وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 10 مايو 2018

مختارات .. ناصر سالم المقرحي




ناصر سالم المقرحي



        من الشعراء القلائل الذين لا يسقط شعرهم بالتقادم ولا يعتريه الذبول لأنه إنساني بامتياز , الشاعر مفتاح العماري , ولهذا أعود إليه كل مرة لتجديد التواصل معه ولاختبار تأثيراته السابقة مرة ثانية , وربما العثور على دلالات مغايرة لدلالات القراءات الماضية , ذلك ان شعر العماري إلى جانب أنه شعر يحتك كثيراً بالواقع , له نصيب وافر من الخيال , من خلال صوره الرائقة وتعبيراته التي تضاهي تعبيرات كبار الشعراء شرقا وغربا وتتفوق عليهم , وحتى مفرداته التي ينحتها الشاعر كل مرة وينفض عنها غبار الإهمال ليوظفها في القصائد التي ما ان تحل بها حتى تصبح نابضة بالحيوية ومثقلة بالدلالات , ونستطيع هنا ان نتحدث عن مفردات خاصة به اكتشفها شعرياً وتألقت على يديه بالتآزر مع ما قبلها وما بعدها من كلمات وجُمل بحسب السياق الذي تقع فيه .
إنه مفتاح العماري الشاعر الذي امتلك له من الدواوين اكثر مما أمتلك لأي شاعر غيره , الشاعر الذي نجد في شعره ما لا نجد في شعر آخر , الشاعر الذي يتميز شعره بوجود مسحة غموض طفيف يظل مع القراءة يُحفز ويُنشط القارئ ويُمتن علاقته بالقصيدة , فالقصيدة لدى العماري لا تؤتي أُكلها من أول قراءة والأمر هنا يحتاج إلى انتباه مضاعف وحساسية خاصة من قبل المتلقي , ثم ان هناك ما يمكن أن نطلق عليه اسم الطبقات في شعر العماري , طبقة المُعلن وطبقة المستتر , فثمة خطاب مضمر إلى جانب ما هو ظاهر وصريح , فالشاعر قد يتحدث عن المرارة المترسبة في أعماقه او يحكي قصة انكساره وخيبة أمله ويكتب غربته وقد ينعى عمره الضائع ما بين الثكنات وحياة الجندية التي وجد نفسه بداخلها فقط لان طاغية صور له خياله المريض انه يستطيع أن يكتسح العالم بأفكاره وبجيشه , والشاعر إذ يرى عمره - وهو كل ما يملك – يتسرب من ثقب دقيق إلى ألخواء ويتآكل على مرأى منه لا يمتلك إلا أن يبوح بأوجاعه لعله بهذا الفعل يهدئ من ضراوتها , والشاعر إذ يقول كل هذا يحيل إلى من كان السبب في حصول كل هذا العبث بطريقة أو بأخرى , يحيل إلى الظروف التي جعلت كل هذا يحدث في غياب اية نوازع إنسانية , ولعله إذ يقوله بكل حرقة يمنع تكراره مرة اخرى ويحذر منه .
وهنا نقف بإزاء الخطاب المضمر أو ظل القصيدة وبُعدها اللا مرئي , هذا غير أن القصيدة تنطوي على عوامل جذب أخرى مثل الصورة الشعرية الإستثنائية والتشبيه البليغ الذي لم يخطر على قلب شاعر من قبل وذلك الحزن الخفي والنبيل الذي يجوسها من أدناها إلى أقصاها , وهاته المرارة التي تتسرب إلى السطور لتعطي القصيدة واقعيتها وصدقيتها وتمنحها مذاقها المميز , مزيج من حيل شتى وأساليب في الكتابة عدة هو شعر مفتاح العماري , إذ لا بد من أن يحرك فيك شيئا هذا الشعر ويجعلك منجذبا إليه وإن لم تفعل فتحسس ذائقتك والخلل يتعلق بطريقة قراتك له والأمر يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه – وعي شعري أكبر – وإحاطة بالمتاح والمُتداول من الشعر حتى تتم المقارنة والموازنة والمفاضلة .
وثمة نقطة اخرى يجب الإشارة إليها وهي أن العماري في كل ما كتب من شعر وهو غزير , لا نكاد نلحظ ذلك التكرار أو الأجترار لصورة أو لتعبير معين مثلما يحدث في بعض التجارب الشعرية الأخري ودائما نقرأ الجديد والغير مُستعمل ونقف على الإستثنائي , وهذا يشي بتجاوز العماري لذاته في كل مرة يكتب فيها وتفوقه على نفسه , والشعر عند العماري مرتبط بحالات نفسية اكثر مما هو مرتبط بمناسبات خارج الذات وإن كان هذا الخارج لا ينفك يمارس سطوته على الجميع ومن ضمنهم الشاعر , وفيما يمر على الكل بجنازيره الثقيلة لا يسمح له الشاعر بذلك دون أن ينتزع منه قصيدته , وهذا يعد نصرا للشاعر . 
ولا يجوز شعراً أن نتحدث هكذا بالمطلق عن شعر العماري دون ان نستأنس بشيء منه , وخير من يقوم بتقديم شاعر هو شعره .
كلما يسهو بابك قليلاً
يتسلل نجم حالم إلى شرفة 
روحك النائمة .
وتحت عنوان مقاطع من مطولة شعرية من كتابه " مدونة النثر الليبي " نقرأ له هذا المقطع الشعري :-
ما الشعر ان لم يلتقط صوراً تذكارية للعائلة
عيوننا ثرية بالغيم , أقدامنا فقيرة . .
أُمي تعتق شعرها خارج النوم وتنشر القرنفل بقامة فتية 
أبي , بجبة شرطي متصالب يروض حصانه الناري على 
براري بنغازي الوعرة 
جدي الأعمى , واثقا من صلابة خياله يقود الحكايات إلى 
مراعيها .
أيضا
ثمة كلب مدلل يتبختر مزهوا بذيله في فيللا
السنيورة مانويلا .
يلعق فخد سيدته كلما تدلى سكان صدرها 
وهي تنحني على ياسمين حديقتها .
حدث ذلك قبل أن تترعرع بساتين النفط
عندما كان رغيفنا فخورا بنبله الريفي 
مزهواً بأهازيج الرحى وأصالة الملح والبكتيريا 
والنار التي تزوجت الحطب .
يحتار المرء حقيقةً في اختيار النماذج الشعرية للعماري لأن شعره ينطوي على طاقة شعرية عالية التركيز وحين تنتقي مقطع شعري معين تشعر بالذنب لعدم اختيار مقاطع شعرية أخرى لا تقل عنه إقناعاً وتتمنى لو أنك تضع كل ما تحبه من شعر ولكنك محكوم بمساحة لا تستطيع تجاوزها و هذا شيء يبعث على الأسف .
ومن ديوان حياة الظل من قصيدة " بين الوردة وتاريخها " نقرأ :-
ماذا يعني موت الشاعر يا شريكة صوتي
سوى غياب الضوء الأثير عن جهة الحلم 
وسماء المخيلة 
حدوث خللٍ ما في العلاقة بين الوردة وتاريخها 
أنقطاع الكهرباء عن منازل الطمأنينة وقد استبدت مواسم القتام
بلغة العائلة 
وأيضا أهمال الحديقة وتركها رهنا بدورات الغبار .
موت الشاعر يا حبيبتي
يشي باختفاء نضارة المعنى عن حياة لغة بأسرها
وقد أمست رهنا برفات الذاكرة 
حيث ستفقد المعرفة زوادة السفر وهبة النار 
وبعد حين ستضيع سلسلة مفاتيحنا , وتتهشم العديد من البراهين
كالأكسجين والموسيقى وبصيرة الماء
اشياء ناعمة ورحيمة وضرورية جدا لكي نستمر في كتابة رسائلنا 
وهندسة خرائط عطرنا .
******
وهذا بعض مما جاء في قصيدة " كأنك أعمى . . دعها تنتظر " :-
وأنت تثقب الظلمة بعين خائفة 
وخيال مهجور 
ثمة شهقة هسيس تتخفى . . كأنك أعمى يا أبن مخيلتي 
أقتف دخان محبتك واطرد لغو الريح عن قصيدتك التالية ودع الكلمة الوحيدة تنتظر .
الكلمة الصغيرة الناعمة , التي تتبعها آيات النور
الشبيهة بكتل سابحة في سديم يسافر 
الكلمة الهابطة من علو أزرق بشعر مبلول 
الكلمة الجريئة وهي تصهل من بعيد الكلمة التي نجمة طليقة ترفرف عيدا في مدارج الوحشة 
عصافير حرة في سماء مطمئنة
قوس قزح يزهو بكريستال محبته 
الكلمة , المديح للنار جالبة المطر , المديح للألفة التي واءمت بيننا 
وبين كل ملح , وماء قليل يتكاثر . . .
لكل واحد يتعدد , الكلمة أبجدية خطف . 
الكلمة التي انفصت عراها بين المعاني
وتفتح بريق شهوتها عاليا . . حيث الأسماء تشير إلى
برتقال المسارب الحارة / برتقال الشموس الثملة
بالغة النشوة .
الكلمة ذاتها , تشرد حين تلبي نداء حرف مجهول النسب
الكلمة السخية وهي تقدم أفضل ما لديها 
من عصائر ورضاب ونجوم
التي تُركت غفلا بين الخرائب ستدلي بأوصاف مفسديها . . 
التي أقوى من ان يقهرها نزيف أو تهزمها فاجعة 
دعها تنتظر .
********
ومن نص " نصف الجسد . . نصف الموسيقى " نطالع :-
لا بأس يا امي , أنا بخير , وما من شيء يزعجني
غرفتي دافئة , والطبيب حاذق والممرضة حنونة 
ما من شيء 
فقط سهوت الليلة عن تنظيف اسناني من نتف الحروف الكسولة
كأني سأدع العبارة التائهة رهنا بمخالب لهفتها 
وكلما وخز الجوع مخيلتي سالتهم الصور الضالة التي غفل عنا الصيادون
ثم سأفكر في إيجاد مخرج من هذا القتام الذي يجثم على صدري 
علّي أنقد ما تبقى من كلمات , بلا أثر لهروبي
سيبحثون عني تحت سجف الأشعار الغامضة واقبية المجاز
كأجمل أسير لتيه البلاغات وخيانة المعنى 
سيفتشون في قوائم الموتى والمعاجم والموسوعات وسجلات الشرطة والسجون والمستشفيات 
وفي جميع محركات البحث التي في مواقع السماء 
لكنهم لن يحصدوا إلا المزيد من السراب
ولن يعرفوا إذا ما كنت من الشهداء أو المفقودين
أو في عداد الأسرى
سأنقرض تماما كأي ديناصور او خرافة تفسخت أجساد قاطنيها 
وغدت محض غبار من رفات لا اسم له
غبار يتطاير حزنا كلما خدشت مشاعره معاول الأثريين .
******
وهذا مقطع آخر من قصيدة بعنوان " فصد معلن لتاريخ الوله "
في هذا الليل البعيد , لم أجد يا أبي شرفة صغيرة
أضع خدي على نقاوة رخامها , مرتشفا نكهة برودته المنعشة 
لعلي أستمتع قليلا برؤية الريح والأطفال والحدائق والاعياد
لم أجد بابا رحيما أطرقه
أو قصيدة بريئة من معطف بيرنار .
لم ألتق شاعر حداثة إلا ويدّعي الصداع وعبادة رامبو
وغزو الحانات وتفكيك الجسد
وطرد الجن من أودية الموسيقى .
لم اجد في صندوق بريدي رسالة عشق واحدة
أثق في نزاهة حبرها 
لكي ألجأ إليها كشاعر أو كعاشق أو كمتسول 
لم أجد وردة أطمئن إلى شوكها
حتى أضعها كتاج على رأس حبيبتي
لأني لم أجد في آخر طبعة رديئة من كتاب ( طوق الحمامة )
حبيبة واحدة لم تغدر بي نزوتها
كلما سرقني الوجع بعيدا عن مزاج مخالبها 
فما اكاد أتشبث بمتن عاشقة حتى تنهار جدران محبتي 
أثر أول هزة ليقين الخديعة .
ومع ديوان " حياة الظل " أخذت قصيدة العماري تنحو نحو اللغة الصوفية التي لم ينجو من تأثيراتها الكثير من الشعراء وتتلون بألوانها , وها هو العماري بدوره يقع أسيراً في حبائل فتنتها , ففي قصيدة " يا أبوابها التي . . . " يقول :-
أيتها المستحمة بشمس الالفة
يا أبوابها التي بلون الحنين 
أدخلك مرة أخرى بلهفة العارف الذي شفه الوجد . .
فكوني حنونة , كعهدي بك قبل سقمي
ودعيني بعد غياب هدًهُ الوهن أستنشق بارود محبتك
ممددا قرب فمك ,
*********
ولا يجد بأسا في محاكاة ابن عربي في شذراته الصوفية فينشئ قائلاً :-
الكلمة التي لا تشاطرك ثريد سّرها اتركها لسبيل أقفالها , فالصندوق الذي ينطوي على نصف الظل , خفاء ماكر أحذر مغبة فجاءته , قتام غامض لا يعول عليه .
****
الطريق التي لا تهبك إشارات عناوينها
ضياع لا يعول عليه .
******
من يكذب مرة لن تحمد عقباه
ويصير تلطفه رياء لا يعول عليه .
كذلك الحوار الذي يستنسخ ترهاته لا يصل إلى ضفة آمنة
هو متاه لا يعول عليه .
*****
الصديق الذي يأخذ ولا يعطي , لا يُعول عليه
الصديق الذي لا تنل ملح مودته لا يعول عليه . .
الصديق الذي ينثر فضته في الضوء لكي يغوي أبصار الآخرين , نزق مختال بنفسه لا يعول عليه
_____ .   
عن صفحة الكاتب " ناصر سالم المقرحي " على " الفيس بوك "  7مايو 2018


الأحد، 11 مارس 2018

نزلة برد

مفتاح العمّاري









أنا سعيد طالما الموت لن يكون غيابًا، أو محض ( حكاية سوداء)؛ 
وأنّكِ في وقتٍ ما ستبحثين عنّي؛ ستبحثينَ
في الكلمات نفسها، التي تركتها في الأرفف والأدراج،
في التراب، وفي العربة التي ستقلّني إلى التراب،
في ما سيخفيه الآخرون عنك،
وفي ما يعجزون عن ردمه،
في ما يرثه النوم، ليبقى مجرد شبهة نوم،
في الكتب وقد تخفّفت من غبارها، وأوزار عزلتها،
في ما يبقى عالقًا بالوسائد والثياب من روائح وموسيقى وصور،
في الصور التي جمعتنا كحبيبين، 
وفي الصور التي فرقتنا، فيما تنزوين بغرفة النوم منكبّة (كما يبدو) على معالجة خيالك، وفيما أتظاهر بالقراءة وأجلس وحيدًا ( كما يبدو) على الكنبة غاضبا كلغم متربّص،
في ما أكتمه من وجع باتَ مزمنًا،
وفي ما تخفينه من رغبات بريئة،
في الأصابع التي تشبه أصابعي، عندما أدخّن أو أستغرق منتشيًا بالكلام،
في مخلفات الحرب، التي تبعثرت بين خرائب الحرب،
في الضحك، وهو يحرسني من الخوف وتطفل الغزوات البليدة،
في مساء الخميس، (كحكاية  تائهة) عندما أغادر الثكنة مزهوًا بمشية الشاعر، لا الجندي،
في صحراء تشاد، (كحكاية محزنة) وأنا أترك الرمل خلفي لكي أستنشق البحر،
في أنفاس البحر، (كحكاية مبهجة)  لحظة أن يكون شاطئ الشعّاب مطلا كأب حنون،
في انتعاشة السفر، (كحكاية شغوفة)  حين أجلس في صالة الركاب متأهبًا للطيران،
في مخطوطات رواياتي (كتدوير للحكايات نفسها)، رواياتي التي لم تكتمل،
في ما تنفضينه من ذاكرتك، لأبدو بعد قليل نظيفا من الشبهات،
في ما لا تستطيعين تذكّره، وتتكفل الصدف بإيقاظه، 
في كل شيء قريب تلمسينه، سأتخلل رعشة أناملك الحارة،
وفي كل شيء بعيد، (تديرين له ظهرك)، سأنتظرك مرة أخرى،
حتى في النسيان (كحكاية كريهة) تستعير مجاز الموت؛
 سأبدو سعيدًا طالما ( في وقت ما )؛كنّا كأجمل حبيبين في جنة البيت،
وكزوج من الصنف النادر، في مطبخ متهالك،غير عابئين بفرقعات القذائف، وأزمة الخبز والنقود والمحروقات: 
أنت تصنعين الفطائر، وأنا أعدّ القهوة،
فقط ( كما نظن) لكي نتفوق على المرض والفقر والفوضى والظلام،و(حياة الغائط) بالشعر،
وبالمزيد من الشعر؛ أنا سعيد طالما
سأبحث عنك،وتبحثين عني
في الكلمات نفسها التي لا تكتفي بوصفها نزلة برد حادة،
أو أنها مجرد حكاية،
حكاية وكفى.
¨        

 باب بن غشير . فبراير/ مارس 2018

الجمعة، 9 مارس 2018

شهرزاد ( قصائد زمان)


مفتاح العمّاري  






 

__________              شهرزاد 


لأنك باب التائهين،
 دائما تحملين صدرك مختوما بحبر الشفاه.
كم جيشا يا ترى تذكر الأمّ والوطن
 حين رآك تقودين الأنهار والحقول والمدن ،
 فتمنى لو تهدأ الحرب قليلا،
ريثما يتبعك مأخوذا بلا أين. وأنت تهتفين :
هذا  رنين فمي
فما ذنبي أنا المرأة الوحيدة
إن رقصت حمامة في المطر
أو غنّت قبّرة .
وهذا اللامع بريق مخيلتي . فما ضرّ لو أن
حطابا عشق أميرة القصر .. أو طمع متشرّد في
كرسي الخلافة .
أنا محض امرأة وحيدة . وهناك أكثر من خيال
تنسجه أمة تنتظر جلادها .
هناك أربع وعشرون طريقة لتأنيث الليل .
لكن غلطتك كانت فادحة ، وأنت تأخذين
الجيوش بأسرها
إلى متاهة اللذة السامقة .
لأنك تشبهين معجزة خجولة : حقول من
الورد تنبت في كتاب  مبلول ..
وموسيقى
تهطل من عينيك المسافرتين في المجاهل السخيّة
وتغدو الكلمات سحابة عطر . حينها لم نكن أنت
وأنا مجرد ذكر وأنثى نحشد التراب والماء
والفصول  لكي نبني بلادا في الليل لنحرقها في
الصباح .
لأنك ابنة كوكب يسافر ، صرت تستمرئين
اللعب  معي ، فيما تتركين الرواة يتقاسمون
ثروتك ويتركونك كما أنت امرأة وحيدة تبتكر
شيخوخة الألوان لترسم آخر رائحة قبل الموت
بهيئة غرف كالحة يتقاذفها هوس عليل ، ورسائل
وجد يأكلها العثّ .
ثم ما الجدوى من البكاء على كتفي المهدّم ..
أمن أجل طفل لم يولد ،
أيتها الأم العذراء
التي أكبر من عاصفة
وأكثر من أنثى  ..
التي لن يحيطها لون
أو تؤويها لغة .
**

أيتها القصيدة
إني أنأى عن خيالك .
 ___ 
طرابلس . ربيع 1999

السبت، 9 ديسمبر 2017

الشاعر مفتاح العمّاري يصفع التوحش



يونس شعبان الفنادي

الأستاذ يونس شعبان الفنادي


    مثلما الليل واحة للسكينة والتأمل وملاذاً وحضناً للغرباء، كانت أمسية الشاعر الأستاذ مفتاح العماري رحلة غوص عميقة في عذوبة المفردة المتراقصة المستدعاة من جوف رحم النص الشعري الواثق من كيانه وبهجته. لقد طرز شاعرنا الكبير حديقة نصوصه المنسلة من لحظات أقدارنا المرهقة، روعة الشعر الأنيق، ونقاوة غاياته ومراميه النبيلة وبهاء وبريق صوره التعبيرية الجميلة.

    وطوال تلاوته لصلواته الرقيقة في محراب الشعر، استمع جميع الحضور الغفير سابحين ومستسلمين في دعة وهيام مثل خيالات متسمرة ثابتة، لبهاء النص الشعري العذب، يلاحقون به أنفاسهم اللاهثة وراءه، وينهلون رحيق فيوضه في استجابة متناهية وهدوء مطبق، وسكون مطلق أغرق القاعة الغاصة بهم في صمت منقطع النظير ظل يتعاظم وينتشر في جميع أركانها مفسحاً كل الزوايا لأسرجة الشعر بصوت الشاعر.

    كان الجميع منصهراً وذائباً في تجليات ذاته المحلقة في فضاء عوالمها على بساط أنغام موسيقية حانية تهدهد الكلمة الضاجة بالوجع والمسرة في آن واحد، وتكفكف سيول الدموع النبيلة الصادقة المنحدرة من مآقي العيون الجملية لعشاق الشعر. كانت نصوص الشاعر الكبير مفتاح العماري صفعة للتوحش، وقبلة على جبين ورود وأزهار الأمنيات العذاب، ومشاكسة مؤلمة والتقاطات جريئة لراهننا البائس الذي اختلط فيه الدمع بالدم والفرح بالألم.
                                                        

الأديب الشاعر جمعة عتيقة

ظل يحاذيني منذ بداية الأمسية وحتى نهايتها، إنسان صديق وأديب شاعر رقيق، هو الدكتور جمعة عتيقة، جالساً بجانبي على كرسيّه صامتاً إلاّ من بعض وشوشات يهمس بها في أذني وأشاركه فيها، ولكنني من حين لآخر كنتُ أحسُّ بطيف روحه يتمايل نشواناً وتيهاً فينجذب هائماً بجسده نحوي مع كل دفقة شعرية تخترقه وتخترقني، تهزه وتهزني، حين كنا نئن بحمل جمالية الصورة الشعرية المبهرة التي برع الشاعر الكبير في صياغتها عنواناً يختزل بكل جدارة رهافة أعماقنا الندّية، فتنسابُ فينا جميعاً بكل دفء، وعفوية، وتلقائية وعذوبة لتفجر بغزارة سيول عيوننا العاشقة والقلقة تجاه هذا الوطن. وحين كنتُ ألتفتُ إلى عينيه الهائمتين من حين لآخر أرى فيهما مرآة تعكس قطرات دموعي الدافئة وقد اختلطت بدموعه الحانية، وآهاتي المنتشية قد عانقت المفردة الجريئة (شكراً للذين تدمرت بيوتهم) فاحتضنت أنفاسي المبعثرة وقدات روحه المتوهجة وآهاته الحرى، وتشاركت أيدينا في التصفيق بحرارة.. ونظرات العيون الدامعة.






يا لهذا النص المجنون الذي يخترقنا  !!
يا لهذه المفردة التي تعبث بنا  !!
يا لهذا المشترك الذي يجمعنا  !!
يا لهذه النغمات الموسيقية التي تزرعنا غيمات ممطرة !!
يا لهذا الصوت المتهادي إلى مسامعنا بكل ثقة وطمأنينة فيستوطننا بلغة متقنة النحت والزخرفة والأداء  !!
يا لهذا الشاعر المغرد والمحلق بنا في عوالم شتى تنقلنا فيها من كآبة ثكنات العسكر وحرب تشاد إلى روائح التاريخ المتسربل في زقاق المدينة القديمة وارتساماته المضيئة العبقة على جدرانها وحيطانها، والضجيج الرقراق الذي تعزفه الخطوات والوجوه المكتظة في شارع الرشيد وحتى مرابض سيدي عبدالجليل، وصبايا إيطاليا العاشقات للآيس كريم  !!
ما السحر الذي سكبه الشاعر الكبير مفتاح العماري فينا يا تُرى خلال الأمسية القصيرة التي امتدت في أعمارنا عقوداً وأزمنة طويلة ولم تغادرنا حتى الحين؟

    يقولون بأنه ليس كل القصائد مسكونة أو حبلى بالشعر .. ولكن  شاعرنا مفتاح العماري أكد بأن كل شعره قصائد ... وكفى.

 _____ 

هذه شهادة اعتز بها جدًا، كتبها مشكورًا، الأستاذ : يونس شعبان الفنادي ، نشرت بصفحته الخاصة على الفيس بوك، وقد وصلتني بواسطة الشاعرة: سميرة البوزيدي.