وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الجمعة، 1 أغسطس 2025

تقطير العزلة 1*

مفتاح العمّاري

من أعمال التشكيلية: دينا القلال


    في تلك الليلة قبل أن يشرع في كتابة جملة واحدة تفتتح قصيدة، كان ممتعضا من مسألة النظر إلى الاستعارات بوصفها محض سكن للمعنى، فتبلبل وهو يحرك أكثر من مجاز حار، لصور شتى تتنفس كنجمة وحيدة في سقف الظلمة؛ مما اضطره لتمزيق كل عبارة لا تنتسب لذلك النقاء النظيف من شبهة كوكب متغطرس، حتى لا تغدو استعارته مجرد ظل وحسب. ربما لأن الألم المجهول ما انفك يتغلغل منتعشا داخل مخيلته التي ما تزال بعد دهر مثل زنزانة مضاءة بأحزان الأسرى، وأنه مهما سعى لإضافة المزيد من الموسيقى وباقات الورد وإشاعة العطر والشموع الملونة؛ سيظل الأسى متربصا بكل عبارة اجتهد في إغوائها. وحتى لا يعيد كرة الفشل قرر هذه المرة أن لا ينتظر الهام الكتابة بل سيغزوها. كان رجاؤه الوحيد، وربما الأخير؛ أن تختزل القصيدةُ كل حياته التي عاشها، وان يحتكم إلى ما احتفظت به ذاكرته من وقائع قليلة افلح في إنقاذها من التآكل، مبديا في آن؛ كل اعتراف رصين بوظيفة النسيان

    لهذا استأنس فكرة أن يكون محاربًا، وقال لنفسه “ما الضير في أن أؤسس جيشا وأخوض معركة ضارية لغزو الكلمات التي لم تستسلم”. كان فقط يتوق لاستعادة أوقات مفتقدة، هي مفتاح السرّ الذي يمكنه من كشف كلّ ما تغلّق عليه حتى ذلك الحين، في رحلة المكابدة من أجل الإمساك بشيء تائه. وضع حرفا جوار حرف، حتى أمكنه أن يخفي ما بين السطور أكثر من امرأة تسعى لأن تكون شيئا خارج الجدار؛ حينذاك تريث؛ ريثما تأخذ العباراتُ وجهتها التي كان يخشى أن تخذلها قواها على تحمّل مشقة السفر، ومجالدة المجهول القادم؛ لأن الحياة حسب ما خبرها طيلة ستين عاما لها أوجه تتقلّب، كما لها دورات ماكرة يصعب التكهن بمزاجها لمّا تغضب. ” أنا جربت ما هو أنكى من أن يكون الجندي هدفا لنيران صديقة “. لهذا كان عليه التخلي عن عشرين كتابا، هي حصيلة مسيرته الأدبية في بلاد لا تقرأ، والتنصل مما حملته من ترّهات. كان يكفيه أن يسخر من نفسه؛ ليكون أبعد من مجرد حلم. وفي آن؛ ارتأى أيضا ضرورة التخلص من هواجسه السوداء؛ بوصفه أحد القتلى في حرب تشاد، وأنه لم يكن في يوم ما يتيما أو مشردا منبوذا من ذويه؛ فليس بالضرورة أن تكون مخيلته حاضرة كجزء من أرشيف العائلة. لأن الكلمة لا تحتاج كتابا، أو بيتا يطل على ثلاث لغات أو أكثر؛ فقط إذا ما تاقتْ أن تكونَ نهرًا؛ عليها أن تطير

_________ 
باب بن غشير 12 ديسمبر 2018 

*سبق نشرها بموقع بلد الطيوب.

الرابط  https://tieob.com/archives/34205


 

 

د. محمد عبد الرضا شياع: وَهْمُ الْخَيَاْلِ فِيْ شِعْرِ مِفْتَاْحِ الْعَمَّاْرِي

 

د. محمد عبد الرضا شياع  

_________   وَهْمُ الْخَيَاْلِ فِيْ شِعْرِ مِفْتَاْحِ الْعَمَّاْرِي   


       لقد ظلّ الخيال بعيداً عن قبضة اليد الباحثة عن إضاءة محجّات الوصول إليه، ووضع العلامات البانية لماهيّته، وظلّت – كذلك - زحزحة الحدود بين الخيال والتّخييل والتّخيّل تعيش لذّة العتمة الّتي تنشر بهاءها بين المبدع والمتلقّي اللذين يمارسان لعبة الاتّصال والانفصال في بناء النّصّ الإبداعيّ وفي إنتاج دلالته. ولعلّ الانتقال من وضعيّة الحديث عن المعطيات النّظريّة إلى قراءة النّصوص الإبداعيّة يضع المتلقّي في مشهد القراءة منقاداً بوهم الخيال حيث تنكتب نصوص الشّعراء، كون النّصوص الإبداعيّة لا تقول ما يجب أن ينقال، وبذلك تجعل مهمّة القارئ ماثلة في قراءة مالم يُقرأ، على اعتبار أنّ الكتابة والقراءة صنوان لعنوان واحد هو الكتابة المنجزة بفعل القراءة، والقراءة المنجزة بفعل الكتابة، فقد يجري هذا كلّه في منطقة الفراغ الّتي تغيب فيها الدّلالة ما لم يقد إليها الوهم المتّشح بثوب الخيال.
هكذا نجد الشّاعر مفتاح العمّاري مبحراً عبر الخيال، وهو يحاول الإفلات من سلطة العقل؛ ليشاطر الذّات رغبتها في البوح عن فعل ولادة الكتابة الشّعريّة من خلال القصيدة الموسومة بـ (( مسامير ))(1) والّتي تتقاسمها أربعة مقاطع شعريّة تتّسم بالاستقلاليّة والتّفاعل في آن، معربة عن قدرتها الفرديّة في تحقيق التّطلّع الشّعريّ، وفي تفاعلها الكلّيّ تجسيداً لكيان إبداعيّ يعلن عن صيرورة انبناء القصيدة وإنجاز فعلها الدّلاليّ الّذي يأخذ عمقه وامتداده من سلطة العنوان المحمّل بإرث معرفيّ قد يمتدّ في معناه إلى أوّل إنجاز حقّقه الإنسان بملامسة وعي الكتابة يوم اكتشف حرفها الأوّل.

 تنمّ هاته القصيدة في مقاطعها الأربعة بأنّ هناك برزخاً شفيفاً بين الواقع والمتخيّل، بينهما فقط تولد هاته القصيدة الّتي تترقّب نموَّها الذّاتُ الكاتبةُ، متطلّعة إلى الإخبار عن هذا النّموّ بلغة الشّعر لا بسواها. وهذا لا يعني أنّ العمّاري يطمح لأن يقدّم بياناً لوظيفة الشّعر، إنّما هو منغرس في وعي القصيدة ومنابتها البعيدة الّتي لا يمكن ملامسة أهدابها الحالمة بعيداً عن التّخيّل الّذي يبقى فيه تكثيف حضور الذّات الكاتبة سرّاً من أسرار حركة النّصّ الشّعريّ وتعاقب دلالاته الملتفّة حول شجرة نسبها: القصيدة.

هنا والآن يمكن الاقتراب من مشهد الفتنة الجماليّة الّتي بذرها العمّاري ببذور اللذّة النّصّيّة المتطلّعة إلى بناء سحر المشهد الشّعريّ في الومضات البانية لهيكل القصيدة وروحها، منتظرة إعادة إنتاج ممّا هو آت لمصاحبة سيمفونيّة فتنة الخيال الّتي خطّ العمّاري حدودها بالكلمات:


1
هُنَا علّمني الشِّعر
السّفرَ داخل الغرفة
فصار وطني في لُغتي
كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ
وأعالجُ مساميرَه الصّدئة.
(2)


     إنّ انكشاف الصّورة في هذا المشهد لا يقدّم قراءة ناقصة وإن كانت هاته الصّورة عبوراً نافذاً للصّور الأخرى الّتي انبنت القصيدة بها. إذ إنّ التّصوّر الشّعريّ هنا يفضي بلذّة المشاركة بين الذّات الكاتبة وكتابتها المشيَّدة بالكلمات البانية لشكل النّصّ الخارجيّ، وبدلالاتها المنبثقة من داخل النّصّ، معلنة عن أسرار الارتباط بين الواقع والمتخيّل، ومن ثَمَّ بين النّصّيّ والخارج النّصّيّ، وأخيراً بين الوعي واللاوعي الممتدّين بين القصيدة وكاتبها.

     هكذا تعرب هاته الومضة عن زمن الكتابة الّذي يقدّم دعوة الرّحيل للذّات الكاتبة إلى الكهوف السّرّيّة للقصيدة، حيث الكلّ ينبني بالكلّ، وإنّ النّظرة الجزئيّة لهاته الومضة لا تعني الانفصال، وإنّما هي تجسير لأفق الانتظار وامتداد له، فينبثق المعنى من بين أحضان الكتابة؛ لتنوجد الدّلالة في عناق قراءة النّصّ، إذ إنّ هاته الومضة تنتج معناها الخاصّ في بنائها، فتولد الدّلالة في أحداق الآخر الّذي يعيش شغب الانتظار المُنْتَجِ بفعل الكتابة ليتعلّم درس الكتابة الشّعريّة، وكيف عبّر عنه العمّاري بألفة المعاشرة وصخبها حين أفصح عن وظيفة الشّعر المجازيّة في هذا الانبناء وكيف أنّ ( السّفرَ داخل الغرفة ) يعني الرّحيل داخل الذّات الكاتبة، ليكون وطن الشّاعر مصوغاً بشغف َالتّحوّل حين تغدو اللغة وطناً، ويصير الوطن لغة:( فصار وطني في لُغتي ) فيعود الشّاعر إلى ذاته ليتأمّل بعينين مغمضتين باطنه الشّعريّ؛ ليتمكّن من الإمساك بأهداب الخيال المهاجر بعيداً في لغة الشّعر:( كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ ) حيث المنبع الأوّل للغة الكتابة:( وأعالجُ مساميرَه الصّدئة ) معلناً أنّ هناك وعياً في الخارج الذّاتيّ قادراً على الاستجابة لإضفاء بهجة المشاركة بين الدّاخل والخارج؛ ليكشف الشّعر من الدّاخل عن سرّ وجوده، وكأنّه يرصد المشهد من الخارج بعين لها قدرة النّفاذ، مبرهناً على أنّ الحديث عن الكتابة الشّعريّة هو انبناء باللغة، وحضور لها عبر شرائط فعاليّة التّخيّل الّتي لا تغيب عنها تشوّفات الذّات الكاتبة.


2
خائباً وحزيناً
أقفُ على رصيفٍ صاخب
أنظرُ إلى النّساءِ الجميلات
وهنّ يعبرْنَ من دوني.
(3)


      يفصح هذا النّصّ بأنّ العمّاري لا يشعر بعقدة النّقص وهو يمارس فعل البوح بمعاناة الذّات الكاتبة ومكابدتها في القبض على أضواء القصيدة الفارّة من قبضة الرّوح، تاركة إيّاها تعيش حالة صراع هائل كأنّه الهذيان، على الرّغم من أنّ الشّاعر قد اعتمد نظاماً لغويّاً خضوعاً لمنطق النّحو في توصيف الأشياء، (( لأنّ منطق النّحو في حديث اللغة عن الأشياء، لا يحوّل اللغة إلى أشياء، ولكنّه يحوّل الأشياء إلى لغة. وبذلك يحافظ نظامها على ذاته، ويكتسب صحّة من أدائه وإنجازه.))(4) هاته هي العتبة الأولى للانبناء اللغويّ الّذي مارس تنفيذه الشّاعر، بيد أنّ القراءة المعمّقة تعانق العتبة الثّانية للانبناء اللغويّ، فتجد الشّاعر قد استخدم لغة المجاز لبناء الصّورة الشّعريّة المفصحة عن هذا البوح، لأنّ الشّاعر لم يُقدِم على الوصف المباشر للأشياء، وإنّما جنح إلى الرّمز الّذي يُعدّ (( أداة لتوصيل تجربة المؤلّف الثّريّة للحياة.))(5) حيث يكشف عن أعماق الإنسان وأنّاته الدّفينة الّتي تعانق الكون وامتداداته داخل الزّمان وخارجه، (( وتمتدّ المعرفة الرّمزيّة إلى كلّ ما يمكن أن يعرفه الإنسان.))(6) مادامت الذّات الإنسانيّة قادرة على ارتياد المجهول. من الملاحظ أنّ الشّاعر يبدأ هاته الومضة الشّعريّة معبّراً عن حالة الذّات الكاتبة الّتي تنتظر حالة التّداعي بشغف وألم، وكأنّها تقف على جمر التّرقّب الّذي تحلّ فيه الكلمات ضيفاً حميماً على مباهجها المفتقدة، بيد أنّ هاته الكلمات الّتي يطارد الشّاعر أطياف زمنها تمرّ دون التّلفّت إليه:( أنظرُ إلى النّساءِ الجميلات/وهنّ يعبرْنَ من دوني ). هكذا جنح الشّاعر إلى لغة المجاز ليحمّل نصّه بعداً رمزيّاً ينحاز فيه الواقع إلى الخيال؛ ليكتسب سمة الشّعريّة الّتي هي تجسيد لحواسّ الشّاعر ووجود أوّليّ لفعل الكتابة، فتكون – حينئذ – هاته الومضة الشّعريّة انكشافاً لحالة الذّات الكاتبة وسفرها في أمواج الخيال الّتي يلتقي فيه الخاصّ بالعامّ، والفرديّ بالجماعيّ؛ ليتجذّر الجميع في تربة الكتابة الشّعريّة الّتي لا تبادلهم فيها لغة الشّعر أنخاب السّمر، لأنّها لا تتخصّب بعيداً عن فعل المعاناة.



3
أُحبّكِ وأنتِ حارّة
وأنت غاضبة
تتقدّمكِ العواصفُ
وأنتِ مشغولة بصخبِ المهرّجين
غافلةً أَلَم الشَّاعِر
الّذي يمْلأُ فراغكِ بالموسيقا
ويحيكُ غيابَكِ
بإبرةِ الخيال.
(7)


لم يركن الشّاعر إلى ظلّه البارد، ويتأمّل رحيل قافلة الكلمات بتذمّر وإعياء، وإنّما يلتذّ باحتضان حبّات غبار رحلتها المتطاير متلمّساً فيه حرارة القصيدة واتّقادها، وربّما توحي الأبيات الخمسة الأولى من هاته الومضة بسمة سايكولوجيّة وشمت الشّخصيّة العربيّة الّتي تحبّ الفرس الجموح، هذا ما كان يقوله العربيّ وهو يبحث عن ظلّ حبيبة قد لا يرى لها طيفاً في الخيال، بيد أنّ هذا لا يعني بالمفهوم السّايكولوجيّ أنّ أصحاب هاته الرّؤية هم ماسوشيّون(8) يلتذّون بالألم، وربّما هي لذّة المعاناة الّتي يعيشها العاشق – الشّاعر لحظة المكابدة للوصول إلى الحبيبة – القصيدة وإن كانت ترفل بالتّمنّع واللامبالاة حالمة بنرجسيّتها الحميمة. من هنا نجد الشّاعر يعبّر تعبيراً دقيقاً عن حالة الذّات الكاتبة في الأبيات الثّلاثة الأخيرة لهاته الومضة، والّتي تُعدّ امتداداً واستجابة للأبيات السّابقة، فيكون المعطى الشّعريّ مركّباً من السّلب والإيجاب، وربّما ينصهر هذان العنصران في بوتقة الممارسة الشّعريّة؛ ليكونا عنواناً لكتابة القصيدة الّتي تمتصّ ماء وجودها من سحر شهدهما الحافل بالملمح النّفسيّ للكتابة وللكاتب معاً.

4
في هذه القصيدة
ثَمّة قَتلى يمرحون
ترتدي رُفَاتُهم
أحذيةً جديدة.
(9)


     تنطوي هاته الومضة على ثلاث مفارقات هي: التّقريريّة، والخيال، والوهم، إذ تشكّل مجتمعة البناء الفنّيّ لهذا النّصّ بمستويات تأخذ شكلاً متبايناً بحسب القراءة الّتي تستدعي الملاحظ إلى فضائها. فالتّقريريّة جاءت خضوعة لسلطة الوعي، وللتّدفّق الشّعوريّ الّذي انقاد له الشّاعر، حيث لم يتمكّن من مسايرة حركة القصيدة الدّاخليّة، والحفاظ على أسرارها، فصرّح باسم الكائن الّذي يشاركه لذّة التّدفّق:( في هذه القصيدة ) ويكون بهذا قد ألغى تذاكر دعوة المتلقّي الباحث عن أسرار النّصّ والكشف عن أعماقه، فانزلق المشهد من الغموض إلى الوضوح، وهاته مؤاخذة تُسجّل على الشّاعر، لأنّه لم يتمكّن من حبس أنفاسه داخل حركة النّصّ الّتي تضاهي حركة النّفس الدّاخليّة، لكن هاته الملاحظة لا تسلب كلّ شيء من يد الشّاعر، لأنّ المفارقة الثّانية ( الخيال ) مفعمة بالشّعريّة حيث ترتقي بالنّصّ إلى قمّة الهرم الشّعريّ، إذ في الخيال لا في سواه ينصهر كلّ شيء، هذا ما تجلّى في البيت الثّاني:( ثَمّة قَتلى يمرحون ) حتّى إنّه يقود القصيدة والقارئ معاً إلى المفارقة الثّالثة ( الوهم ) الماثلة في البيتين الأخيرين:( ترتدي رُفَاتُهم/أحذيةً جديدة ). وهنا يكتمل البناء الكلّيّ للنّصّ الّذي كان فيه مفتاح العمّاري دليلاً للقراءة الباحثة عن دلالة النّصّ، لأنّ العمّاري عرض وعياً شعريّاً قائماً على ثنائيّة البوح والتّأمّل الّتي تعانق فيها القصيدة حدود الوجود، فتولد محمّلة بالومض الشّعريّ الّذي لا يُنجز إلاّ بالخيال.
إذا كان الشّاعر دليلاً للقصيدة وللقارئ؛ القصيدة نحو انبنائها، والقارئ باتّجاه القبض على دلالات هاته القصيدة، فهذا لا يعني أنّ الشّاعر يعيش خارج أسوار النّصّ، فهو بعد أن تخطّى العتبة الأولى ( التّقريريّة ) يكون قد عاش في أتون اتّقاد القصيدة وتوهّجها الدّاخليّ، فتتحقّق – وقتئذ - كينونة النّصّ الشّعريّة المتّجهة نحو الخفاء: الغموض. وبين هذين العنصرين يتجلّى اللقاء الشّعريّ المتمثّل بالشّاعر والنّصّ والقارئ، فيسهمون معاً في بناء لذّة المشاركة المعبّأة بالتّجربة الشّعريّة المكوكبة بالإشارات والرّموز والإيحاءات، الأمر الّذي يجعل هاته القصيدة - بنصوصها الأربعة - متقدّمة نحو برزخها الشّفيف المتناوس بين الواقع والخيال. فإذا كان الواقع يجود بالمعطيات المادّيّة، فإنّ الخيال يوحي ويومئ ويثير الدّهشة والانفعال، فتأنس القراءة بمتابعة هالة الومض الّتي جادت وتجود بها قصيدة (مسامير) دون أن تبوح بكلّ أسرارها على الرّغم من حركتها التّصاعديّة الّتي تجعل الخيال فتنة للألق. 


-------------------  
الهوامش:
1
_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر ( شعر )، منشورات مجلس تنمية الإبداع الثّقافيّ_ الجماهيريّة، الطّبعة الأولى، 2004م، ص: 35. انظر ترجمة الشّاعر في عبدالله سالم مليطان_ معجم الأدباء والكتّاب الليبيّين المعاصرين، الجزء الأوّل، دار مداد للطّباعة والنّشر والتّوزيع والإنتاج الفنّيّ، طرابلس، الجماهيريّة العربيّة الليبيّة الشّعبيّة الاشتراكيّة العظمى، الطّبعة الأولى، 2001م، ص ص: 285_286.
2_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر، مصدر سابق، ص: 35.
3_ المصدر السّابق، ص: 36.
4_ منذر عيّاشي_ الكتابة الثّانية وفاتحة المتعة، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت_الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1998م، ص: 53.
5_ ج. روبرث بارت، اليسوعي_ الخيال الرّمزيّ: كولريدج والتّقليد الرّومانسيّ، ترجمة: عيسى علي العاكوب، مراجعة: خليفة عيسى العزّابي، الهيئة القوميّة للبحث العلميّ، معهد الإنماء العربيّ، طرابلس_ليبيا، الطّبعة الأولى، 1992م، ص: 19.
6_ المرجع السّابق، الصّفحة ذاتها.
7_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر، مصدر سابق، ص ص: 36_37.
8_ الماسوشي
masochist: المرء الّذي يتلذّذ بتعذيب يُنزله به رفيقه. تلذّذ المرء باضطهاد... إلخ يُنزل به، انظر: منير البعلبكي_ المورد: قاموس إنكليزي-عربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1998م، ص: 562.
9_ مفتاح العمّاري_ مشية الآسر، مصدر سابق، ص ص: 37_38

__________________  

* نقلا عن موقع: الحوار المتمدن

الرابط  https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=133631

 


عِذاب الركابيّ : " نثر ُ المستيقظ " للشاعر مفتاح العمّاري *

 





__________ شكلُ القصيدةِ هو القصيدةُ كلّها 

    

 .(( لا بُدّ للكلمة ِ في الشعر ِ منْ أنْ تعلوَ  على ذاتِها ،  أنْ تزخر َ بأكثرَ

          ممّا تعد ُ به ِ ، وأنْ تشيرَ  إلى أكثرَ  ما نقول ُ ..)) -  أدونيس

                                                               مجلة –شعر- العدد11-1959م.

   إنّ الشعر َ لعبة ُ كلمات ٍ ، وأنّ ملكة َ التعبير ِ صانعة ُ الخيال ِ ، وهوَ المسؤولُ عن تشظي الأصابع ِ ، بكلّ جنون ٍ ، إلى  هذا النثار الرائع من كتل ِ الضوء ِ – الكلمات ، وهوَ الذي يوقظ ُ في أوتار ِ القريحة ِ هذه ِ الدُرّر المتناغمة ، والتي تتحولُ عند الشاعر ِ مفتاح العمّاري إلى لوحات ٍ تشكيلية ٍ، لا يخفت ُ لونها ، وتظل ُ آية ُ التشكيل ِ فيها تُرَتَل ُ في اللازمان ، وتضيء ُ بسحر ِ ألوانها في اللامكان ، حتّى تعلن ُ مملكة ُ الجسد ِ أنّ الشعر َ لمْ  يعُدْ صنعة ً كما رآه ُ النقادُ والأكاديميون ، بلْ هوَ  خلاصة ُ فتافيت ِ الجسد ِ المُشتعل ِ عشقا ً ، وصورة حياة ٍ تظلُ أبدا ً نابضة ً بالحياة :

أنت ِ الصغيرة ُ

جمالُك ِ 

أكبرُ من خيال ِ كهولتي

فيا لطغيانه ِ ،

كائنُ الأرق ِ 

يستيقظ ُ بي –ص9.

  الشاعر مفتاح العمّاري  لا يفيضُ شعرا ً يُدمي القلبَ ، وصورا ً تثقفُ العين َ ، وإيقاعات ٍ ترتّبُ خطانا المرهونة َ بنبض الصباح ، وتعبيرات ٍ تجدّد ُ نسيج الذاكرة وهوَ يتجلى لُغة ً للوصول ِ إلى لُغة ِ اللغة ِ ، دفء الدفء ِ ، وسحر السحر ِفي فوضى شعرية ٍ ضرورية ٍ، عبرَ مفردة ٍ موحية ٍ ، لا تخلو من مشاغبةٍ بلاغيةٍ مُمغنطة بحسّ شاعر ٍ يحيا على نيران ِ الكلماتِ أبدا ً ، زادهُ ، وشمسهُ ، ودليلهُ  ..، وعلى ذكريات ِ عشقهِ  القديم ِ – الجديدِ  الممتد حتّى آخر ضفة ِ من ضفاف ِ بحر ِ الهيام . يقولُ ميخائيل نعيمة : (  الشعرُ لغة ُ النفس ِ ، والشاعرُ ترجمانُ النفس ِ ، وكما أنّ الله َ لا يحفلُ بالمعابد ِ وزخرفتِها ، بلْ بالصلاة ِ الخارجةِ من أعماق ِ القلب ِ)- الغربال –ص84. وشعرُ العمّاري لغةُ نفسه ِ العاشقة ِ الحائرة ِ، وصلاة  ُقلبه ِ التي لا تكون ُ قضاء ً :

((  أتشبث ُ بصحوك ِ ، 

    تستغيثين َ بنومي ))

(( جمالُك ِ 

   أكبرُ من  خيال ِ كهولتي))-ص9

((  الرملُ شراشفُ غافيةٌ ))-ص13

(( الكلمة ُ  المضروبة ُ على قفاها ،

   زهرة ُ عبّاد الشمس ِ )) – ص19

هيَ زخات ُ لغة ٍ مزمنة ٍ  ..!! أهيَ وليمة ُخيال ٍ جامح ٍ ، أمْ أنها صور ٌ تحرّك ُ جحافل َ جوع ِ الذاكرة للثورة ِ على السائد ِ ، مستعينة ً بمدافع ِ الأحلام  اليقظة للحصول على رغيف ِ التأمل ِ ،

والدهشة ِ ، والجذب ِ عبرَ كلمات ٍ فسفورها ضوء ُ قمر ٍ لا يغيبُ ، وإيحاءات أفكارها  ومعانيها نهرُها لا ينضب .

. (( إنّ الفنّانين  لا  يتلقون َ الوحيَ إلا ّ من الأشياء ِ التي  تؤثر فيهم ))- كروتشة .   والشاعرُ :( مجموعة إحساسات ٍ وأخيلة ٍ ) – كما يعبّر ُ تيوفيل غوتييه ، وها هوَ  الشاعر ُ العمّاري حالة ُ عشق ٍ  مكتوب ٍ برماد ِ الروح ِ المعذّبة ِ ، وهيَ تتأملُ كينونتها المتناثرة َفي دهاليز ِ كونِها اللامرئي ، وطموحِها  المُصادر ِ :

يا مفازة َ النور ِ 

لذا ظلت عتمتُك ِ تغسلنا ،

فحلمْنا بقمر ِ الخرافات ِ،

واقتفينا أصابعك ِ

وهيَ تتسللُ صاعدة ً

ذرى الكلمات ِ الحارة ِ

لكيْ تضاء ُ المسافة ُ

بوميض ِ فتنتك ْ-ص33.

ودفء ٍ ورقّة ٍ ، تتفوق ُ على كيمياء ِ وردة ٍ  تزهو بمفاتنها العطرية ، أوْ عاشقة ٍ

ظامئة ٍ  للموعد ِ المُنتظر ِ ، والقبلة ِ المُؤجّلة:

هكذا هيَ  قامتُك ِ الأنعمُ  منْ

هفهفة ِ العطر ِ ، 

ترسم ُ يقينَ وجهتنا،

لهذا تقدمنا بك ِ ، 

حينَ استسلمَ سادنُ البياض ِ

لعناصر ِ ظلمتِك ِ

فتبعناك ِ طائعينْ –ص34.

وحالة  توحد ٍ مع الآخر ِ ،  عبرَ لغة ِ تجدّد ُ أبجديتها ،  وتاريخ ٍ نزيه ٍ ، يستبدل ُ صفحاته الصفراء بأوراق ِالشجر ِالأخضر ِ ، وحلم ٍ فتيّ  يُداهمُ نومَنا  بحراب ِ الحقيقةِ ، ولقاء ٍ تحت وابلِ مطر ٍ ليلكيّ  مُفاجيء :

كأنّك ِ خلاصة ُ حروب ٍ

ولغات ٍ وحرائقْ ،

لأجلك ِ تتأجلُ المدارات ُ

ويسبقُ بريق ُ نحاسك ِ

ذخيرة َ غزونِا لممالك ِ النظرْ –ص35

         **

يستعيرك الواحد ُ 

فيتعدّد بك ِ / تحبسك ِالعبارة ُ 

لتعتق َ غموضَها / تذهب إليك ِ المحطات ُ 

فتلتبس ُ العناوين ُ/ ولا أحد يصلُ –ص37.

وإصغاءة هادئة ، ترتبّها الكلمات ُ ، وتهيّا  طقوسَها القصيدة ُ ، للحصول ِ على إذن ِ التجول ِ  في أخيلة ِ .. وتأملات ِ عاشق ٍ حتّى العظم ِ ..، وعلى آهات ِ ليله ِ الطويل ِ ، ترتب ُ تفاصيل حياته ِ ، ومواعيد َعشقه ِ ، وعلاقاته ِ الموصولة  َبذاكرة ِ الصباحات ِ الجديدة ِ:

حواسنا كلّها 

تصغي إليك ِ ،

حين َ تقودين َ  روح َ العالم ِ ، 

رشيقة ً ،

كنغم ِ صنفرة ِ الأسى /

تطلقين َ جوارح المعدن ِ ، 

حرّة ً في سماء ٍ سكرانة ْ –ص37

      **

من ياسمين عنقِك ِ 

يتشتّت ُ العطر ُ / ضائعا ً ،

بين َ عبّاده ِ الخاشعين – ص38

وصوفيّة مُختزنة ، جادت بعرضِها الأقمار ُ التي كانت ْ تضيء ُ سماء َ أنبياء ِالعشق ِ ، وروّاد قصيدة النثر ، فريد الدين العطار ، وجلال الدين الرومي ، والنّفّري  ، وذواتهم  وهيَ تتماهى مع المعشوق ِ– الفرد  ِ:

تشظّت مغاليق ُ المتع ِ ،

فاستبان َ الستر ُ 

وتهرّى الرخام ُ محموما ً 

من وهج ِ الصّبْ !!

  **

هتفت ِ الدلالات ُ :

المجدُ للحكمة ِ المُشرّدةْ / للنسيج ِ الممزق ِ /

للكلمات ِ المنحرفة ِ /  عن مدارات ِ النحات /

للكلمات ِ .. خالقة السماء الأولى

للسرّ الفاقع ِ ،

وهوَ يعلو فوق َ العلو ِ

تأخذه ُ نشوة ُ الرائي –ص41.

وكيمياء ُ كلمة ٍ شعرية ٍ ، عناصرُها الاحتراق ُ ، واللذة ُ ، وهمس ُ الفكرة ِ ، والخيالُ المُنتج في مُختبر ِ الروح ِ المتوجة ِ بآلام ِ  الوحي الشعريّ .. الحاضر  ِبلا انتهاء :

أحِبّ يا ربي بارقة الخدّ

وما تقترحه ُ الجنّة ُ

من لذائذ ِ أكبر من خيال ِ الشعراءْ

لهذا أهجر ُ اليقين َ

صوب َ مواطن ِ الشك ِ 

لكيْ تتأهب ُ الألفاظ ُ للنفيرْ – ص43.

. (( الشاعر ُ كاهن ٌ لأنّه ُ يخدم ُ إلها ً هوَ الحقيقة ُ والجمال..))- ميخائيل نعيمة !!

وهذا ما رأيته ، وما يلمسه ُ القاريء ، في قصائد ِ العمّاري ، فلمْ يعُدِ الشعرُ حلما ً مختزنا ً لذكريات ِ عشق ٍ قديم ٍ ، بلْ هوَ صورة للجمال ِ ، وواقعة لعشق ٍ متجدّد ، تبدو الحياة ُ بدونه ِ مستحيلة  ، والعمر ُ يشكو تبدّد ساعاته ِ الحرجة في حدائق غادرتها ورودها وفراشاته في مركب ِ شمس ٍ ضجرة :

لقدْ ذبُلت ِ العناوين ُ

فوق َ منضدة ِ الزينة ِ 

وأحجمت ِ الزهور ُ

عن الذهاب ِ إلى غرفة ِ النوم ِ ،

وغدا المطاف ُ إلى قلبك ِ 

مكسوا ً بالرماد ِ

والصعود إلى فمِك ِ 

محفوفا ً بالحرائق ِ –ص49.

 الشعر ُ دواء الضجر ِ ، حالة ُ هروب ٍ مُتقنة ٍ من رتابة ِ الوقت ِ ، وبلادة الأمكنة ، ومن صدا العلاقات ِ ، ..حالة ُ علو ٍ بالذات ِ الشاعرة ِ التي ترفض ُ الاستسلام َ لموت ٍ مُبرمج ٍ ، أو ( الهروب  منها  ، ليحول َ آلامَه الذاتية الخاصّة إلى شيء ٍ خصب ٍ ) –حسب تعبير إليوت .. لحظة ُ انتفاضة ِ كائنات ِ الضوء  على حكم ِ ظلمة ِ حالكة ٍ يحلو لها أنْ تستبدَ ..، لحظة صدق ٍ تضيء دهاليزَ الروح ِ التي بدت مُحاصرة ً بالكسل ِ..، ثورة تقودها إيقاعات ُ الإبداع ِ ، بكلّ أدوات ِ اللغة ِ والبلاغة ِ ، وهي تؤكّد ُ خلود الكلمات ، بلغة ٍ بلا كلمات ، ليسَ إلا َ كسوف أبيض يعلن ُ عن وجوده ِ عبرَ قصائد فوتوغرافية ، تؤسّس ُ لمدن ٍ من خيال ٍ راق ٍ :

ثمة ُ كسوف جبان ..
يكشّر ُ عن أنيابه ِ ويهز ُّ ذيلَه ُ جهارا ً نهارا ً 

كسوف ٌ مُبجّل ُ .. نصفّق ُ لهُ ،

كسوفٌ سعيدُ الحظ ّ،

نهديه صمتنا ..،

كسوفٌ مُدلل ..،

يتبول ُ على ركبة ِ الوقت ِ..

كسوف ٌ مُهذب ُ /

يلعبُ الشطرنج ،

كسوف ٌ مُؤبّد ٌ..

مُوسوسٌ .. ومُحتال

كسوف ٌ نكرة ٌ ،

كسوف ٌمُخل

كسوف ٌ بلا معنى ،

هذا كلّ شيء ..!! – ص82.

.(( إنّ الشعرَ نوعٌ من الرياضة ِ المُلهمة ِ التي نقفُ منها

    على معادلات ٍ ..))- إزرا باوند .

و(( نثرُ المستيقظ)).. رياضة ٌ مُلهمة  ، لغة ُ اللغة ِ ، خيالُ الخيال  ِ ، أوْ بعده ، استفزازُ المُستفِز ، وإثارة ُ المثير ، ( معادلات لانفعالات ٍ إنسانيّة ) ..، للصياغات ِ التي أثقلت براكين اللغة ..، لجسارة وجرأة الهواجس ِ ..، للخشوع ِفي الصّلاة ِ إلى معنى المعنى  .. تعالوْا نقرأ  مُعادلات ِ – العمّاري الشعرية:

(( كُنْ أحمق َ ، تأتي الحقيقة ُ إليك))-ص94

(( قفْ بسيطا ً خجولا ً إزاء المتغطرس ِ ، تغدو عظيما ً))

(( كُنْ لا شيء ، تملكْ كلّ شيء))

(( انظرْ إلى قدميك ، تفقدْ النجومُ بريقّها))

(( انظرْ إلى السحب ِ ،  تختفي الأرضُ ))-ص95.

(( دع ِ المُهرج َ يثيرُ ضجيجا ً ، لكيْ تمتلك َ صولجان َ الصمتِ ))-ص96

(( إذا علوت َ خذ ْ قطعة ً من السماء ِ تكفي لقبر ٍ صغير ٍ ))

(( أنْ تتضاءل َ جاعلا ً من الثقل ِ خفّة ً ))- ص97.

. في نصائحه ِ ، وفي نظراته ِ النقدية الهامة ِ ، يدعو الشاعرُ والناقدُ – إليوت الشعراء إلى استخدام ِ اللغة اليوميّة ، منبها ً من خطر ِ ما يُسمّيه  إعلاء الذات ، ودعوته  إلى تقديس :

(الأشياء التي يستعلي عليها الناس ، أوْ يهملونها عامدين )..، في قصيدة ( قبعة أبي) 

كانَ العمّاري  تلميذا ً مُطيعا ً في حضرة ِ الشاعر- المعلم  ِإليوت وكأنّهُ ( يقيمُ بيتَه ُ في قلب ِ الجمهور ِ المتزاحم ِ ) – كما يعبّرُ بودلير ، وهوَ يرى في  البساطة ِ  عطر َ الجذب ِ ، والتلقائية طريقه للوصول ِ بحميمية ِ إلى الآخرين ..، من الأمّ الحبيبة ِ، إلى الوطن ِ ، إلى  الأصدقاء :

أحِبّ ُ أمّي وأطفالي وزوجتي وإخوتي وجيراني

أحِبّ ُ طرابلسَ والجبلَ الأخضرَ ،

أحِبّ ُ زنقة القزدارة والماجوري وخبز تنور جارتنا الحاجة شميسة ،

أحبّ ُ أصدقائي الحالمين والميتين والعربيدين والحمقى ،

أحِبّ ُ السفرَ والكتبَ والموسيقا والكسل َ أحيانا ً ،

أحِبّ ُ الهدوء َ والضحك َ ورائحة َالقهوة ِ في الصباح ِ الباكر ِ ،

أحبّ ُ النجوم َ والغناء َ في الحمّام ِ والنظر َ عبرَ النافذةِ – ص112.

. " نثر ُ المُستيقظ".. قصائد ُ فوتغرافية !!

ذاكرة ُ الحاضر المتمرّد ِ والجسور ..، زادُ الزمن ِ القادم ،  شهادة ُ الشاعر ِ في عصر ٍ يمقت ُ خطوته ، ويُسفّه  دموعَه الحارقة ..، عبرَ لُغة ٍ  تقاتلُ مفرداتها ..، ولا تخجلُ من بلاغتها المشاغبة ..، وتدافع ُ بكلّ ألوان ِ .. ورموز ِ أبجديتها  عن شاعريتها الخالدة .. ، وعن جسارة ذاكرة الشاعر التي  يصعب ُ أنْ يطالها الصدا ُ والذبولُ والموتُ.

 _________ 

نشر بالشمس الثقافي

                                                                        

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نثر المُستيقظ  - نصوص -  مفتاح العمّاري – منشورات /  مجلس الثقافة العام 2008م.

نقلا عن مدونة أنا الليبي متصل النشيد للشاعر الليبي: خالد درويش. كما سبق نشرها بصحيفة الشمس.

الرابط: https://kaleddarwish.blogspot.com/2014/07/blog-post_9610.html

الخميس، 31 يوليو 2025

يد الموناليزا*

 



في الحرب

كنت ألعب عند باب البحر ،

غافلا عن قذائف فرسان الملكة إيزابيلا.  

في الحرب

لم أحفل بأسماء رفاقي الذين ضيعوني؛

كنت عربيدًا أعبّ النبيذ في خمارة قوس ماركوس،

صعلوكًا في (سوق الخبزة) ابحث عن سكين

لمعالجة بطيخة ناضجة منحني إياها مزارع من سهل جْفَارَة .

**

لم أحزر حينها

أن "مراد آغا" ورهطه من الأسرى

سيبنون قلعةً حصينة .

وبعد هزيمة فرسان القديس يوحنا

سيمكثون هنا أربعة قرون

حتى تتعفّن ترهاتُهم في سقيفة التاريخ

لهذا كلّما دخلت غرفة "للاحلومة" لتنظيفها من البق والغبار

أحاذر مزاج الكسوف،

وغدر يوسف باشا الذي

يتجول في ردهات القصر متنكرًا بأردية الحريم .

لكن ماذا لو أتقنت رسم امرأة لها ثغر الموناليزا

عوضًا عن تعلّم الكلاشنكوف، وركوب المدرعات.

ماذا لو أجرينا تعديلا بسيطًا على كتبِ التاريخ العربيّ

وجردناها من كل الفرسان الذين صنعهم خيالٌ مريض،

وأوكلنا لِزرياب وحده؛

تعبئة الفراغات التي تركتها سنابكُ الخيل .

**

في يومٍ ما

كنتُ كلما مررت بمحاذاة قلعة باب العزيزية

أتخيل حديقة بدلا من ثكنة .

والآن بلادي ضاعت،

وأنا لم اعد ذلك الفتى

كل ليلة أحاول تدبير ممر آمن للنوم

وأهمسُ لكِ

أعطني يدَ الموناليزا .

___________
* نقلا عن صفحة: مجانين قصيدة النثر. الرابط: https://www.facebook.com/groups/643589259494308/posts/985342751985622/