وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 24 مارس 2019

الحب عيد يتسكع


مفتاح العمّاري



الحب عيد يتسكع
_______________
الحب لا يهرم؛ طالما حكمته بين شفتيك

سيغدو أصيلا 
يصهر دهرا بين أنفاسه
وبارًا بامرأته
يملك ما يكفي لتدوير حشد من التجارب
لتصبح القبلة صناعة يصعب تقليدها.


العبرة في تذويب الروح

في تنظيم الألم بنعومة 
في اغماضة العين 
كإضاءة حميدة لإنصاف اللسان. 
في الاستسلام العظيم
لمذاق لدغة غائرة
 تبدأ من تحية حارة في تمجيد فضائل الفم

في ملامسة الأصابع للأوتار المشدودة
كمحاولة ذكية لترويض نمرة 
في تخدير الذاكرة 
ليغدو النسيان قيمة.


الحب صلاة 

لذة الناسك الدائخة 
الانسلال بخفة الى الداخل 
حيث الجنة تحتفي بوفادة العشاق الصالحين. 
فقط علم رعايا فمك مشيئة التسكع
لتكريم قبلة.



يكفي أحيانًا

 تحريكُ الرماد

الحب لا يهرم.


لا يعوّل عليه

مفتاح العمّاري


      إذا ما توعّك فرّان الحيّ، حتما  سيغضب أهل الحيّ، لأن غياب الفران يعني  بداهة حرمانهم من الخبز، وبالتالي سوف يتساءلون في غضب وحنق، وربما  يتظاهرون ويعتصمون ويقيمون الدنيا ولا يقعدوها. يتكرر الحال نفسه بصدد اختفاء عمّال النظافة، لحظة أن تتراكم الأوساخ وتتكدس أكياس القمامة وأكوام النفايات في الشوارع دونما أحد يجمعها ويحملها إلى حيث المكبات العامة. كذلك سيغضب الحيّ بقضه وقضيضه فيما لو أُفتُقِد الصرّاف والطبيب  والبقال والخضّار والقصاب؛ لأن كل هؤلاء مع إضافة الحلاق والتارزي وحتى القهواجي والسنفاز، يقدمون خدمات يومية (بين ضرورات وكماليات) تلبّي بالطبيعة متطلبات الجسد وما يقع في حكمها، ولاسيما المعدة. لكن لو غاب المثقف لأمرٍ ما، سواء توعك أو أضطر للسفر أو لديه ما يشغله عن العطاء، أو دهسته سيارة مسرعة، فغادر الحيّ دونما رجعة؛ فأن السكان لن يستشعروا غيابه. لأنهم (أي سكّان الحيّ) قد تعودوا لأسباب معلنة وخفية هذا التجاهل لشخص المثقف؛ فهم بطبعهم، وطبيعتهم التي جبلوا عليها، غير مبالين بشؤؤن الثقافة وأهلها، ولا تعنيهم البتة مشاكلها وقضاياها. فلو توقفت لأي سبب من الأسباب الجريدة اليومية عن الصدور، فلن تخرج مظاهرة شعبية غاضبة تستنكر اختفاء جريدتهم؛ كما لن يتساءل احد عن إقفال المسرح ودار العرض والمكتبة العامة وغيرها من منشآت الثقافة ودورها ومؤسساتها. هذه الكوميديا السوداء ستتحول مشاهدها إلى صور أكثر تراجيدية وفداحة، حين يتعلق الشأن بغياب الشاعر؛ فهذا الكائن الذي كان في زمن عربي ما، طوته الذاكرة، ومحاه النسيان، كان محل احتفاء وترحيب وتبجيل من أهله وذويه، أمسى مجرد مخلوق نكرة لا يُعوّل عليه.

     إزاء هذا النفي العرفيّ والتقليدي والشعبي والرسمي لكيان الشاعر، تبدو آلة الواقع أكثر تعقيدا لحظة أن تتآمر على وجدانها، وتلهث دونما هوادة خلف حاجات الجسد، غافلة متطلبات الروح،  وبالتالي قد تنتج هذه الآلة الوحشية سلوكا في غاية الضراوة والخطورة لحظة أن تتواطأ المنابر الإعلامية نفسها التي يناط بها إعادة صياغة وإنماء الوجدان عبر حضور الشاعر، لتقف من حيث تدري أو لا تدري مع منظومة إقصائه وتهميشه؛ فلا غرابة إذا لم يحظ الشاعر في عهد الديكتاتورية والطغيان بأي اعتراف من مؤسسات أقيمت تحت عناوين ثقافية وإعلامية تعمل على تدمير القيم، وتجفيف الوجدان الجمعي، خلال أربعة عقود من نظام العسكرة ومجتمع الثكنات الذي يضع من بين أولويات سياساته الثقافية تعطيل مخيلة الإبداع، وشلّ روح التضامن، ومسخ الوجدان الوطني، لكي يسرّع بقيام جماهيرية القطيع. وبالتالي قد اندرج الترويج والتسويق لتتفيه وتمييع شخصية الشاعر بصورة ساخرة وتهكمية في المنابر والمحافل، ضمن مفردات تلك المخططات المقيتة، إلى الحد الذي دفع بأحد ما يسمّى بأمناء (وزراء) الثقافة والإعلام أن يطلق على الشعراء صفة (كلاب سوق). وهو سلوك غير مستغرب في حينه من نظام قمعي كرس آلته الإرهابية لتصفية وتكميم أفواه المثقفين والمبدعين. لكن أن نكتشف، وبعد مرور ثمانية أعوام ميلادية من زمن ثورة فبراير، وفي ظل تحولات ليبيا الجديدة، أن منابرنا الإعلامية المحسوبة على القطاع الإعلامي الرسمي مازالت ترتكب مثل هذه المثالب في حق الشاعر وقصيدته. لا ريب أنها معضلة تنطوي على مفارقة صعبة. هذه المفارقة لن يكون فهمها محيّرا لحظة أن ندرك بأن مثالب التجفيف نفسها التي كابدنا طغيانها طيلة أربعة عقود من الغبن والإقصاء والتحقير والتهميش لدور الشاعر وقصيدته، مازالت عالقة بذهنية مؤسساتنا الثقافية والإعلامية، ليست بوصفها مقارا ومنشآت بل الشبهة تشير تحديدا الى رؤسائها وقيادييها وكبار موظفيها، ممن يدّعون بأنهم من حملة أفكار 17 فبراير. لأنهم لم يتوصلوا بعد لأية مفاهيم تتعلق بخطط وبرامج لسياسات ثقافية تنسجم مع خدمة الإبداع كجزء من مشروع كبير يستهدف التنمية الثقافية. لأن فعل تهميش الشاعر وإقصاء قصيدته خارج المشهد، لا تقتصر أضراره على الشاعر وقصيدته فحسب، بقدر ما يعدّ جرما فادحا في حق وجدان وطن بأسره. وفي انتظار أن يأتي الزمن الممكن، زمن الرؤى الطيبة والبهاء المبارك، الزمن الذي تستعيد فيه القصيدة مجدها ومكانتها كغذاء ضروري للروح، يمكن حينها أن يغضب سكان الحي أو تثار حفيظتهم، لحظة غياب الشاعر وقصيدته عن نسيج وجدانهم بالقدر الذي يستدعيه نقص السيولة واختفاء المحروقات ورغيف الخبز. 

الاثنين، 11 مارس 2019

وسادة الرَّاعي : في سماء نائمة

وسادة الرَّاعي : في سماء نائمة: مفتاح العمّاري   لا يحتاج الربيع دليلا أو عصا . عوض سكين خذ وردة . الشجرة كلمة تطرح أجنحة والريح لغة . له...

الأحد، 10 مارس 2019

في سماء نائمة

مفتاح العمّاري  




لا يحتاج الربيع دليلا أو عصا.
عوض سكين خذ وردة.

الشجرة كلمة تطرح أجنحة
والريح لغة.


لهذا حين اكتب 
تمضي بصمت؛ قصيدتي غيمة
تكبر بصمت، مشكلتي مع النار
تحلق بصمت، قذيفة صديقة 
في سماء نائمة
تنتظر بصمت، أرملة الشهيد
تنمو بصمت، قبلة خلف الزجاج
تصدأ بصمت، علب الحليب لدى تاجر الحرب.
ترسو بصمت، طرابلس على شاطئ الشعاب. 


أقول لمدينتي الحزينة
عوض البكاء على باب ضائع 
اغرفي من ذاكراتي 
ما يمكن حمله في حقيبة 
واتركيني نملة على حائط سيرتك،
اعرف كيف أتدبر رزقي.
احتفظي بزليج حمّامك نظيفا
انا صرصار قنوع 
تكفيني بالوعة صغيرة 
لكي استأنف كتابة روايتي.


اطمئني يا روحي،
أقول لحبيبتي:
بعد يومين سأكبر 
مثل فكرة يلزمها تذكرة سفر
بعد يومين أيضا؛
لن أكون هنا
وبعد يومين،
سأعترف دونما غضاضة
لا املك يا حبيبتي تذكرة سفر،
ولا اثر لامرأة،
أو بلاد أخرى
وكل ما حدث
كان مجرد حيلة للظفر بالمزيد 
من القبل؛
طالما كل وداع؛ 
مشروع قبلة"
فقط مجرد حيلة صغيرة 
حتى لا نتورط كثيرا في ميراث الحرب
والتفكير في قوارب الموت 
وفي بسالة اغوتا كريستوف
عندما اختزلت أطنانًا من الخوف
وهي تتسلل من المجر إلى سويسرا.


عوض سكين 
خذ وردة
يكفي هنا أن نستأنس 
بفضائل بورخيس
اعني إمبراطور مكتبة بابل
كان وراقا عظيما 
هذا الأعمى.


لا يحتاج الربيع 
دليلا أو عصا.
الشجرة كلمة تطرح أجنحة،
والريح لغة.



الاثنين، 24 ديسمبر 2018

معركة ضارية لغزو قصيدة

مفتاح العماري




     في تلك الليلة قبل أن يشرع في كتابة جملة واحدة تفتتح قصيدة، كان ممتعضا من مسألة النظر إلى الاستعارات بوصفها محض سكن للمعنى، فتبلبل وهو يحرك أكثر من مجاز حار، لصور شتى تتنفس كنجمة وحيدة في سقف الظلمة؛ مما اضطره لتمزيق كل عبارة لا تنتسب لذلك النقاء النظيف من شبهة كوكب متغطرس، حتى لا تغدو استعارته مجرد ظل وحسب. ربما لأن الألم المجهول ما انفك يتغلغل منتعشا داخل مخيلته التي ما تزال بعد دهر كغرفة مضاءة بأحزان الأسرى، وأنه مهما سعى لإضافة المزيد من الموسيقى وباقات الورد وإشاعة العطر والشموع الملونة، سيظل الأسى متربصا بكل عبارة اجتهد في إغوائها. وحتى لا يعيد كرة الفشل قرر هذه المرة أن لا ينتظر الهام الكتابة بل سيغزوها.  كان أمله الوحيد وربما الأخير أن تختزل القصيدة كل حياته التي عاشها، وان يحتكم إلى ما احتفظت به ذاكرته من وقائع قليلة افلح في إنقاذها من التآكل، مبديا كل اعتراف رصين بوظيفة النسيان.
   لهذا استأنس فكرة أن يكون محاربا، وقال لنفسه "ما الضير في أن أؤسس جيشا وأخوض معركة ضارية لغزو الكلمات التي لم تستسلم". كان فقط يتوق لاستعادة أوقات ضائعة؛ هي مفتاح السر الذي يمكنه من فتح كل ما تغلّق عليه حتى ذلك الحين في رحلة المكابدة من أجل الإمساك بشيء تائه. وضع حرفا جوار حرف، حتى أمكنه أن يخفي ما بين السطور أكثر من امرأة تسعى لأن تكون شيئا خارج الثياب؛ حينذاك تريث؛ ريثما تأخذ العبارات وجهتها التي كان يخشى أن تخذلها قواها على تحمل مشقة السفر، ومجالدة المجهول القادم؛ لأن الحياة حسب ما خبرها طيلة ستين عاما لها أوجه تتقلّب، كما لها دورات ماكرة يصعب التكهن بمزاجها لمّا تغضب. "أنا جربت ما هو أنكى من أن يكون الجندي هدفا لنيران صديقة". لهذا كان عليه التخلي عن عشرين كتابا، هي حصيلة مسيرته الأدبية في بلاد لا تقرأ، والتنصل مما حملته من ترهات. وكان يكفيه أن يسخر من نفسه، ليكون أبعد من مجرد حلم. وفي آن؛ ارتأى أيضا ضرورة التخلص من هواجسه السوداء؛ بوصفه أحد القتلى في حرب تشاد، وأنه لم يكن في يوم ما يتيما أو مشردا منبوذا من ذويه؛ فليس بالضرورة أن تكون أمه حاضرة كجزء من أرشيف العائلة. لأن الكلمة لا تحتاج كتابا، أو بيتا يطل على ثلاث لغات أو أكثر؛ فقط إذا ما تاقتْ أن تكونَ نهرًا؛ عليها أن تطير.
_____

باب بن غشير 12 ديسمبر 2018 

الجمعة، 21 ديسمبر 2018

مثل الموسيقى

مفتاح العماري  

عازف الجيتار العجوز ( بيكاسو)






تماما مثل الموسيقى الناعمة،

تلك التي تجعل الليل نظيفا والطعام يزهو؛


أجمعُ الكلمات وأشعل نارًا. 

___ 

اسطنبول نوفمبر 2018



الأحد، 16 ديسمبر 2018

فضاء «العماري».. أحجية الاغتراب



عبد السلام الفقهي









فضاء «العماري».. أحجية الاغتراب




طرابلس - بوابة الوسط: عبد السلام الفقهي | الجمعة 14 ديسمبر 2018

     جمعتني الصدفة ذات صباح في مقهى مستشفى طرابلس الطبي بالشاعر مفتاح العماري، وكنت آنذاك مشغولًا بالبحث عن «صبغة» التصوير الطبي، وبدوره كان العماري يشاركني ذات المعضلة، ما جرنا للحديث عن الوضع المزري للمستشفيات والنجوم التي أصبحت أقرب إلينا من حبة الأسبرين، وكان لابد للحوار مع العماري أن يتجه صوب مفازه الأبدي الشعر، وبدت النقلة فلكية من الصبغة إلى المتنبي والشنفري ورامبو وبودلير، عبر وثبة من كتاب أحمله معي لـ«تودوروف» عن الأدب، برع الشاعر في استخدامه منصة لحديثه، وتصفحه مبتسمًا ومستمتعًا بشرب الكابتشينو وكأنما هو من ذلك يستلذ ويتقوى بتجاهله الساخر لآلامه، حتى لتبدو هامشية أمام فضائه القصيدة التي تتحول فيها فاتورة الوجع إلى لذة حد الجنون.
     قال لي العماري في النهاية: «أنا أحب القراءة لتودوروف والشكلانيين الروس»، غادرت المكان وظللت هذه اللحظات معلقة في ذاكرتي عن شاعر لا تبدو طبيعة تكوينه الأدبي منتمية لاتجاه يساري أوغيره برغم اشاراته المذكورة، وهو ما تترجمه نصوصه ومقالاته وتجربته في الكتابة بشكل عام، العاكسة لشغف ممارسة العمل الثقافي بكل صوره وارتشاف ما يمكن أن يصبح رافدًا لفتوحات الخيال الشعري لذيه.
     المخيلة الشعرية لدى العماري اتجهت إلى اقتفاء أثر الوجع الداخلي ليتحول في عصارته النهائية إلى اغتراب آسر، وذاك طابع في جل دواوينه الشعرية والنثرية، فقد بنى النص على إيقاع اغترابي اعتزالي حزين تتصدره استعارة تراثية لها دلالتها في الذاكرة الشعرية العربية، كالشنفرى وحنظلة والهمذاني، ويبقى هذا التصدير له ارتباط بالإيقاع العام للحالة الشعرية في مكان وزمان ما، وان كان الاستعانة بالقصص والأمثلة والحالات الخاصة يولد قدرتنا على التواصل، الا ان ذلك يتوقف على أسلوب ونوع المحاكاة التي يبقى العماري في صراع معها بغية جرها بين الحين والآخر بعيدًا عن أجواء الانكسار إلى أخرى وسط بين المضحك والمبكي في موازاة شغف بودلير بالجمع بين المخيف والمضحك، ولكن في نسخة معدلة تتبنى المزج بدل التقابل أو التضاد، وهي تروم في النهاية إلى نداءات خفية لها وقع صوفي شفيف يجنح إليها كاستراحة محارب، ثم لا تلبث العودة إلى شجونها ومتكئها الأول.
      في ديوان «المقامات» يرتسم السؤال حول ما إذا كان ذلك هروبًا إلى الماضي باستذكار واستحضار دلالات النص التراثي أم هو مَخرَج رمزي لعنفوان وعفوية الحالة اللحظية للذات من باب الضرورة الفنية، ففي مفتتحه الأول للديوان يقذف بسؤاله المقلق متشبعًا بغواية الترحال لدى الشنفري «كيف أقولني/ والكلام وقف على العارفين بأسراره.. دليني أيتها السماء/ كيف أشعل الحجر الذي خربته العواصف/ تذأبن يا شنفري وأطلق عوائك في المدى»، ولأن الإجابة تطلبت المضي بعيدًا لاستجلابها بشرط قاسٍ وهو تقمص الحالة الذئبية المرادفة للعزلة العاكسة لتشظي داخلي عميق يناشد صدى ينقده من دوامة الأسئلة.
     كان السؤال ولازال القوة الدافعة للاغتراب ويستمر مرحلاً في سبعة مقامات تباع، بدأ «بحنظلة» وانتهاء بـ «اللهب»، ولكنه لا يعلن نهايتها مطلقًا حتى كأن البحث عن إجابة يصبح مقصدًا شبيهًا بالأحجية المعلقة في الفراغ يستلزم بقاؤها صيد وافر من الحكايا المرمزة، ويصبح الاغتراب في حد ذاته اللذة المنشودة، وذلك يشبه القصيدة التي يحلم الشاعر بكتابتها ويكتب طلبًا لها ألف قصيدة ولن يكتبها فهي «القصيدة الحلم» أو «النص الأحجية»، هذه المتوالية أضحت آسرة وجاذبة ومربكة في طبيعتها، يتسرب منها جدل الأمنيات ومفازة طلب عصي المنال، و كل التفاصيل تتدحرج وتتكشف مكنوناتها في قاموس «الاغتراب»، «كلما مر شتاء/ فاضت بخيباته الكأس/ وباحت للعابرين بأوجاعها/ غابة من الرغبات الأسئلة».
      ويستمر النداء «ياحنظلة .. مَن يطعن مَن؟ فقد تشابه الموت/ وتشابه الماء والحجر/ وضاقت الدائرة»، والاعتراف هنا لا يعني الاستسلام أو الخروج من دائرة المغامرة اللحوحة، ولكنها تعطي الإحساس بالتطهر من ذنب مجهول، يتجاور مع خذر من الرؤى المتحولة الذي يرسم خارطة الانطلاقة صوب سفر مرتقب واستعداد لخوض معركة لا عنوان لها، ولا زمان ولا مكان يلوحان في الأفق ولا منقذ إلا منصة اعتراف، «إلى صعلوك ما/ لم يسعفه خيال الشعر/ ولم يستوِعلى وطن/ ولم يرتوِ/ لم تلملمه حكاية أو/ كتاب/ ترك حجرًا وغاب».
      ويفتح الغياب هنا بابًا آخر لاقتفاء أثر إكسير خيال يمتلك سر الطلسم، ويسبر كنه تمرد المعنى الهارب دومًا ويبقى السؤال أين ومتى، في نص «مقامات الجمر» يفرض السياق ضرورة وجود المخاطب النصف الآخر من الحكاية وشطر القلب المفقود، فالرحلة تتطلب وجوده حاضرًا وفاعلًا في عاصفة التيه «الهواء ثقيل كالخوف/ لكن قلبي يشتعل/ قلب/ يحيرني هذا القلب/ بأي النساء/ أرسم قلبي يشتعل؟».
      وإذا كان الشعر في سفر سالف لم يسعفه على رصد ملامح الأفق، فإنه في ديوان «مشية الآسر»، يفصح على أنه الملاذ الرؤوم وهو شيفرة الولوج إلى السر المقدس «المعنى» وموصله إلى شقيق الروح «الأنثى» توأم القصيدة، التي ستكون حاضرة فيه بقوة: «هنا علمني الشعر/ السفر داخل الغرفة/ فصار وطني في لغتي/ كل يوم أربت خياله وأعالج مساميره الصدئة».
      ولأن الغربة قاسية بلا رفيق، جاءت الأنثى كجزء من معادلة التوازن، باعتبار القصيدة أنثى تكونت من رحم الكلمة، والأنثى في المقابل قصيدة شغوفة بالقلق، وهي لا تبغي مقابلًا فيزيائيًّا بعدما غادرته هي الأخرى لاجئة ومستجيرة بالعشق الذي لا يعترف إلا بناموسه فقط، ولذلك تتوج الاغتراب بثلاث تيمات «القصيدة، الأنثى، والذات الشاعرة»، ولكن الأنثى أيضًا لا تأتي في النهاية إلا لتمارس أحجية الحضور والغياب وتجسدها كائنًا في اقتراب يهب الطمأنينة، وغياب يتحالف ضمنيًا مع القصيدة، ولا تجد الذات الشاعرة بدًّا من استرضاءها في نص الغائبة «أنت يا مسقط الحلم»، وبذا تتعزز الغربة بغياب مركب وإيحاء الذات المعلق برغبتها في أسر المعنى وتركه يتفلت، ما يضيف إلى لعبة المراوغة الإحساس بأن الإجابة مرهونة باكتمال «النص المستحيل» وترك الباب بين المواربة والإغلاق متقاطعًا مع صرخة محمود درويش: «لا أريد لهذه القصيدة أن تكتمل»، لأن اكتمالها يلغي جدوى المواربة والتشظي «ها هنا نتشظى بين الشيء واللاشيء».
     البحث عن البطل الغائب، الذي ستأتي به معجزة ما، هو سر الأسئلة المتوشحة بالانكسار، لقد اجتاحت عواصف الخيبة خيال الذات العربية بعد نكسة «67»، فسكنت إلى تصوراتها الخاصة ومضت تحاول تخفيف وطأة الصدمة بأمنيات مبطنة بالاستعارات، حيث غاص وجهها الحقيقي بعيدًا في الأعماق وارتفعت للأعلى مجازاتها الخجولة، ومع ذلك تظهر بين الحين والآخر فقاعات تمرد كبروفة إعلان إعادة صياغة خطابها المهزوم «بعد الحرب: قال الجندي الكهل الذي نسميه مجازًا ذئب التذكر: الحرب الشابة التي هبت قبل قليل بمحاذاة القرن الواحد والعشرين كانت بعض أسبابي، أنا الكسيح الفصيح الذي لا يسمع أو يرى، فمَن استمرأ الوقف على حواف الهلاك ليقرأ أسئلة ضائعة لرجل ضائع»، والأسئلة الضائعة تكمن عقدتها في إجاباتها المكبلة بأسوار الأيديولوجيا آنذاك، وسترتد مجددًا لتمارس طقوس الاختباء خلف الأقنعة، وهو صراع مرير من الاحتيال الاضطراري لإعادة ترتيب القصيدة المتشظية بفعل الهروب، الذي أوجد بالضرورة إفرازات بديلة من المعالجات وأجواء مغايرة تتجه لتهشيم المعتاد وإزاحة الصورة النمطية للبطل، الذي حتى وإن وجد فسيوضع حتمًا في متاحف الشمع بحكم واقع الثورة الهائلة في خيارات الممكن أو المتاح، وأنتج النص الشعري من ذلك أدواته الخاصة للتعرف على ملامح هذا الكشف دون أن يعير اهتمامًا لسلم فرضيات بعينه أو يجد حرجًا في تجاوز الخطوط الحمراء.
      وبالرجوع إلى ديوان نثر المستيقظ تومض بوارق اشتهاء لأبعاد «الجندي الكهل» أو «ذئب التذكر» لصالح الدخول لجنة تستوجب الإبحار في تيه اللامألوف «لهذا أهجر اليقين/ صوب مواطن الشك/ لكي تتأهب الألفاظ للنفير/ وتقلب مواقع النون/ بعيدًا عن جعجعة اللغو/ ليفتك النحاس بريق فتوته».
      وبمقدار السماح للغموض بالتمدد يتقدم الوضوح خطوة للأمام في تناوب انطبعت به معظم نصوص العماري والنص العربي الحداثي عمومًا، وهو في اعتقادي غير خاضع لوجهة نظر محددة، وإنما لعفوية دفق النص ذاته العاكس لرؤى متضاربة الاتجاهات تتنازع فرض وجودها في النص عبر جر اللغة إلى مربع الطاعة العمياء، والنتيجة «تداعيات سريالية غير منتظمة السياق» يطمح الشاعر إلى التجسير بينها بالرغم من عدم تجانسها «إشارة إلى واقع يحس الشاعر بعد م تلاحمه وترابطه»، تولد عن اغتراب تصومع داخله الشاعر وأصبح له مفرداته المفعمة بالخوف والشعور بالوحدة والغرابة والتخطي أو التجاوز للحدود، وهنا يكمن مفتاح السفر المزمن في الخيال، أو السفر في «كسوف شعري/ يجفل خارج السرب/ ليعتور سماء القصيدة/ ويطلق الرؤى»، وستصبح القواميس عاجزة عن تفسير مغزى هذا الاغتراب، كما يذكر فرويد ذلك: «لأن اللغة ذاتها تصبح دائمًا غريبة وأن دورنا أن نبعث الحياة في هذه الجثة التي هي النص، محاولين أن نجعل الغريب مألوفًا» فهل أصبح الغريب مألوفًا لدى العماري؟ ولن تكون الإجابة بنعم أو لا، وإنما الإجابة في النص الذي لم يكتبه أو«القصيدة الحلم».
·            
_______ 
عن " بوابة الوسط " 14 ديسمبر 2018


الخميس، 6 ديسمبر 2018

النظر إلى جثة

مفتاح العمّاري






_______________    النظر إلى جثة



     أشعر بأنني في مأزق. وان كنت في الحقيقة التي تخصني سأحتاج إلى أكثر من اسم حار، ونعت جسور، لكي أدرك بأنني صرت ميتا؛ وهذا ما تؤكده جثتي كبرهان حيّ على نهايتي غير المحزون عليها من ذويي وبعض صحبي؛ لاسيما أن عيونا كثيرة تخطتني من دون أن يرفّ لها قلب، مما لا يترك مجالا لأي صدى يشي بوجودي ماثلا ككائن بشري يرزق. وهذا أمر بديهي طالما لا أحد في انتظاري. حدث ذلك قبل عشر سنوات، عندما كنت فرد مشاة باللواء التاسع المدرع، وخضت حربا لا ناقة لي فيها أو جمل. وأنني في نهاية المطاف، لم أكن من بين أسراها المعتقلين، أو من جرّوا أذيال هزيمتهم عائدين بلا أوصاف غير وصمة الجبن. مذاك صرت ميتا، وأينما حللت كان غيابي يسبقني، وأن لا أحد مازال يذكر ما إذا كنت في يوم ما ابنا أو أخا أو صديقا؛ حتى أمي نظفت الأدراج والجدران من صوري وثيابي وبدت أشد شغفا بالجلوس إزاء شاشة التلفزيون، لمتابعة المسلسلات التركية، بحيث لا تترك أيما أثر يدلّ على أنني أمثّل جزءا من حكايات المنزل. في أول أمري أمسيت فريسة خوف طاغ من الموت، وهو شعور غريب استبد بي يومذاك، وظل ينخر كياني طيلة عقد ونيف، من مكابدة عزلتي.
      صحيح كانت محنتي قاسية، لكن حتى لا تتحول حقيقة موتي إلى تجربة سيئة؛ تدبرت عملا يصونني من عفونة التفسّخ، وآفة التآكل؛ فكتبت جملة تشير إليّ عندما كنت طفلا ألعب بالطين، وأخرى تشير إلي مقطّعا بفعل قذيفة هاون في خندق صحراوي، ثم جاورت العبارات السخية، مضيفا بعض العلامات المتعلقة بمصيري المنكود، كضرب من التمهيد لاستضافة  كريمة  تليق بذاكرة متعنتة؛ لا تستسلم دونما أن تحظى بإزجاء مديح أصيل. أعلم أن الترقّب سيكون وحشا ضاريًا إذا لم يكن لديك عملا تنجزه؛ لذا عليك أن تفعل شيئا وأنت تنتظر.  سلخت ثلاثة شهور، منكبّا على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، من دون تسطير أيما شيء يشير إلى الفكرة التي كانت تقلقني؛ تلك التي لا أعلمها. ولأنني أدركت جيدًا أن كلينا حيوان ماكر، أنا واللغة؛ ولن نصنع شيئا مجديًا طالما أحدنا يحاول إذلال الآخر؛ لم أيأس؛ فبعد قليل، تركتُ نفسي تنساق مستسلمة بطواعية لتداعيات كتابةٍ عشواء، لا ضابط لها. مسرنمًا أقتفي أثر أسراري - وبلا مبالاة غالبًا برصانة اللغة ووضوح المعنى -  إلى أن رمت ممارسة طقوس موتي دونما أي إحساس بالخشية؛ بل أصبح الأمر مبعث غبطة بالنسبة لي، كوني محض جثة تتنفس، وأن الموت وحده سيكون بذرة بعثي، لحظة أن يتحول كلّ ألمٍ إلى كلماتٍ ترفرفُ بهيئةِ طائرٍ منقذ، ينتشلُ جثة، وهذا ما حدث.
______ 

طرابلس. خريف 2018

الأحد، 18 نوفمبر 2018

تقطير العزلة كمحاولة لتدوير خانة الصفر

    مفتاح العمّاري  


تقطير العزلة على طريقتي
كمحاولة أخيرة لتدوير خانة الصفر
   من المجدي بين حين وآخر إعادة النظر في الكتابة نفسها، ليس بوصفها نصًا لغويا احتل حيزًا على الصفحة؛ إنما كتوق متوخّى، محلوم به، نسعى إلى استدراجه عبر إغوائه وجذبه، باستخدام حيل فنية مشروعة، طالما الهدف هو إنقاذ حشد من كلمات تختنق؛ إعادة النظر فيما سيكتب باعتباره نصا يتمخّض. وفيما لو اعتبرنا المخيلة رحما، والنص جنينا في طور التشكل والنمو، ستقتضي غريزة الأمومة الإصغاء لحركته ولغته وتململه، والحرص على تلبية رغباته، والاهتمام بضرورة تغذيته، ومراجعة الطبيب للاطمئنان على صحته، لأن أي إخلال بالمتابعة قد يسفر عنه موت الجنين داخل الرحم، مما يسبب في حدوث تعفن وتسمم وأعراض أخرى خطيرة يمكنها أن تؤدي إلى وفاة الأم أيضا.
     اختناق الكلمة وموتها، سيؤدي قطعا إلى موت المؤلف. وسواء أكان الموت حقيقة أم مجازا؛ فأن الفاجعة المحزنة أنه لا مناص من هيمنة سلطان الموت على الحياة كقيمة جمالية، وان خارطة القبح لا محالة ستتسع لتغزو مناطق كثيرة، ربما ستكون بمساحة وطن بأسره. أسوق هذه الصورة كناية عن تعطل الكتابة،لا توقفها، واختلال آلة ضخها، ونشرها ،وتداولها؛ كاختلال لمنظومة الخيال، في أكثر تجلياتها نبضا وحساسية. هذا الخوف المضمر هو ما دفعني إلى اقتراح كتابة نفسي، والاستئناس بالذاكرة تلهفًا لإشباع نوستالجيا بدت متطلبة تحت وطأة النبذ والصمت والعزلة؛ أن لا أحد يصغي إليك،أو يقرؤك، سيظل من الحكمة حينها أن تسارع إلى تمثيل دور المصغي والقارئ، لتكون الاثنين معًا،الباث والمتلقي في آن واحد. أن تصغي أخيرا إلى نفسك. وهذا ما حدث. 
    صحيح أنت محض  شخص واحد، أي مجرد فرد يلعب فيما تبقى من  الفراغ؛ كحيز تنعدم فيه خيارات الشراكة التي تكفل للنص تحقيق التفاعل مع الآخر(القارئ)؛ لكن إعادة النظر المتأنية ستصبح آخر التفاتة رحيمة إذا أفلحت في أن تجعل الشخص الواحد متعدّدا، يختزل حشدًا مستنفرًا لتدوير المخيلة والكلمات والصور، وأنت أيضا ستكون محورا افتراضيا، لتدوير نفسك، وذاكرتك، لأن مصيرك لا محالة سيغدو رهنا باللحظة ذاتها التي تكون خلالها قادرا على مقارعة النسيان واستدعاء كل ما هو تائه.

    انطلاقا من هنا سأبدأ مرة أخرى في كتابة نفسي؛ أي من عتبة هذه الحكمة المصونة، وبتضامن شجاع عبّرتْ عنه كل الحواس دون تجمّل أو منّة، سوف أقيم حفلا سريّا للإشادة بنوع متفوق من الحوار الذاتي. لما لا؛ طالما أن اللعبة برمتها تهدف إلى استعارة ذكية؛ ليس لألف ليلة وليلة طرابلسية، أو لدون كيشوت ليبي، أو لأي صنف يحاكي هكذا مصنوعات كلاسيكية عظيمة؛ بل لابتكار رحلة أبلغ أثرًا وأكثر شأنًا، لأن شهرزاد هذه المرة توشك على الغرق، كذلك دون كيشوت، صار هو الآخر قاب قوسين أو أدنى من حافة الضياع، فيما لم تعد أية أحرف صالحة لصياغة شبه جملة مفيدة، مما يحذو بالسرد ضرورة التخلي عن عبارة " بلغني أيها الملك"، كذلك عن مغامرات سيرفانتس. وهكذا بعد الإقلاع الإجباري عن آفة التدخين، والتخطيط لأكثر من رحلة خارج النوم؛  فكرتُ جديًا في تقطير العزلة على طريقتي، والعودة مجدّدًا إلى خانة الصفر، كمحاولة أخيرة لتدوير الفراغ؛على نحو أكثر جدوى. فقط : لعلّي أتعلّم  هذه المرة أنه في وسع جندي ما، في ثكنة ما، في شيخوخة ينهشها المرض، في صحراء بعيدة وجاحدة: أن يكونَ لوحده حشدًا ضخمًا يكتسحُ أرضَ التجارب غير هيّاب؛ ودونما تردد سيفتتح أرضًا جديدة، حيث أكثر من غيمة وكتاب، وشجرة تشير، وامرأة تنتظر . 
_________  
اسطنبول، شتاء 2017