وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

قصائد زمان ( 4 ) *

مفتاح العمّاري

_____   نساء            

أ جمل ما في النساء                  
كونهن  نساء .                         

أجمل ما في  الكلام                   
إعراب  النون
وتصريف التاء

وأجمل ما في  الشعراء
نسونة  العالم
وتأنيث الأشياء  .
___ 
من قصائد المجموعة الشعرية ( رجل بأسره يمشي وحيداً )
طرابلس ، 21 اكتوبر 1987



الأحد، 29 نوفمبر 2015

مقعد لعاشقين : سالم العوكلي

مفتاح العمّاري


مقعد لعاشقين*

     دعونا لا نتّفق ، هذه العبارة عتبة ممكنة للإطلالة على آخر إشارات التفوق الإبداعي في الشعر الليبي الأجدّ .  فها هو الشاعر سالم العوكلي يكرّسُ بهدوءٍ طموح ، الاختلاف والتّجاوز .. وبنشاط متزايد .. كما تشي به كائنات مجموعته الشعرية : مُقعد لعاشقين  ، والتي تجاور بين سؤال الهوية وقلق الشعر كطريق للمعرفة ، من دون أن تغفل شحن الكلمات بما يليق بها من خصائص جمالية وتفانين أسلوبية .. لكتابة شعرية تهجس بالاختلاف والتلقائية الفادحة . وهي على الرغم من بساطتها ، لا تضاهى .. قياساً بألمع التجارب الشعرية العربية المعاصرة ، وأكثرها شهرة . لذا تُعدُّ  هذه التجربةُ لما تنطوي عليه من حساسية جديدة وذائقة متطوَّرة، بمثابة بيان شعري للخروج عن الهجانة والانبتات .. وفضح المستنسخات الباردة التي لا حياة فيها ، وأيضاً دعوة للاختلاف ووضع البصمات الحقيقية لما نعتقد بوجوده من قيم شعرية أصيلة وأسس جمالية تعبّر عن هويتها داخل النصّ الأدبي ، ضمن شروط التجديد والمغامرة .. وتجعل من ذاتنا متحقّقة في جوهر الكتابة ، كممارسة إبداعية مؤمنة بجدواها .. تحتفي بقداسة الشعر كسبيل للتحقّق والمعرفة .. ومن ثم هي حالة واثقة تأنس لعنف المخيّلة وصلابة الوعي الرصين ، وضرورة التجاوز كردَّ شافٍ على المشكّكين  في قدرات الكتابة الشعرية الجديدة ، لتقول لهم ما الضرر إن كان الحلم دليلنا . إذاً هذه علامة أخرى تشي بالحبّ والحياة . فقط دعوا القصيدة تتنفّس :



" دعوا القلب يكتب سيرته
دعوا الحمامة تنام في حجر المئذنة .
دعوا البنت  ..
تقصف بشعرها المرسل ..
جدار الحكمة  .
دعونا ..
دعونا لا نتّفق .
**
دعونا في زاوية المقهى  
نقيم منفانا الصغير
نخرج المرأة من عروضها
ونهمس الشعر الجديد
دون أن نلتفت
...  ...  ...
ربما يوماً سنغنيّ
فقط
لتعرفوا الطريق إلينا . "
___ 

كتبت احتفاء بإصدار المجموعة الشعرية مقعد لعاشقين 2001

ظلُّ الأعْرج

مفتاح العمّاري


ظلُّ الأعْرج
 يحدث في هذا الليل، حين ينقطع التيار الكهربائي ، 
 يحدث  لكي أزيح عشرات الثكنات عن كاهلي  ،
 وأنفض ألفي عام  من دخان الغزاة ،
 أن أصغي لأغنية مجهولة تنبعث من داخلي
غير مكترث لهزيمة  الأرق  بأقراص النوم  .
 وأن أفكّر بطريقة جامحة في كتابة قصيدة ، على بصيص شاشة هاتفي المحمول .
هيا يا عزيزتي ، أنت كلبة مطيعة .
**
 كما يحدث في الأثناء  أن افقد نظارتي ،
 لكنني لن أصخب مثل ذئب فوق تبّة مهجورة ،
 لأن الظلام مهما تعاظم  لن يحول بيني وبين المشي حدّ التعب.
**
يحدث ،
فيما يقتحم اللصوص بنوكا وشركات .
أن أسلك طريقا بعيدا عن روما .
وأرسم خططا  لغزو المخيلة .
فيما يسرقون الثورات ويسطون على مخازن الألفة .
أجتاح اللغة بحثا عن شجرة أصيلة ،
 أو طائر فوق حطام .
**



هذا كلّ شيء :
محض ترهات لظلّ أعرج ، 
فلا حاجة  للقلق . طالما يمكنني في هذه الليلة الحالكة
تقبيل حبيبتي ،
وكتابة قصيدة وأنا مغمض العينين .
أجل ، لا مبرر للقلق من أجل نظارة ضائعة ، 
وعلبة دواء تتلاشى ،  
وحلقة مفاتيح ربما كانت قبل قليل على المنضدة أو في جيب سترتي .
 ربما لأنني تعوّدت فقدان العديد من الأسماء في معارك غبية .
 فأحيانا ثمة كتاب يختفي فجأة من أرفف المكتبة ،
وولاعة سجائر تغادر بطريقة غامضة سطح الطاولة  ،
ويسقط رقم هاتف من قائمة الأسماء
وتنسحب فردة جورب من محراب حذائها  في صباح مبكّر
وتختفي ساعة اليد دونما سابق إنذار  ،
فيما لا أذكر ما إذا وضعتها على الكومدينو ، أم فوق رخامة الحمام .
يحدث الأمر ذاته مع الأمشاط وقلامات الأظافر وفرش الأسنان .
وأيضا مع خاتمي هو الآخر ، والذي حين افقده يجعلني أعاود نبش الأدراج ذاتها .
كل هذه التفاهات الاعتيادية ، لا تعني شيئا لرجل متشرد في الألم  ،
ففي نهاية المطاف لا شيء  يدعو للحزن طالما ستظهر الأشياء الضائعة بعد حين ، وبمحض الصدفة ،  
 لأكتشف أن  الوقت الذي قتلته في البحث عن مقتنيات صغيرة
يبدو أكثر سخرية وأنا أستسلم للضحك ،
 وأنّ أيّ ارتباك هنا، سيعدّ ساذجا وأحمقا كطفل يعاني من رهاب المرحاض ،
 هزيمة رخيصة أمام الغائط .
لأنه حالما يعود التيار الكهربائي
سأدرك في بساطة شديدة الوضوح
 أن الظلام  دليلنا لكرامة الضوء .
 لأبدو مرة أخرى أكثر حماسة وأنا أعالج الكلمات الضالة .
____  
طرابلس . فجر الاثنين 21 يناير 2013 


الجمعة، 27 نوفمبر 2015

قميص



في خزانة ِالثياب

رأيتُ قميصي الكاكي

خجولاً يرثُ حروبا خاسرة .
__  
الأبيار 22مارس 1984


شهرزاد

مفتاح العمّاري    



__________              شهرزاد 


لأنك باب التائهين ،
 دائما تحملين صدرك مختوما بحبر الشفاه .
كم جيش يا ترى تذكر الأمّ والوطن
 حين رآك تقودين الأنهار والحقول والمدن ،
 فتمنى لو تهدأ الحرب قليلا  ،
ريثما يتبعك مأخوذا بلا أين . وأنت تهتفين  :
هذا  رنين فمي
فما ذنبي أنا المرأة الوحيدة
إن رقصت حمامة في المطر
أو غنّت قبّرة  .
وهذا اللامع بريق مخيلتي . فما ضرّ لو أن
حطابا عشق أميرة القصر .. أو طمع متشرّد في
كرسي الخلافة .
أنا محض امرأة وحيدة . وهناك أكثر من خيال
تنسجه أمة تنتظر جلادها .
هناك أربع وعشرون طريقة لتأنيث الليل .
لكن غلطتك كانت فادحة ، وأنت تأخذين
الجيوش بأسرها
إلى متاهة اللذة السامقة .
لأنك تشبهين معجزة خجولة : حقول من
الورد تنبت في كتاب  مبلول ..
وموسيقى
تهطل من عينيك المسافرتين في المجاهل السخيّة
وتغدو الكلمات سحابة عطر . حينها لم نكن أنت
وأنا مجرد ذكر وأنثى نحشد التراب والماء
والفصول  لكي نبني بلادا في الليل لنحرقها في
الصباح .
لأنك ابنة كوكب يسافر ، صرت تستمرئين
اللعب  معي ، فيما تتركين الرواة يتقاسمون
ثروتك ويتركونك كما أنت امرأة وحيدة تبتكر
شيخوخة الألوان لترسم آخر رائحة قبل الموت
بهيئة غرف كالحة يتقاذفها هوس عليل ، ورسائل
وجد يأكلها العثّ .
ثم ما الجدوى من البكاء على كتفي المهدّم ..
أمن أجل طفل لم يولد ،
أيتها الأم العذراء
التي أكبر من عاصفة
وأكثر من أنثى  ..
التي لن يحيطها لون
أو تؤويها لغة .
**
أيتها القصيدة
إني أنأى عن خيالك .
 ___ 
طرابلس . ربيع 1999

الخميس، 26 نوفمبر 2015

قصائد زمان ( 3 )


مفتاح العمّاري

منازل السرطان

في الساعة السادسة والنصف تماما
كان المساء حارا
وعيدا يرقص في الشوارع , كان
لحظتئذ جاءت ( لينا )
ايه يا طرقات السماء العالية
 في الساعة السادسة والنصف تماما
كأنك تحلمين بي
أنا مفتاح البحر
البحر الراقص بأجنحة رخاخ فضية
البحر رحم الكائنات الأولى
     التي من عشب  ومخلوقات صدف تائهة.
هو ملاذ السرطان
برجنا معا ،  أنا وأنت .
كذلك بابلو نيرودا الذي قتل قبل قليل .
في السادسة والنصف بتوقيت طرابلس
جاءت لينا ...
هي أذنا خزف معجون بحليب الود
عينا ( قصطل ) محروق بشمس حنونة
سيما فرح مخطوف بالحب
سيما زعل حميم .
____
السواني 12 يوليو 1983


الأحد، 22 نوفمبر 2015

الملاك

مفتاح العماري




مفتاح العماري

_______ الملاك

" لم أزل أبكي حتى ضحكت ، ولم أزل أضحك
 حتى صرت لا أضحك ولا أبكي."
- أبو يزيد البسطامي -




- 1 -
مرة أخرى  تستأثر بي سكرة فرشاتي التي كما يبدو قد ثملت من فيض ما صورته من عجائب المخلوقات إلى الحدّ الذي لم يعد فيه ثمة بياض في مكنته أن يرحب بشطحات نزوتها السادرة دونما توقف في رسم الكائنات التي تستدعيها اللحظة  لتبتكر في كل شطحة لونا إضافيا اشتّقت ظلاله من عناصر متباعدة لا رابط يجمع بينها ، هي من خامات منبوذة وأشياء مهملة ، فأختلط نسغها بصوف محروق ومنقوع الشعر وزيوت الحجر وغبار الفجيعة وبخار الأحلام ، وكل شيء متعذّر وشاذ ومجهول قد استدعته مغامرة ألواني التي لا فكاك من اقتفاء جموح شهواتها ، ليصل طغيان خيالها إلى أبعد حدّ في اختراع خلطة من ألوان مستحيلة لم توجد. فكان لزاما عليّ أن استسلم لجرح أصبعي بشفرة حلاقة لكي أضفر بطاس من طراوة دمي وقد  امتزج بعد هنيهة بقليل من دموعي الحارة مع لسان عصفور حطّ به المطاف على رخامة نافذتي ، ثم هيأت المحلول لأن يمتص روح القمر لسبع ليال قمرية متتالية من ليالي الربيع الصافية ، بعدها أضفت إلى الطاس مسحوقا من ريش حمام وندى لم يمسّ ، ليكون جاهزا بعد امتصاصه لثلاثين عنصرا من عناصر الكون ، لرسم الكائن الذي حتى تلك الساعة لا أدري ما هو . لأنه لم يدر في خلدي قط ، بأن أطياف فرشاتي وهي تترنّم بين سحب شفيفة قد بيّتت أمرها لاستدراج ملاك شارد ، أو هكذا تبدّى لي حين أمعنت النظر في ذلك البهاء من إعجاز اللون وهو  يسفر عن طيف نوراني يحلّق مشعشعا في فضاء لوحتي المزهوة بنفسها .



- 2 -

هنا تتطلّب معجزة الفرشاة أن ألجأ رغما عني إلى حاشية النثر الذي لا  مناص البتة من طاعة ما تمليه أوجاع خيبته ، وعلل وجده ، لأشير بأصابع قلقة ، دونما غضاضة أو خجل  أو خوف  إلى مخلوق  لوحتي الذي تمرد على فضاء ورقة  الفبريانو لترمي به  طوالع الخلق في دربي ككائن حي ، وليس كنزوة  عشواء من نزوات اللون السحري التي لا براء غالبا من ترّهات طبيعتها الغامضة ، حين تتبع الضلالة التي تقمّصت هيئة ملاك .
ملاك تراءى لي في غفوة من غفوات حكمة  النّور كأنه قد  هبط فجأة من السماء الثامنة ، كائن قزحيّ من خزف شفيف  يشعّ لطفا ورحمة ودفئا  ، ملاك لا يسعك إلا أن تنحني ذليلا وصاغرا لتقبّل موطئ نعليه ، ملاك أرسلته ربة اللون المقدس لكي يغمرك بعطفه ويروي روحك الظامئة من معين محبته ، يؤنس عزلتك ،و يرمّم خراب رحلتك  ، ملاك  ذو  ملمح آمن ونضر وناعم وخجول وتقيّ وعفيف ووديع وباهر . ملاك وهبته لك آلهة الرسم أخيرا  ، وكأنها تريد أنصافك بعد طواف طويل من التعب والشقاء والتيه في شعاب الجهات الوعرة .  نثر لخليط من عناصر لون وحشيّ  يختطفك من رتابة الخبب ، حين يسفر عن طيف بهيّ يفيض وجدا ويتدفق بهجة وحبورا ، ملاك من خلاصة أعجاز قدّت  من دم  ونسغ قمر هائم في ملكوت الشعر  و بكارة ندى ، وموسيقى من ارتعاشه أوتار معتّقة ، وخفقة ترانيم ناي ولهان .. وعصائر طير عاشق ..  ومشية ليل اثمله  فيض العشق /  ملاك في عينيه أنهار من ودّ وسماء سعيدة برقص نجومها وأعراس سكانها المرحين  ،  ملاك أخّاذ وفاتن ، لا غرابة أن يستأثر بصلاتك وأغانيك وطوافك ، ستعطيه كل ما تملك وما لا تملك ، تهبه حواسك وكنوزك وحريتك وذاكرتك  وجواز سفرك و نطفة تجاربك وهيجان نبيذك .. وكل ما تملكه يمينك من مفاتيح الأبواب والقلوب  والخزائن والأسرار  سيغدو رهنا له ، بما في ذلك جسدك النحيل الذي لا يقوى على مقارعة جمال العواصف التي ترسلها غيوم السخاء ، لتمسي قامتك خفيفة ومستنفرة  تتعثّر مزهوة بتلعثمها وارتباكها كلّما همست شفاه ملاكك ، تنطّ أيها العبد ملبيا دونما تردد كل ما يمليه وحم معشوقك ، من رابع مستحيلات الكون  إلى ثامن معجزات الدنيا التي عليك أن تجلبها من عدم .. لأنك لا تملك في ما تملك  إلا أن تكون خادمه ومريده ومسامره ومهرّجه ، وظلّه الوفيّ الذي يستجيب طائعا وطيّعا لنزوات مزاج ملاكه السكران ، يكفي أن تتفيأ سحابة عطره لتسافر في ملكوت المتع / نوراني هو ملاكك العارف بكل شيء ،الذي يكفي التمتّع بلمس أنامل رأفته الكريمة ،  هو القابض على أسرار الغيب ومخابئ المجهول، السالك نهج معرفة الأفئدة  ، الكاشف جوهر الخفاء وطبائع الكواكب المنظورة والخفية ،  الواهب حليب النجوم ،وليزر الثريا ، النابض بجمهرة الأنوار ، هو مولاك وسيدك الذي تأمل بتوق جامح أن تحلّ عناصره الثلاثين التي صوّرته بها ، لتمتزج بتاريخك وجهاتك ونومك وصخبك وسكينتك ولحافك وأنفاسك  / تتخلل لغتك وحلمك ومديحك و سيرك  ومسراك / هو سترك وسريرتك ، لباسك  وسفرك ، عاصمة فؤادك  ومدار عيشك ومعاشك ،أوردة خيالك ، وعروق متعتك ،  تنام  حالما به ، منتشيا بوعد حنانه الوارف ، وتستيقظ  متضرّعا في توسّل  أن يشملك بخطفة عطف  تتزود  بها على منازلة جند الأيام . كنت تراه ملاكا  ، وهذا دأبك لا ريب كلما سبقتك ترّهات شهوتك ، أجل قد ظننته ملاكا لا غبار عليه ، ملاكا  يتفوّق على جمال سلالته / كأنه المقام الأول والأخير في مسافة اللون ومدارج الهوى ، العبارة التائهة عن صيادي الحكمة ،والسلّم المأمول في  تاريخ الموسيقى / الضفة الآمنة التي تنتظرها جمهرة العشاق / كلمة السر المفقودة  في جزر اللغات / القصيدة المنتظرة  ، والعبارة  المحلوم بها التي ستنقذ الشعر من شتاته ، وتضع حدّا لمتاهة  الجعجعة . خلاصة العطر المستحيلة التي من أعشاب الغيب  وبساتين الخرافة .

- 3 -
تنتظر وتنتظر ، ثم تنتظر مرة أخرى أن يترفّق بك  ملاكك ومخلّصك ومطهّرك ومولاك، ولا سيما أنك ما تفتأ أبدا ،ليلا نهارا رافعا أعمدة المديح بعلوّ خاشع ، إكراما لبلاغة الحلول في حضرته ، والفناء في تجليات قدرته . ولأنه ملاك من سلالة خيالك ، ينصهر في شرايينه شيء من دمك وخلايا السماء ولغة الطير، لا يمكن الظن بأن يكون وباء أو شرا أو حقدا أو ضغينة .. هو حتما من عيار استثنائي ، ملاك  صكّ متنه الشفيف من أبجدية عناصر الرحمة وحدها ، لأن الملاك غير الشيطان ، فهو ضد الشتات ونقيض الفرقة ، وهو بداهة من صنّاع  الخير ، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن الفحشاء والمنكر ، ويجنح تبعا لطبيعته اللونية التي من قمر ودم ودموع ، يجنح للاحسان والسلم والمغفرة والتوادد والحلم  والرحمة والتسامح ، وكل شيء من رهط الطمأنينة والسلام يليق بالملاك ويكون من لدنه... الملاك  دعوتك لحياة مبهجة / ومرشدك إلى البساتين والأنهار ، هو دليل ألفة  وتآزر ، وصلة رحم ، لا  محرض فتنة ومهيّج زوابع بغضاء ...الملاك  يا سيدي لمّام شمل ،لا قاطع أرحام / مؤلف قلوب  ، لا مغلغل نقمة  وبذّار فرقة وحمّال وشاية  ونبّاح نميمة  . فهل يعقل أن يكون ذلك الكائن الذي حسبته في شطحة ما من شطحات الخلق ، ملاكا عفيفا  خرج طازجا من لوحة الرسم  ، هو محض وهم ، وأورام خديعة صورت لك الشيطان ملاكا .  لتكتشف بعد هلاك ثقيل ،لا مردّ لغزوة فحشه بأن ملاكك  أيها الرائي الخائب  محض خبط أعمى من لطخ خيال تتشرد ، ونزوة ألوان غرّر ببراءة خليطها . لهذا حين تجرّد ملاكك من لحافه، وانكشف  بعض ما يخفيه إزاره ، بعد أن ذهبت الشمس بسديم حجبه وقشعت غلالة سرابه ، وهلام  سحب صيفه الماكر ، تبدّى لك في هيئته العارية وسوءته المخفية الخافية  ،وأنه في حقيقة جوهره  لم يكن سوى  داهية من خدم الشيطان الرجيم  عليه لعنة الله ، في الأولى والآخرة ، وتابع خسيس من رهط إبليس الذي هو خازن شرّ ،  وجلاد براءات ،ومشرد أسر ، ومشتّت شمل وقاتل مسرّات .

- 4 -
سأل حارس الظلمة :
*    أين منزلك أيها العابر
-   منزلي لا يحدّ يا سيدي ، انه الشاسع الذي سقفه هفهفة نسيم وبساطه مديح وأبوابه عناوين مخيلة .
*    أليس لديك دار تؤويك ، لتسكن إليها  وتحتمي بها من هذا الزمهرير الغاضب ؟
-         كان لي مقام ، لكني قد هجرته ، بل تحررت من سطوته وعتقت نفسي من نفسي .
*    لا أفهمك ، أو لعلّي لا أريد أن أفهم سوى أنك ضائع .
-         كنت ضائعا حين رضخت لسطوة وجداني ، أما الآن فأنا حرّ لا أين لي ...
*    ولمن تركت ملاذك ؟
-         لغزاة طيبين .الذين رأفة بي، كفروا بي ..
      اقتلعوني عنوة من تربة وطني ، واغتصبوا مملكتي دونما سلاح ،
       سوى بارود محبتهم .

*     ومن يكون هؤلاء الطغاة الذين جعلوك منبوذا وشريدا لا كنف لك ؟
-    الملائكة ياسيدي / الملائكة وحدها من أطلقت براثنها في أوردتي حتى ضقت ذرعا بمتني وغلافي ، فهربت ناشدا الخلاص  ، منقذا ما تبقى من أنفاس حبري لربّما أرسم أرنبا يرقص أو عباد شمس يتمرد على تاريخ عبوديته ، أو قصيدة تفلت من شباك الخليل .....
*    لكن الملاك لا يسطو على عباد الله ، لعلك تهذي ...
-         أقسم يا سدي أنّه ملا ك  لا غبار عليه ......
      ملاك سمته من نور ، وكساؤه سندس موشّى بلؤلؤ  يخلب القلوب ويلهب الأبصار .
*    كيف يكون ذلك ؟ الملاك لا يهبط إلى حضيض الدنيا ، ليلوث نفسه بروث الأرض ،            الملاك له قصور من ذهب  وانهار من عسل  وخمر في الجنة ..لا تغريه عفونة أرضكم القاحلة
-         ربما يا سيدي  ولكن هذا ما حدث  .











          
- 5 -
هكذا غدر ملاكي بي / فصعدت  متشبثا بعلو روحي حين هبطت عزيمة جسدي .. وانتشلت بقايا أسمي من براثن جريمة نكراء  . قال الغاوي مشفقا :كأني بك قد خبلت .... أو قد أصابتك لوثة خيال أودت بك إلى التهلكة . قلت : ربما يا صاحبي .. بل لعلّ من حسبته ملاكي  كان خديعتي ، وحماقة خلقي التي لا تغتفر . لكن يظلّ لكل منّا في هذه الفانية خيانة فاجعة ، وأيضا  لكل منّا  خطيئة تتأرجح ألوانها بين الثواب والعقاب . لأن كل هذا النسيج الماكر  من رحلة كوميديا لوحتي السوداء لم يكن في البدء سوى مغامرة  فرشاة  سادرة في نشوة ألوانها ، لا تخلو من براءة التكوين حين صورت بهوس الفنان  تلك المسافة التي تلاشت فيها نسب اللون المقدّس بين ضحك من بكاء، وبكاء من ضحك  . هذا كل شيء .
___________________

*من نصوص كتاب " حياة الظل"