__________ شكلُ القصيدةِ هو القصيدةُ كلّها
.(( لا بُدّ للكلمة ِ في
الشعر ِ منْ أنْ تعلوَ على ذاتِها ، أنْ تزخر َ بأكثرَ
ممّا تعد ُ به ِ ، وأنْ تشيرَ إلى أكثرَ ما نقول ُ ..)) - أدونيس
مجلة –شعر- العدد11-1959م.
إنّ الشعر َ لعبة ُ
كلمات ٍ ، وأنّ ملكة َ التعبير ِ صانعة ُ الخيال ِ ، وهوَ المسؤولُ عن تشظي
الأصابع ِ ، بكلّ جنون ٍ ، إلى هذا النثار الرائع من كتل ِ الضوء ِ –
الكلمات ، وهوَ الذي يوقظ ُ في أوتار ِ القريحة ِ هذه ِ الدُرّر المتناغمة ، والتي
تتحولُ عند الشاعر ِ مفتاح العمّاري إلى لوحات ٍ تشكيلية ٍ، لا يخفت ُ
لونها ، وتظل ُ آية ُ التشكيل ِ فيها تُرَتَل ُ في اللازمان ، وتضيء ُ بسحر ِ
ألوانها في اللامكان ، حتّى تعلن ُ مملكة ُ الجسد ِ أنّ الشعر َ لمْ يعُدْ
صنعة ً كما رآه ُ النقادُ والأكاديميون ، بلْ هوَ خلاصة ُ فتافيت ِ الجسد ِ
المُشتعل ِ عشقا ً ، وصورة حياة ٍ تظلُ أبدا ً نابضة ً بالحياة :
أنت ِ الصغيرة ُ
جمالُك ِ
أكبرُ من خيال ِ كهولتي
فيا لطغيانه ِ ،
كائنُ الأرق ِ
يستيقظ ُ بي –ص9.
الشاعر مفتاح العمّاري
لا يفيضُ شعرا ً يُدمي القلبَ ، وصورا ً تثقفُ العين َ ، وإيقاعات ٍ ترتّبُ خطانا
المرهونة َ بنبض الصباح ، وتعبيرات ٍ تجدّد ُ نسيج الذاكرة وهوَ يتجلى لُغة ً
للوصول ِ إلى لُغة ِ اللغة ِ ، دفء الدفء ِ ، وسحر السحر ِفي فوضى شعرية ٍ ضرورية
ٍ، عبرَ مفردة ٍ موحية ٍ ، لا تخلو من مشاغبةٍ بلاغيةٍ مُمغنطة بحسّ شاعر ٍ يحيا
على نيران ِ الكلماتِ أبدا ً ، زادهُ ، وشمسهُ ، ودليلهُ ..، وعلى ذكريات ِ
عشقهِ القديم ِ – الجديدِ الممتد حتّى آخر ضفة ِ من ضفاف ِ بحر ِ
الهيام . يقولُ ميخائيل نعيمة : ( الشعرُ لغة ُ النفس ِ ، والشاعرُ ترجمانُ
النفس ِ ، وكما أنّ الله َ لا يحفلُ بالمعابد ِ وزخرفتِها ، بلْ بالصلاة ِ
الخارجةِ من أعماق ِ القلب ِ)- الغربال –ص84. وشعرُ العمّاري لغةُ نفسه ِ العاشقة
ِ الحائرة ِ، وصلاة ُقلبه ِ التي لا تكون ُ قضاء ً :
(( أتشبث ُ بصحوك ِ ،
تستغيثين َ بنومي ))
(( جمالُك ِ
أكبرُ من خيال ِ
كهولتي))-ص9
(( الرملُ شراشفُ غافيةٌ
))-ص13
(( الكلمة ُ المضروبة ُ على
قفاها ،
زهرة ُ عبّاد الشمس ِ
)) – ص19
هيَ زخات ُ لغة ٍ مزمنة ٍ
..!! أهيَ وليمة ُخيال ٍ جامح ٍ ، أمْ أنها صور ٌ تحرّك ُ جحافل َ جوع ِ الذاكرة
للثورة ِ على السائد ِ ، مستعينة ً بمدافع ِ الأحلام اليقظة للحصول على رغيف
ِ التأمل ِ ،
والدهشة ِ ، والجذب ِ عبرَ كلمات ٍ
فسفورها ضوء ُ قمر ٍ لا يغيبُ ، وإيحاءات أفكارها ومعانيها نهرُها لا ينضب .
. (( إنّ الفنّانين
لا يتلقون َ الوحيَ إلا ّ من الأشياء ِ التي تؤثر فيهم ))-
كروتشة . والشاعرُ :( مجموعة إحساسات ٍ وأخيلة ٍ ) – كما يعبّر ُ
تيوفيل غوتييه ، وها هوَ الشاعر ُ العمّاري حالة ُ عشق ٍ مكتوب ٍ
برماد ِ الروح ِ المعذّبة ِ ، وهيَ تتأملُ كينونتها المتناثرة َفي دهاليز ِ كونِها
اللامرئي ، وطموحِها المُصادر ِ :
يا مفازة َ النور ِ
لذا ظلت عتمتُك ِ تغسلنا ،
فحلمْنا بقمر ِ الخرافات ِ،
واقتفينا أصابعك ِ
وهيَ تتسللُ صاعدة ً
ذرى الكلمات ِ الحارة ِ
لكيْ تضاء ُ المسافة ُ
بوميض ِ فتنتك ْ-ص33.
ودفء ٍ ورقّة ٍ ، تتفوق ُ على
كيمياء ِ وردة ٍ تزهو بمفاتنها العطرية ، أوْ عاشقة ٍ
ظامئة ٍ للموعد ِ المُنتظر ِ
، والقبلة ِ المُؤجّلة:
هكذا هيَ قامتُك ِ
الأنعمُ منْ
هفهفة ِ العطر ِ ،
ترسم ُ يقينَ وجهتنا،
لهذا تقدمنا بك ِ ،
حينَ استسلمَ سادنُ البياض ِ
لعناصر ِ ظلمتِك ِ
فتبعناك ِ طائعينْ –ص34.
وحالة توحد ٍ مع الآخر ِ
، عبرَ لغة ِ تجدّد ُ أبجديتها ، وتاريخ ٍ نزيه ٍ ، يستبدل ُ صفحاته
الصفراء بأوراق ِالشجر ِالأخضر ِ ، وحلم ٍ فتيّ يُداهمُ نومَنا بحراب
ِ الحقيقةِ ، ولقاء ٍ تحت وابلِ مطر ٍ ليلكيّ مُفاجيء :
كأنّك ِ خلاصة ُ حروب ٍ
ولغات ٍ وحرائقْ ،
لأجلك ِ تتأجلُ المدارات ُ
ويسبقُ بريق ُ نحاسك ِ
ذخيرة َ غزونِا لممالك ِ النظرْ
–ص35
**
يستعيرك الواحد ُ
فيتعدّد بك ِ / تحبسك ِالعبارة
ُ
لتعتق َ غموضَها / تذهب إليك ِ
المحطات ُ
فتلتبس ُ العناوين ُ/ ولا أحد يصلُ
–ص37.
وإصغاءة هادئة ، ترتبّها الكلمات ُ
، وتهيّا طقوسَها القصيدة ُ ، للحصول ِ على إذن ِ التجول ِ في أخيلة ِ
.. وتأملات ِ عاشق ٍ حتّى العظم ِ ..، وعلى آهات ِ ليله ِ الطويل ِ ، ترتب ُ
تفاصيل حياته ِ ، ومواعيد َعشقه ِ ، وعلاقاته ِ الموصولة َبذاكرة ِ الصباحات
ِ الجديدة ِ:
حواسنا كلّها
تصغي إليك ِ ،
حين َ تقودين َ روح َ العالم
ِ ،
رشيقة ً ،
كنغم ِ صنفرة ِ الأسى /
تطلقين َ جوارح المعدن ِ ،
حرّة ً في سماء ٍ سكرانة ْ –ص37
**
من ياسمين عنقِك ِ
يتشتّت ُ العطر ُ / ضائعا ً ،
بين َ عبّاده ِ الخاشعين – ص38
وصوفيّة مُختزنة ، جادت بعرضِها
الأقمار ُ التي كانت ْ تضيء ُ سماء َ أنبياء ِالعشق ِ ، وروّاد قصيدة النثر ، فريد
الدين العطار ، وجلال الدين الرومي ، والنّفّري ، وذواتهم وهيَ تتماهى
مع المعشوق ِ– الفرد ِ:
تشظّت مغاليق ُ المتع ِ ،
فاستبان َ الستر ُ
وتهرّى الرخام ُ محموما ً
من وهج ِ الصّبْ !!
**
هتفت ِ الدلالات ُ :
المجدُ للحكمة ِ المُشرّدةْ /
للنسيج ِ الممزق ِ /
للكلمات ِ المنحرفة ِ / عن
مدارات ِ النحات /
للكلمات ِ .. خالقة السماء الأولى
للسرّ الفاقع ِ ،
وهوَ يعلو فوق َ العلو ِ
تأخذه ُ نشوة ُ الرائي –ص41.
وكيمياء ُ كلمة ٍ شعرية ٍ ،
عناصرُها الاحتراق ُ ، واللذة ُ ، وهمس ُ الفكرة ِ ، والخيالُ المُنتج في مُختبر ِ
الروح ِ المتوجة ِ بآلام ِ الوحي الشعريّ .. الحاضر ِبلا انتهاء :
أحِبّ يا ربي بارقة الخدّ
وما تقترحه ُ الجنّة ُ
من لذائذ ِ أكبر من خيال ِ الشعراءْ
لهذا أهجر ُ اليقين َ
صوب َ مواطن ِ الشك ِ
لكيْ تتأهب ُ الألفاظ ُ للنفيرْ –
ص43.
. (( الشاعر ُ كاهن ٌ لأنّه ُ يخدم
ُ إلها ً هوَ الحقيقة ُ والجمال..))- ميخائيل نعيمة !!
وهذا ما رأيته ، وما يلمسه ُ
القاريء ، في قصائد ِ العمّاري ، فلمْ يعُدِ الشعرُ حلما ً مختزنا ً لذكريات ِ عشق
ٍ قديم ٍ ، بلْ هوَ صورة للجمال ِ ، وواقعة لعشق ٍ متجدّد ، تبدو الحياة ُ بدونه ِ
مستحيلة ، والعمر ُ يشكو تبدّد ساعاته ِ الحرجة في حدائق غادرتها ورودها
وفراشاته في مركب ِ شمس ٍ ضجرة :
لقدْ ذبُلت ِ العناوين ُ
فوق َ منضدة ِ الزينة ِ
وأحجمت ِ الزهور ُ
عن الذهاب ِ إلى غرفة ِ النوم ِ ،
وغدا المطاف ُ إلى قلبك ِ
مكسوا ً بالرماد ِ
والصعود إلى فمِك ِ
محفوفا ً بالحرائق ِ –ص49.
الشعر ُ دواء الضجر ِ ، حالة
ُ هروب ٍ مُتقنة ٍ من رتابة ِ الوقت ِ ، وبلادة الأمكنة ، ومن صدا العلاقات ِ ،
..حالة ُ علو ٍ بالذات ِ الشاعرة ِ التي ترفض ُ الاستسلام َ لموت ٍ مُبرمج ٍ ، أو
( الهروب منها ، ليحول َ آلامَه الذاتية الخاصّة إلى شيء ٍ خصب ٍ )
–حسب تعبير إليوت .. لحظة ُ انتفاضة ِ كائنات ِ الضوء على حكم ِ ظلمة ِ
حالكة ٍ يحلو لها أنْ تستبدَ ..، لحظة صدق ٍ تضيء دهاليزَ الروح ِ التي بدت
مُحاصرة ً بالكسل ِ..، ثورة تقودها إيقاعات ُ الإبداع ِ ، بكلّ أدوات ِ اللغة ِ
والبلاغة ِ ، وهي تؤكّد ُ خلود الكلمات ، بلغة ٍ بلا كلمات ، ليسَ إلا َ كسوف أبيض
يعلن ُ عن وجوده ِ عبرَ قصائد فوتوغرافية ، تؤسّس ُ لمدن ٍ من خيال ٍ راق ٍ :
ثمة ُ كسوف جبان ..
يكشّر ُ عن أنيابه ِ ويهز ُّ ذيلَه ُ جهارا ً نهارا ً
كسوف ٌ مُبجّل ُ .. نصفّق ُ لهُ ،
كسوفٌ سعيدُ الحظ ّ،
نهديه صمتنا ..،
كسوفٌ مُدلل ..،
يتبول ُ على ركبة ِ الوقت ِ..
كسوف ٌ مُهذب ُ /
يلعبُ الشطرنج ،
كسوف ٌ مُؤبّد ٌ..
مُوسوسٌ .. ومُحتال
كسوف ٌ نكرة ٌ ،
كسوف ٌمُخل
كسوف ٌ بلا معنى ،
هذا كلّ شيء ..!! – ص82.
.(( إنّ الشعرَ نوعٌ من الرياضة ِ
المُلهمة ِ التي نقفُ منها
على معادلات ٍ ..))-
إزرا باوند .
و(( نثرُ المستيقظ)).. رياضة ٌ
مُلهمة ، لغة ُ اللغة ِ ، خيالُ الخيال ِ ، أوْ بعده ، استفزازُ
المُستفِز ، وإثارة ُ المثير ، ( معادلات لانفعالات ٍ إنسانيّة ) ..، للصياغات ِ
التي أثقلت براكين اللغة ..، لجسارة وجرأة الهواجس ِ ..، للخشوع ِفي الصّلاة ِ إلى
معنى المعنى .. تعالوْا نقرأ مُعادلات ِ – العمّاري الشعرية:
(( كُنْ أحمق َ ، تأتي الحقيقة
ُ إليك))-ص94
(( قفْ بسيطا ً خجولا ً إزاء
المتغطرس ِ ، تغدو عظيما ً))
(( كُنْ لا شيء ، تملكْ كلّ شيء))
(( انظرْ إلى قدميك ، تفقدْ النجومُ
بريقّها))
(( انظرْ إلى السحب ِ ، تختفي
الأرضُ ))-ص95.
(( دع ِ المُهرج َ يثيرُ ضجيجا ً ،
لكيْ تمتلك َ صولجان َ الصمتِ ))-ص96
(( إذا علوت َ خذ ْ قطعة ً من
السماء ِ تكفي لقبر ٍ صغير ٍ ))
(( أنْ تتضاءل َ جاعلا ً من الثقل ِ
خفّة ً ))- ص97.
. في نصائحه ِ ، وفي نظراته ِ
النقدية الهامة ِ ، يدعو الشاعرُ والناقدُ – إليوت الشعراء إلى استخدام ِ اللغة
اليوميّة ، منبها ً من خطر ِ ما يُسمّيه إعلاء الذات ،
ودعوته إلى تقديس :
(الأشياء التي يستعلي عليها الناس ،
أوْ يهملونها عامدين )..، في قصيدة ( قبعة أبي)
كانَ العمّاري تلميذا ً
مُطيعا ً في حضرة ِ الشاعر- المعلم ِإليوت وكأنّهُ ( يقيمُ بيتَه ُ في قلب ِ
الجمهور ِ المتزاحم ِ ) – كما يعبّرُ بودلير ، وهوَ يرى في البساطة ِ
عطر َ الجذب ِ ، والتلقائية طريقه للوصول ِ بحميمية ِ إلى الآخرين ..، من الأمّ
الحبيبة ِ، إلى الوطن ِ ، إلى الأصدقاء :
أحِبّ ُ أمّي وأطفالي وزوجتي وإخوتي
وجيراني
أحِبّ ُ طرابلسَ والجبلَ الأخضرَ ،
أحِبّ ُ زنقة القزدارة والماجوري
وخبز تنور جارتنا الحاجة شميسة ،
أحبّ ُ أصدقائي الحالمين والميتين
والعربيدين والحمقى ،
أحِبّ ُ السفرَ والكتبَ والموسيقا
والكسل َ أحيانا ً ،
أحِبّ ُ الهدوء َ والضحك َ ورائحة
َالقهوة ِ في الصباح ِ الباكر ِ ،
أحبّ ُ النجوم َ والغناء َ في
الحمّام ِ والنظر َ عبرَ النافذةِ – ص112.
. " نثر ُ المُستيقظ"..
قصائد ُ فوتغرافية !!
ذاكرة ُ الحاضر المتمرّد ِ والجسور
..، زادُ الزمن ِ القادم ، شهادة ُ الشاعر ِ في عصر ٍ يمقت ُ خطوته ،
ويُسفّه دموعَه الحارقة ..، عبرَ لُغة ٍ تقاتلُ مفرداتها ..، ولا
تخجلُ من بلاغتها المشاغبة ..، وتدافع ُ بكلّ ألوان ِ .. ورموز ِ أبجديتها
عن شاعريتها الخالدة .. ، وعن جسارة ذاكرة الشاعر التي يصعب ُ أنْ يطالها
الصدا ُ والذبولُ والموتُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نثر المُستيقظ - نصوص
- مفتاح العمّاري – منشورات / مجلس الثقافة العام 2008م.
الرابط: https://kaleddarwish.blogspot.com/2014/07/blog-post_9610.html