروض العاطر للشيخ  النفزاوي ، غير  نسخة رثّة
لامرأة مفتونة بتاريخِها  السرّي.
(2)
إذن ، يلزمني يا أبي فصد هذه الهشاشة التي تجعلني أتشظّى تيهاً ،
كلّما تنمّرت قطةٌ متوحّّشةٌ على شطيرةِ قلبي ،
 انهمرُ متضرّعاً تحت براثِنِهَا  .
ومثل صوفيّ شفّه الوجدُ، أقبّلُ أحذية كل الأنبياء ،
لكي  يقودوا شعوبَ الأرضِ ، بقضّها وقضيضها إلى الجنّةِ الموعودة ،
ويتركوا لي  صدرَها جحيماً أتمرّغُ على تاريخه بفمِ الغابة ،
 وذاكرةِ المجاعات  .
لكني الآن أتوسّل لهم خاشعا ،
أن يأخذوا جميع المعاجم الحمراء ومعابد العشق ،
 وحقول تفاح الغواية ، ودواوين الأشعار الثملة بسكر خلاعتها ،
إلى المتاحف والمخازن والنفايات .
لأنّي لم أعد مولعاً بفكرةِ الموتِ بين أحضانِ غيمةٍ سكرانة ،
 أو على صدرِ أنثى حارة .
 طلّقتُ شغفي  بالنجوم والنبيذ والرقص يا أبي  ،
 والسفر في قطارات الليل ، واختراق السّرر  الفاتنة لعواصم
اللهو  وأقبية المسرّات  .
(3)
 لاشيء الآن  يا أبي يجعلني سعيدا
سوى النوم في صحراء قصيدتي ،
في كهوفِ صمتِها ، والنظر إلى جدرانِها البدائية
خاليةً من المسامير  والضوضاء و مقابس الكهرباء .
قد انتزعتُ كل اللوحات وصور العاشقات  وعناوين الرغبة من
خزائن ولهي . وسأظلّ في ما تبقّى من رحلة الرئة ،
 أعني رئتي التي امتصّت كل أنواع السموم وحقن الكيماوي ،
وغبار القارات النائية ، رئتي التي رشفت رضابَ الألفةِ ،
وسحبَ التبغِ الرخيصِ وعطرَ الحرائق وعواءَ الحروب ،
وهي تلفظُ في شرايين قلبي حمّم منجنيقاتها،
من دون أن تهبني سانحة آمنة ،
لكي أحملَ خيالي نظيفاً إلى السرير ،
وأطفالي إلى برِّ الأحلامِ البريئة ،
 وجراحي إلى الجنّة .
 سأظل يا أبي  متيّماً بقصيدتي، وهي في أبهى تجليات عريها ،
صامتةً وماكرةً ومستوحشةً
 كلغمٍ مهجور يترقّّبُ فاجعةَ ضحاياه من الغاوين ،
 الذين ترمي بهم النزواتُ على تخومها ،
 وقد علقوا بحراشف جبّها الشبق .
 ما أن تلمس أصابعُ شهوتِهم الثملة حلمةَ الظلمةِ النافرة ،
حتى تتفتّت قبابُ لذّتهم ،
وقد تحولت إلى مزق من الحكايات المحزنة .
 مدينا في ذلك لخطفةِ نيوتن ،
لحظة أن علقت فراشةُ ربيعٍ بشباكِ زهرةٍ ضارية ،
وأيضا للفاتكةِ بفتنتِها الضالةِ ، التي حوّلتنِي من عابدٍ مهووسٍ
 بخرائط المتعِ ،  إلى راهبِ سرّ ، وكاهنِ خفاء .
(4)
 قد تعبتُ يا أبي ، قبل موتي، وبعد موتك /
حشدٌ عنيفٌ من دبابيس بغيضةٍ تكمن عند حافة صوتي
 متربّصة عودة القصائد إلى الشفاه المرحة.
كلّما قفزت خارج كفني ، متخطّيا عتبة خوفي من البياض،
 لمحتُ صوراً رثةً تتفاقمُ غاضبة من أخطاء الرماد .
: تلك جريرةُ سياطك يا أبي /
 سياطُك التي تركتْ على جِلدِ تاريخي وِزْرَاً هائلاً من الخرائط
 والخطوط والتضاريس الدامية/
 سياطُك التي تغضب بهوسٍ مشتت.
 أنا الكهلُ المنبوذ الذي لم يكن قبل قليل
سوى صبيّ من خشب هشّ
 وحذاء أجرب ، وبضعةِ أحلامٍ شاردة .
 هذا كل شيء يا أبي ،
باستثناء وحيدٍ ، يثيرُ بلاغةَ النساءِ، ظَلَّ لزمنٍ طويلٍ مغوياً وعنيدا ،
 ينتزع الحروبَ والقصائدَ والأزهارَ من صمتها ،
ويصخبُ بلذائذ طازجة ,
 لم تكن  سوى الخديعة ذاتها
التي خرافة وهم يتكوّر بعنف أشدّ حنكة .
كانت الخطيئة جارة  فتنة /
من  فروسية  عطيل و خلاعة  أبي نواس ،
إلى وصايا الحكيم  لوتسو في معاقل الطاو .
فيما كان السرطانُ الماكرُ ،  عازفُ الألم ،
 و صاحبُ النظرةِ الخرساء والورم المتهتك،
  بعد خدعتين ينبلجُ ذكياً وهو يتدحرج في أحشائي،
كوابلٍ من الخيانات الطائشة .
 ثلاثُ سنوات لا هوادة فيها ،
 تتضور مهجورة بصديدها وطميها وصراخها .
هذه بعض مآثر ولهي يا أبي  تتبختر بعشقها،
  فانتظر ريثما  تتمزق البراهين ،
انتظر يا أبي
 أيها الشرطي الذي غادر  نوبته قبل أربعين  شتاء .
أريد أن أسألك الآن عن بكائي الوحيد ،
عندما كنتَ تضربني بحزامِك الجلديّ
 وأنا أستغيثُ متشبّثاً بسروالك الكاكيّ .....
: أرحمني ( يا بيّيّ .. ) .
لماذا توقفت أيها الحنون عن ضربك لي ،
 وهجرت أوجاعي غير عابئ بندوب أحلامي .
لماذا قررت أن تغربَ عن رمادي من دون أن تتركَ لي جمرة واحدة
في موقدِ الأيام ، أو بريقا سوى غضبك /
لماذا يا أبي أنساك كل هذا الوقت ،
لأطالبك الآن أن ترى ما آلت إليه نطفتُك الماجدة  .
أسألك أن تستيقظ ، ولو لبرهةٍ قصيرةٍ
 لكي نتحدث قليلاً في شجون العزلةِ
والمرضِ والخيانةِ والسفرِ والطحين .
 فمنذ دهر وأنا أتألم ،
وما من أحد هنا غير المرضى  /
ثمة كهل مستجد ، تسقطُ الجريدةُ عن السريرِ وهو يشخر/
 ثمة ممرٌ مكتنز برائحة الدواء /
 ثمة حطامٌ يشبهني ،  يكتب سيرته الذاتية في الغرفة 901 :
رجلٌ مهووس  بالعباراتِ الضائعة ،
 أحياناً يبتكرُ صنفاً جديداً من الخيال ،
يبتكرُ صلاةً أُخرى تليقُ بالألم .
 يضيفُ المزيدَ من الموسيقى ويغّني في داخله .
 رجل بثلاثة أسماء نظيفة
بثلاثة وجوه تتناسخ ،
 يدخل معاقلَ الفتنةِ ، معلناً كقارةٍ تحترق.
 رجلٌ لا يُعدّ وحيداً وكَفَى /
أو محض مريض ينتظر جلسةَ الكيماوي ،
 لا يُعَدّ عاشقاً يبكي علي ليلاه ،
 ولا أيّ شيء قد يتكرّر دونما زلزلة ،
 فقط محض رفاتٍ على سريرٍ مجهّز بالريموت كونترول /
 رجل ليس لديه ما يتركه للريح
سوى المزيد من الخيول
 والعنفوان والأساطير /
ليس لديه ما يخسره غير الضحك من نفسه /
ليس لديه أحد سوى العالم ثملا بالنظر إلى رجل بثلاثة
وجوه ثرية بالحكايات ، يُحَيّيّ ممرضتَه بلطف :
صباح الخير أيّتُها الوضيئة ،
التي فمُها نغمٌ مصقول /
اللامعةُ كجبهةِ صوفيّ خجول /
 المنقرضةُ بالنظرِ إلى صرامةِ بهائِها الفسيح /
الرقراقةُ كقصصِ الأطفالِ عند النوم /
المجلوةُ من الداخل.  يا سرّة الماء ،
الذكيةُ أسنانُها حين تبتسم  .
(5)
رجلٌ مغمورٌ بالغيب .. يحيّ نفسَه
حيث لا أحد ، يومَ الأحد ،
  :  صباحُ الخير ، سنة أخرى، أيها الفحل /
أكتبْ ، ولا تكترث /
سيخسرونَكَ إذا سَهَوا ،
 سيخسرونك أيضاً إذا ناموا بعيداً عن خيالِكَ ،
سيخسرون عناوينَ ألفتِهم  /
سيخسرون المآثر التي ادخروها لعواصم أخري ،
 غير هذه الحنون التي تشملك بمشتقات صدرها /
سيخسرونك مرتين لأنهم كذبوا حين تجاهلوا
ما تنطوي عليه مخيلتُك من حدسٍ و أنهارٍ وحدائق وغيوم .
 الذين خشية أن يفقدوا مفاتيحَهم ، أهدروا المزيد من
 النوافذ والتذاكر والرؤى ،
سيّجوا دسائسَ أهوائِهم بالأسلاك الشائكة
 وفقدوا بهاءَ النوم /
لم يستقبلوا سوى الفجاءة والغبار
فتشردت موسيقاهُم
 وأمسوا شتاتا بين قرقعة النشاز .
لم يألفوا غير المزيد من السواد وفزّاعات المجون /
لم يجدوا غير تفسّخهم خليلَ ليل /
لهذا ظلوا يخسرونك كلما نأوا يا لطيفَ عن لطفِك /
 وأنت من جديد ،
كل ، صباح الخير : قصيدة أخرى .
تستخلصُ خيمياءَ الضوء من منازل الرماد.
هكذا أولاً ، وهكذا أخيراً ،
: يصل النثرُ الوحشيُّ  إلى مطافِه الآمن ،
 بمخيلةٍ واثقة ، قابضاً حجّةَ اليقين ،
من دون أن يهزأَ من روحِ الموسيقى ،
أو يخلعَ حدسَ النار  .
___

برلين : شتاء2009 
* من نصوص كتاب : حياة الظل .