مفتاح العمّاري
فصد معلن
لتاريخِ الوله
(1)
في هذا الليلِ البعيد ،
لم أجد يا أبي شرفة صغيرة،
أضع خدّي على نقاوة رخامها ،
مرتشفا نكهة برودته المنعشة .
لعلّي أستمتع قليلا برؤية
الريح والأطفال والحدائق والأعياد .
لم أجد باباً رحيماً أطرقه ،
أو قصيدةَ نثرٍ بريئة من معطف
بيرنار.
لم التق شاعرَ حداثةٍ ، إلا ويدّعي الصداعَ وعبادةَ رامبو
وغزوَ الحاناتِ ، وتفكيكَ
الجسد ،
وطردَ الجنِّ من أوديةِ الموسيقى .
لم أجد في صندوق بريدي رسالةَ عشقٍ واحدة
أثق في نزاهة حبرها ،
لكي ألجأ إليها كشاعر أو عاشق أو متسول .
لم أجد وردةً أطمئنُ إلى شوكِها
حتى أضعها كتاجٍ على رأس
حبيبتي .
لأني لم أجد في آخر طبعةٍ
رديئةٍ من كتابِ ( طوق الحمامة ) ،
حبيبةً واحدة لم تغدر بي نزوتُها ،
كلما سرقني الوجع بعيدا عن مزاج مخالبها .
فما أكاد أتشبّثُ بمتنِ عاشقةٍ حتى تنهار جدرانُ محبّتي
اثر أولِ هزّةٍ ليقينِ الخديعة .
وأيضا لم أجد في كلّ المصنّفاتِ الأثيرة ،
من ألف ليلة وليلة إلى (11 دقيقة ) لباولو كويلهو ،
مرورا بالروض العاطر
للشيخ النفزاوي ، غير نسخة رثّة
لامرأة مفتونة بتاريخِها
السرّي.
(2)
إذن ، يلزمني يا أبي فصد هذه الهشاشة التي تجعلني أتشظّى تيهاً ،
كلّما تنمّرت قطةٌ متوحّّشةٌ على شطيرةِ قلبي ،
انهمرُ متضرّعاً تحت براثِنِهَا .
ومثل صوفيّ شفّه الوجدُ، أقبّلُ أحذية كل الأنبياء ،
لكي يقودوا شعوبَ الأرضِ ،
بقضّها وقضيضها إلى الجنّةِ الموعودة ،
ويتركوا لي صدرَها جحيماً
أتمرّغُ على تاريخه بفمِ الغابة ،
وذاكرةِ المجاعات .
لكني الآن أتوسّل لهم خاشعا ،
أن يأخذوا جميع المعاجم الحمراء ومعابد العشق ،
وحقول تفاح الغواية ، ودواوين
الأشعار الثملة بسكر خلاعتها ،
إلى المتاحف والمخازن والنفايات .
لأنّي لم أعد مولعاً بفكرةِ الموتِ بين أحضانِ غيمةٍ سكرانة ،
أو على صدرِ أنثى حارة .
طلّقتُ شغفي بالنجوم والنبيذ والرقص يا أبي ،
والسفر في قطارات الليل ،
واختراق السّرر الفاتنة لعواصم
اللهو وأقبية المسرّات .
(3)
لاشيء الآن يا أبي يجعلني سعيدا
سوى النوم في صحراء قصيدتي ،
في كهوفِ صمتِها ، والنظر إلى جدرانِها البدائية
خاليةً من المسامير والضوضاء
و مقابس الكهرباء .
قد انتزعتُ كل اللوحات وصور العاشقات
وعناوين الرغبة من
خزائن ولهي . وسأظلّ في ما تبقّى من رحلة الرئة ،
أعني رئتي التي امتصّت كل
أنواع السموم وحقن الكيماوي ،
وغبار القارات النائية ، رئتي التي رشفت رضابَ الألفةِ ،
وسحبَ التبغِ الرخيصِ وعطرَ الحرائق وعواءَ الحروب ،
وهي تلفظُ في شرايين قلبي حمّم منجنيقاتها،
من دون أن تهبني سانحة آمنة ،
لكي أحملَ خيالي نظيفاً إلى السرير ،
وأطفالي إلى برِّ الأحلامِ البريئة ،
وجراحي إلى الجنّة .
سأظل يا أبي متيّماً بقصيدتي، وهي في أبهى تجليات عريها ،
صامتةً وماكرةً ومستوحشةً
كلغمٍ مهجور يترقّّبُ فاجعةَ
ضحاياه من الغاوين ،
الذين ترمي بهم النزواتُ على
تخومها ،
وقد علقوا بحراشف جبّها الشبق
.
ما أن تلمس أصابعُ شهوتِهم
الثملة حلمةَ الظلمةِ النافرة ،
حتى تتفتّت قبابُ لذّتهم ،
وقد تحولت إلى مزق من الحكايات المحزنة .
مدينا في ذلك لخطفةِ نيوتن ،
لحظة أن علقت فراشةُ ربيعٍ بشباكِ زهرةٍ ضارية ،
وأيضا للفاتكةِ بفتنتِها الضالةِ ، التي حوّلتنِي من عابدٍ مهووسٍ
بخرائط المتعِ ، إلى راهبِ سرّ ، وكاهنِ خفاء .
(4)
قد تعبتُ يا أبي ، قبل موتي،
وبعد موتك /
حشدٌ عنيفٌ من دبابيس بغيضةٍ تكمن عند حافة صوتي
متربّصة عودة القصائد إلى
الشفاه المرحة.
كلّما قفزت خارج كفني ، متخطّيا عتبة خوفي من البياض،
لمحتُ صوراً رثةً تتفاقمُ
غاضبة من أخطاء الرماد .
: تلك جريرةُ سياطك يا أبي /
سياطُك التي تركتْ على جِلدِ
تاريخي وِزْرَاً هائلاً من الخرائط
والخطوط والتضاريس الدامية/
سياطُك التي تغضب بهوسٍ مشتت.
أنا الكهلُ المنبوذ الذي لم يكن
قبل قليل
سوى صبيّ من خشب هشّ
وحذاء أجرب ، وبضعةِ أحلامٍ
شاردة .
هذا كل شيء يا أبي ،
باستثناء وحيدٍ ، يثيرُ بلاغةَ النساءِ، ظَلَّ لزمنٍ طويلٍ مغوياً
وعنيدا ،
ينتزع الحروبَ والقصائدَ
والأزهارَ من صمتها ،
ويصخبُ بلذائذ طازجة ,
لم تكن سوى الخديعة ذاتها
التي خرافة وهم يتكوّر بعنف أشدّ حنكة .
كانت الخطيئة جارة فتنة /
من فروسية عطيل و خلاعة
أبي نواس ،
إلى وصايا الحكيم لوتسو في
معاقل الطاو .
فيما كان السرطانُ الماكرُ ، عازفُ الألم ،
و صاحبُ النظرةِ الخرساء
والورم المتهتك،
بعد خدعتين ينبلجُ ذكياً وهو
يتدحرج في أحشائي،
كوابلٍ من الخيانات الطائشة .
ثلاثُ سنوات لا هوادة فيها ،
تتضور مهجورة بصديدها وطميها
وصراخها .
هذه بعض مآثر ولهي يا أبي
تتبختر بعشقها،
فانتظر ريثما تتمزق البراهين ،
انتظر يا أبي
أيها الشرطي الذي غادر نوبته قبل أربعين شتاء .
أريد أن أسألك الآن عن بكائي الوحيد ،
عندما كنتَ تضربني بحزامِك الجلديّ
وأنا أستغيثُ متشبّثاً
بسروالك الكاكيّ .....
: أرحمني ( يا بيّيّ .. ) .
لماذا توقفت أيها الحنون عن ضربك لي ،
وهجرت أوجاعي غير عابئ بندوب
أحلامي .
لماذا قررت أن تغربَ عن رمادي من دون أن تتركَ لي جمرة واحدة
في موقدِ الأيام ، أو بريقا سوى غضبك /
لماذا يا أبي أنساك كل هذا الوقت ،
لأطالبك الآن أن ترى ما آلت إليه نطفتُك الماجدة .
أسألك أن تستيقظ ، ولو لبرهةٍ قصيرةٍ
لكي نتحدث قليلاً في شجون
العزلةِ
والمرضِ والخيانةِ والسفرِ والطحين .
فمنذ دهر وأنا أتألم ،
وما من أحد هنا غير المرضى /
ثمة كهل مستجد ، تسقطُ الجريدةُ عن السريرِ وهو يشخر/
ثمة ممرٌ مكتنز برائحة الدواء
/
ثمة حطامٌ يشبهني ، يكتب سيرته الذاتية في الغرفة 901 :
رجلٌ مهووس بالعباراتِ
الضائعة ،
أحياناً يبتكرُ صنفاً جديداً
من الخيال ،
يبتكرُ صلاةً أُخرى تليقُ بالألم .
يضيفُ المزيدَ من الموسيقى
ويغّني في داخله .
رجل بثلاثة أسماء نظيفة
بثلاثة وجوه تتناسخ ،
يدخل معاقلَ الفتنةِ ، معلناً
كقارةٍ تحترق.
رجلٌ لا يُعدّ وحيداً وكَفَى
/
أو محض مريض ينتظر جلسةَ الكيماوي ،
لا يُعَدّ عاشقاً يبكي علي
ليلاه ،
ولا أيّ شيء قد يتكرّر دونما
زلزلة ،
فقط محض رفاتٍ على سريرٍ
مجهّز بالريموت كونترول /
رجل ليس لديه ما يتركه للريح
سوى المزيد من الخيول
والعنفوان والأساطير /
ليس لديه ما يخسره غير الضحك من نفسه /
ليس لديه أحد سوى العالم ثملا بالنظر إلى رجل بثلاثة
وجوه ثرية بالحكايات ، يُحَيّيّ ممرضتَه بلطف :
صباح الخير أيّتُها الوضيئة ،
التي فمُها نغمٌ مصقول /
اللامعةُ كجبهةِ صوفيّ خجول /
المنقرضةُ بالنظرِ إلى صرامةِ
بهائِها الفسيح /
الرقراقةُ كقصصِ الأطفالِ عند النوم /
المجلوةُ من الداخل. يا سرّة
الماء ،
الذكيةُ أسنانُها حين تبتسم .
(5)
رجلٌ مغمورٌ بالغيب .. يحيّ نفسَه
حيث لا أحد ، يومَ الأحد ،
: صباحُ الخير ، سنة أخرى، أيها الفحل /
أكتبْ ، ولا تكترث /
سيخسرونَكَ إذا سَهَوا ،
سيخسرونك أيضاً إذا ناموا
بعيداً عن خيالِكَ ،
سيخسرون عناوينَ ألفتِهم /
سيخسرون المآثر التي ادخروها لعواصم أخري ،
غير هذه الحنون التي تشملك
بمشتقات صدرها /
سيخسرونك مرتين لأنهم كذبوا حين تجاهلوا
ما تنطوي عليه مخيلتُك من حدسٍ و أنهارٍ وحدائق وغيوم .
الذين خشية أن يفقدوا مفاتيحَهم
، أهدروا المزيد من
النوافذ والتذاكر والرؤى ،
سيّجوا دسائسَ أهوائِهم بالأسلاك الشائكة
وفقدوا بهاءَ النوم /
لم يستقبلوا سوى الفجاءة والغبار
فتشردت موسيقاهُم
وأمسوا شتاتا بين قرقعة
النشاز .
لم يألفوا غير المزيد من السواد وفزّاعات المجون /
لم يجدوا غير تفسّخهم خليلَ ليل /
لهذا ظلوا يخسرونك كلما نأوا يا لطيفَ عن لطفِك /
وأنت من جديد ،
كل ، صباح الخير : قصيدة أخرى .
تستخلصُ خيمياءَ الضوء من منازل الرماد.
هكذا أولاً ، وهكذا أخيراً ،
: يصل النثرُ الوحشيُّ إلى
مطافِه الآمن ،
بمخيلةٍ واثقة ، قابضاً حجّةَ
اليقين ،
من دون أن يهزأَ من روحِ الموسيقى ،
أو يخلعَ حدسَ النار .
___
برلين : شتاء2009
* من نصوص كتاب : حياة الظل .