وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الأحد، 22 نوفمبر 2015

الملاك

مفتاح العماري




مفتاح العماري

_______ الملاك

" لم أزل أبكي حتى ضحكت ، ولم أزل أضحك
 حتى صرت لا أضحك ولا أبكي."
- أبو يزيد البسطامي -




- 1 -
مرة أخرى  تستأثر بي سكرة فرشاتي التي كما يبدو قد ثملت من فيض ما صورته من عجائب المخلوقات إلى الحدّ الذي لم يعد فيه ثمة بياض في مكنته أن يرحب بشطحات نزوتها السادرة دونما توقف في رسم الكائنات التي تستدعيها اللحظة  لتبتكر في كل شطحة لونا إضافيا اشتّقت ظلاله من عناصر متباعدة لا رابط يجمع بينها ، هي من خامات منبوذة وأشياء مهملة ، فأختلط نسغها بصوف محروق ومنقوع الشعر وزيوت الحجر وغبار الفجيعة وبخار الأحلام ، وكل شيء متعذّر وشاذ ومجهول قد استدعته مغامرة ألواني التي لا فكاك من اقتفاء جموح شهواتها ، ليصل طغيان خيالها إلى أبعد حدّ في اختراع خلطة من ألوان مستحيلة لم توجد. فكان لزاما عليّ أن استسلم لجرح أصبعي بشفرة حلاقة لكي أضفر بطاس من طراوة دمي وقد  امتزج بعد هنيهة بقليل من دموعي الحارة مع لسان عصفور حطّ به المطاف على رخامة نافذتي ، ثم هيأت المحلول لأن يمتص روح القمر لسبع ليال قمرية متتالية من ليالي الربيع الصافية ، بعدها أضفت إلى الطاس مسحوقا من ريش حمام وندى لم يمسّ ، ليكون جاهزا بعد امتصاصه لثلاثين عنصرا من عناصر الكون ، لرسم الكائن الذي حتى تلك الساعة لا أدري ما هو . لأنه لم يدر في خلدي قط ، بأن أطياف فرشاتي وهي تترنّم بين سحب شفيفة قد بيّتت أمرها لاستدراج ملاك شارد ، أو هكذا تبدّى لي حين أمعنت النظر في ذلك البهاء من إعجاز اللون وهو  يسفر عن طيف نوراني يحلّق مشعشعا في فضاء لوحتي المزهوة بنفسها .



- 2 -

هنا تتطلّب معجزة الفرشاة أن ألجأ رغما عني إلى حاشية النثر الذي لا  مناص البتة من طاعة ما تمليه أوجاع خيبته ، وعلل وجده ، لأشير بأصابع قلقة ، دونما غضاضة أو خجل  أو خوف  إلى مخلوق  لوحتي الذي تمرد على فضاء ورقة  الفبريانو لترمي به  طوالع الخلق في دربي ككائن حي ، وليس كنزوة  عشواء من نزوات اللون السحري التي لا براء غالبا من ترّهات طبيعتها الغامضة ، حين تتبع الضلالة التي تقمّصت هيئة ملاك .
ملاك تراءى لي في غفوة من غفوات حكمة  النّور كأنه قد  هبط فجأة من السماء الثامنة ، كائن قزحيّ من خزف شفيف  يشعّ لطفا ورحمة ودفئا  ، ملاك لا يسعك إلا أن تنحني ذليلا وصاغرا لتقبّل موطئ نعليه ، ملاك أرسلته ربة اللون المقدس لكي يغمرك بعطفه ويروي روحك الظامئة من معين محبته ، يؤنس عزلتك ،و يرمّم خراب رحلتك  ، ملاك  ذو  ملمح آمن ونضر وناعم وخجول وتقيّ وعفيف ووديع وباهر . ملاك وهبته لك آلهة الرسم أخيرا  ، وكأنها تريد أنصافك بعد طواف طويل من التعب والشقاء والتيه في شعاب الجهات الوعرة .  نثر لخليط من عناصر لون وحشيّ  يختطفك من رتابة الخبب ، حين يسفر عن طيف بهيّ يفيض وجدا ويتدفق بهجة وحبورا ، ملاك من خلاصة أعجاز قدّت  من دم  ونسغ قمر هائم في ملكوت الشعر  و بكارة ندى ، وموسيقى من ارتعاشه أوتار معتّقة ، وخفقة ترانيم ناي ولهان .. وعصائر طير عاشق ..  ومشية ليل اثمله  فيض العشق /  ملاك في عينيه أنهار من ودّ وسماء سعيدة برقص نجومها وأعراس سكانها المرحين  ،  ملاك أخّاذ وفاتن ، لا غرابة أن يستأثر بصلاتك وأغانيك وطوافك ، ستعطيه كل ما تملك وما لا تملك ، تهبه حواسك وكنوزك وحريتك وذاكرتك  وجواز سفرك و نطفة تجاربك وهيجان نبيذك .. وكل ما تملكه يمينك من مفاتيح الأبواب والقلوب  والخزائن والأسرار  سيغدو رهنا له ، بما في ذلك جسدك النحيل الذي لا يقوى على مقارعة جمال العواصف التي ترسلها غيوم السخاء ، لتمسي قامتك خفيفة ومستنفرة  تتعثّر مزهوة بتلعثمها وارتباكها كلّما همست شفاه ملاكك ، تنطّ أيها العبد ملبيا دونما تردد كل ما يمليه وحم معشوقك ، من رابع مستحيلات الكون  إلى ثامن معجزات الدنيا التي عليك أن تجلبها من عدم .. لأنك لا تملك في ما تملك  إلا أن تكون خادمه ومريده ومسامره ومهرّجه ، وظلّه الوفيّ الذي يستجيب طائعا وطيّعا لنزوات مزاج ملاكه السكران ، يكفي أن تتفيأ سحابة عطره لتسافر في ملكوت المتع / نوراني هو ملاكك العارف بكل شيء ،الذي يكفي التمتّع بلمس أنامل رأفته الكريمة ،  هو القابض على أسرار الغيب ومخابئ المجهول، السالك نهج معرفة الأفئدة  ، الكاشف جوهر الخفاء وطبائع الكواكب المنظورة والخفية ،  الواهب حليب النجوم ،وليزر الثريا ، النابض بجمهرة الأنوار ، هو مولاك وسيدك الذي تأمل بتوق جامح أن تحلّ عناصره الثلاثين التي صوّرته بها ، لتمتزج بتاريخك وجهاتك ونومك وصخبك وسكينتك ولحافك وأنفاسك  / تتخلل لغتك وحلمك ومديحك و سيرك  ومسراك / هو سترك وسريرتك ، لباسك  وسفرك ، عاصمة فؤادك  ومدار عيشك ومعاشك ،أوردة خيالك ، وعروق متعتك ،  تنام  حالما به ، منتشيا بوعد حنانه الوارف ، وتستيقظ  متضرّعا في توسّل  أن يشملك بخطفة عطف  تتزود  بها على منازلة جند الأيام . كنت تراه ملاكا  ، وهذا دأبك لا ريب كلما سبقتك ترّهات شهوتك ، أجل قد ظننته ملاكا لا غبار عليه ، ملاكا  يتفوّق على جمال سلالته / كأنه المقام الأول والأخير في مسافة اللون ومدارج الهوى ، العبارة التائهة عن صيادي الحكمة ،والسلّم المأمول في  تاريخ الموسيقى / الضفة الآمنة التي تنتظرها جمهرة العشاق / كلمة السر المفقودة  في جزر اللغات / القصيدة المنتظرة  ، والعبارة  المحلوم بها التي ستنقذ الشعر من شتاته ، وتضع حدّا لمتاهة  الجعجعة . خلاصة العطر المستحيلة التي من أعشاب الغيب  وبساتين الخرافة .

- 3 -
تنتظر وتنتظر ، ثم تنتظر مرة أخرى أن يترفّق بك  ملاكك ومخلّصك ومطهّرك ومولاك، ولا سيما أنك ما تفتأ أبدا ،ليلا نهارا رافعا أعمدة المديح بعلوّ خاشع ، إكراما لبلاغة الحلول في حضرته ، والفناء في تجليات قدرته . ولأنه ملاك من سلالة خيالك ، ينصهر في شرايينه شيء من دمك وخلايا السماء ولغة الطير، لا يمكن الظن بأن يكون وباء أو شرا أو حقدا أو ضغينة .. هو حتما من عيار استثنائي ، ملاك  صكّ متنه الشفيف من أبجدية عناصر الرحمة وحدها ، لأن الملاك غير الشيطان ، فهو ضد الشتات ونقيض الفرقة ، وهو بداهة من صنّاع  الخير ، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن الفحشاء والمنكر ، ويجنح تبعا لطبيعته اللونية التي من قمر ودم ودموع ، يجنح للاحسان والسلم والمغفرة والتوادد والحلم  والرحمة والتسامح ، وكل شيء من رهط الطمأنينة والسلام يليق بالملاك ويكون من لدنه... الملاك  دعوتك لحياة مبهجة / ومرشدك إلى البساتين والأنهار ، هو دليل ألفة  وتآزر ، وصلة رحم ، لا  محرض فتنة ومهيّج زوابع بغضاء ...الملاك  يا سيدي لمّام شمل ،لا قاطع أرحام / مؤلف قلوب  ، لا مغلغل نقمة  وبذّار فرقة وحمّال وشاية  ونبّاح نميمة  . فهل يعقل أن يكون ذلك الكائن الذي حسبته في شطحة ما من شطحات الخلق ، ملاكا عفيفا  خرج طازجا من لوحة الرسم  ، هو محض وهم ، وأورام خديعة صورت لك الشيطان ملاكا .  لتكتشف بعد هلاك ثقيل ،لا مردّ لغزوة فحشه بأن ملاكك  أيها الرائي الخائب  محض خبط أعمى من لطخ خيال تتشرد ، ونزوة ألوان غرّر ببراءة خليطها . لهذا حين تجرّد ملاكك من لحافه، وانكشف  بعض ما يخفيه إزاره ، بعد أن ذهبت الشمس بسديم حجبه وقشعت غلالة سرابه ، وهلام  سحب صيفه الماكر ، تبدّى لك في هيئته العارية وسوءته المخفية الخافية  ،وأنه في حقيقة جوهره  لم يكن سوى  داهية من خدم الشيطان الرجيم  عليه لعنة الله ، في الأولى والآخرة ، وتابع خسيس من رهط إبليس الذي هو خازن شرّ ،  وجلاد براءات ،ومشرد أسر ، ومشتّت شمل وقاتل مسرّات .

- 4 -
سأل حارس الظلمة :
*    أين منزلك أيها العابر
-   منزلي لا يحدّ يا سيدي ، انه الشاسع الذي سقفه هفهفة نسيم وبساطه مديح وأبوابه عناوين مخيلة .
*    أليس لديك دار تؤويك ، لتسكن إليها  وتحتمي بها من هذا الزمهرير الغاضب ؟
-         كان لي مقام ، لكني قد هجرته ، بل تحررت من سطوته وعتقت نفسي من نفسي .
*    لا أفهمك ، أو لعلّي لا أريد أن أفهم سوى أنك ضائع .
-         كنت ضائعا حين رضخت لسطوة وجداني ، أما الآن فأنا حرّ لا أين لي ...
*    ولمن تركت ملاذك ؟
-         لغزاة طيبين .الذين رأفة بي، كفروا بي ..
      اقتلعوني عنوة من تربة وطني ، واغتصبوا مملكتي دونما سلاح ،
       سوى بارود محبتهم .

*     ومن يكون هؤلاء الطغاة الذين جعلوك منبوذا وشريدا لا كنف لك ؟
-    الملائكة ياسيدي / الملائكة وحدها من أطلقت براثنها في أوردتي حتى ضقت ذرعا بمتني وغلافي ، فهربت ناشدا الخلاص  ، منقذا ما تبقى من أنفاس حبري لربّما أرسم أرنبا يرقص أو عباد شمس يتمرد على تاريخ عبوديته ، أو قصيدة تفلت من شباك الخليل .....
*    لكن الملاك لا يسطو على عباد الله ، لعلك تهذي ...
-         أقسم يا سدي أنّه ملا ك  لا غبار عليه ......
      ملاك سمته من نور ، وكساؤه سندس موشّى بلؤلؤ  يخلب القلوب ويلهب الأبصار .
*    كيف يكون ذلك ؟ الملاك لا يهبط إلى حضيض الدنيا ، ليلوث نفسه بروث الأرض ،            الملاك له قصور من ذهب  وانهار من عسل  وخمر في الجنة ..لا تغريه عفونة أرضكم القاحلة
-         ربما يا سيدي  ولكن هذا ما حدث  .











          
- 5 -
هكذا غدر ملاكي بي / فصعدت  متشبثا بعلو روحي حين هبطت عزيمة جسدي .. وانتشلت بقايا أسمي من براثن جريمة نكراء  . قال الغاوي مشفقا :كأني بك قد خبلت .... أو قد أصابتك لوثة خيال أودت بك إلى التهلكة . قلت : ربما يا صاحبي .. بل لعلّ من حسبته ملاكي  كان خديعتي ، وحماقة خلقي التي لا تغتفر . لكن يظلّ لكل منّا في هذه الفانية خيانة فاجعة ، وأيضا  لكل منّا  خطيئة تتأرجح ألوانها بين الثواب والعقاب . لأن كل هذا النسيج الماكر  من رحلة كوميديا لوحتي السوداء لم يكن في البدء سوى مغامرة  فرشاة  سادرة في نشوة ألوانها ، لا تخلو من براءة التكوين حين صورت بهوس الفنان  تلك المسافة التي تلاشت فيها نسب اللون المقدّس بين ضحك من بكاء، وبكاء من ضحك  . هذا كل شيء .
___________________

*من نصوص كتاب " حياة الظل"


الشاعرة جنينة السوكني

مفتاح العمّاري

 

                             نسيج الأذن ..


الشاعرة جنينة السوكني 1963-2005
     خلال عشرية التسعينيات من القرن العشرين ظهرت في المشهد الثقافي الليبي العديد من الأصوات الشعرية الشابة ، التي تتفاوت في ما بينها ، من حيث مستويات الكتابة والوعي النصّي . ومن بين هذه الأصوات برز صوت الشاعرة : " جنينة السوكني " بخصائص جمالية " وتشكّلات فنيّة ، تكاد تكون الأكثر صرامة ورسوخا ، قياسا بجيلها – من حيث الامتثال للتراث الشعري العربي ، والوفاء المعلن لتقاليد القصيدة العربية .. بطريقة قلّ نظيرها بين تجارب الأصوات المجايلة لها .
    فلدى جنينة السوكني انشغال ملّحٌ يهجسُ بتأصيل جملته الشعرية . ضمن بنائها الدلالي والإيقاعي ، بشكلانيه تتوخى الاحتفاء بالصوت .. كإيقاع ومرسلة شعرية ( سماعية ) تطمح للاندغام في الأذن أولا . وكأننا إزاء نسيج أذن يكرّس إبرته لحياكة الإنشاء .. بتنغيم مفرط .. لا يخلو من مفاتن الرنيم وغوايات الموسيقى:
" تأخرتِ
    قال الهوى
ولكن مازال في الكأس رشفة
لمن ابتعد عن سرب العاشقين
وانزوى " *

وهكذا تبدو غواية الأذن أكثر تجلّيا في تجربة الشاعرة عبر تنويعات موسيقية تعوّل على تماسك النغم ، وتصعيد موسيقى الخارج ..
بحيث لا تأنس كثيرا لموسيقى الداخل ، أو  تحاول اختزال الجوّاني من خلال تنغيم البراني .. كأنها لا تطمئن للموسيقى الداخلية أو هي تسعى إلى اختزال الداخل عبر تنغيم الخارج .. من دون أن تخفي انجذابها إلى الأصل متجلّيا بصفة خاصة في إيقاعية الخواتم التي تعتمد على الخصائص الخارجية للألفاظ .. كالقافية والرويّ .. حيث تحتلّ الألف المقصورة دورا رئيسا في قيادة جوفه النبر .. وتلبية متطلّبات الهوس الموسيقي ، من خلال الاتكاء على الشكل الحروفي ، مثل " الهوى ، أنزوي ، الجوى ، أنكوى ، استوى ، الحجى ، أنحنى " كما في قصيدة " قال الهوى " .. وعجلي ، الهوى ، الخطى ، أبهى " في قصيدة " رشفة عجلي  / والرؤى ، النّوى ، الردى ، قصيدة : عوالم الرؤى " . وتتجلّى أيضا سمات الشكل في تكريس الجملة الفعلية .. مع استئناس متكرر لفعلي المضارع والأمر . كما أن الموضوعة الشعرية لدى الشاعرة ، عادة ما تقترح تنويعات إضافية فهي عوضا عن تكثيف لحظتها تلجأ إلى استعادة الدلالات عبر توصيفات تنسج المعنى ذاته بخيوط وألوان وزخارف صوتية . ولعلّ هذا الافتتان بالرويّ يمثل هنا إحدى المثالب الفنية التي تُصادر الحالة الشعرية لصالح الإيقاع :


" متاهاتٌ .. أنفاق تسرقني
وتعب بين     الهدب والحجر ،
وعطر أزرق ،
واصطلاء العشق الذي اعشق .
أسرق !؟ أنا حاملة مفاتيح الكون !
أي احتمال أرى
لتذبذب الموازين   واهتزاز المّتسق . "



   هذه المتواليات الصوتية تُفقدُ النصَّ سلاسته وتلقائية جريانه عبر آلية التداعي كتدفّق حرّ للعبارة وهندسة عمرانها الدلالي وبنائها الإيقاعي الذي يأتي من خارجها . مما يُدرج آلية الكتابة الشعرية هُنا داخل نغمية تؤثث الصوت على أنقاض الحالة الشعرية التي تصادر لكي يبقى الإيقاع وحده مدفوعاً بحمّى الرقص والخبب .. وقرقعة الحدّادين ..
كأنه إيقاع طبول الجسد . لا إيقاع وترا لروح ..
إيقاع الخارج لا إيقاع الداخل . هذه السمة تشكّل ابرز التمظهرات في مقترحات قصائد الشاعرة : جنينة السوكني .. حين تلجأ إلى إيقاع نظام ، لا إيقاع فوضى .. إيقاع أرقام ، وعقارب وقت منضبط ودقيق ، لا إيقاع مطر وحفيف أسئلة قلقة .. إيقاع طلل وخببٍ ، لا سفر في الحلم و فضاءات مدن .. إيقاع رمل وصليل سيوف ، لا إيقاع دخان وهدير مدافع وعربات . إذن هو إيقاع تذكّر ، لا إيقاع لحظة ماثلة بتوتّرها .
غير أننا - وعلى الرغم من ذلك كلّه لا نريد هنا أن نغفل توق القصيدة إلى تأصيل نفسها ،وتحقّقها ، الذي يمتعه دائما الاكتفاء بارتياحات سحر الصوت .. مما يعيقها عن ابتكار الصور وتنويع إشاراتها . ربما لأن الأذن هنا ( تعشق قبل العين ) .. بحيث يظلّ الاستئناس بشحنة المفردة الصوتية والاستسلام لنبرة رنيمها .. كحالة إيهامية للوتر المتسلّط  الذي يستدرج القصيدة إلى تراكيب لغوية فقيرة ومرتبكة .. تخذلها سلاسة الشعر وليونة عبارته . ونشير هُنا إلى هذا المقطع الذي اخترناه من إحدى قصائد الشاعرة
" قناع على أقنعة رحيل
 يتلوهُ ألمٌ على حلم عنه لا أتوب .
وأيوب ، سُقيتُ من كفِّيه الصبر ..

     والصبرُ ، حدائق الصّبار لحروب

لا تملّوا أغنيتي ،
إن بدت لكم ..
حسناء تزينها النّدوب ."
   وإزاء هذا المقطع ، لا نشعر بأيّة انجذابات شعرية . حتى أن الحالة الشعرية المُتوخّى تمريرها قد بدتْ مترجرجة ومفكّكة بين دلالات الأقنعة ، والرحيل والحلم والصبر والأغنية التي هي حسناء تزينها الندوب حسب تعبير الشاعرة . وذلك نتيجة لغياب تكثيف الحالة الشعرية . مما جعل القصيدة تكتفي فقط بتواترات لفظية عجزت عباراتها عن أن تكون محمولة بحرارة اللحظة التي بدت غائمة ومشتتة .
     وقياسا بهذا الشكل المنتخب الذي ينسحب على معظم قصائد الشاعرة ، وتحديدا ( الحروفي ) كتقطيع الأسطر وغيرها من آليات الكتابة الشعرية المعتمدة في الشعر الحر وقصيدة النثر ، إلا انه لم يخف امتثال الشاعرة لآلية ( البيت الشعري ) وفق النمط الكلاسيكي ، وان كان غير ملزم بنظام الصدر والعجز ، ليقف بخجل عند حدود المغامرة الأولى لشعراء المهجر وجماعة ابولّو .. ومن بعدهم مدرسة الشعر الحرّ . فثمة انحياز واضح للذاكرة المتحقّقة في الشكل كرهان لصالح الأصل . وكأن هذه القرابة تشي باحترازاتها عندما تلجأ لرهان الصوت خشية الوقوع في مهبّ التجريب ومغامرة قصيدة النثر . الأمر الذي يجعلها تتعاطف وجدانياً مع خصوبة الذاكرة ، كما تراها هي ، كفضاء يتلاشى في متاهة الماضي ، فلا توجد في نصوصها تلك الإشارات التي تومئ تحديدا إلى فضاء الغرف والبيوت والشوارع والحدائق .
أي أن نثر موسيقى المدينة يختفي ويتلاشى لصالح هيمنة إيقاع الصحراء .. أو لصالح فضاء متناقض ، وهجين يستوي فيه الأزيز بالصهيل ، والحفيف بصعقة المدن ، حيث للخيمة مفاتيح خفيّة تُخْضِعُ المنزلَ المديني إلى مشيئة الأوتاد المهيأة للرحيل المستمر . لكن يمكن النظر إلى هذا الوفاء المستأنس بتراثه باعتباره كحالة ، رغم وضوحها الإيقاعي ، يُتوقع منها في الوقت ذاته أن تبحث لها عن سبل لانفتاح القصيدة  على أجناس محتملة وكتابة ممكنة .. كسمة حداثية في الكتابة الشعرية المعاصرة ، التي تطمح دائما إلى الخصوبة والتشابك مع نسيج عالمها ونثره بالقدر الذي يحقق تناغما يلامس إيقاع اللحظة الحاضرة ، ضمن الطاقة الشعرية المتوخاة في التشكيل والسرد والسينما . غير أن الشاعرة نجدها دائما تراهن على اقتراب محمول بغواية أجناس فنية عتيقة كالمقامة – على سبيل المثال - ضمن الحدود التي يرسمها السجع ، وهذه السمة وان كانت تحدّد مستوى ما من مستويات الكتابة الشعرية لا يعني أنها تقلل من حظوظ انتساب الشاعرة إلى ديوان الشعر العربي ، ولكن تجعل من قصيدتها تبدو متطرّفة عن تطلّعات جيلها الشعري الذي يجنح بهوس إلى مغامرة التجريب .
وبالتالي ترفع تجربة جنينة السوكني  سؤالاً جريئا بصدد هذه المفارقة التي تجعل التعايش ممكنا بين الامتثال والتمرد . وهي بالمقابل تشي بمأزق الحداثة القائمة والمحتملة ، والتي لم تحدّد بعد أنساقها معرفياً على المستويين الإبداعي والنظري . ومن ثم فأن شرعة النصّ الشعري ، كما  تبدو في لحظتها الراهنة ليست مرتهنة لنسق فني بعينه لكي تكتسب أحقية وجودها واستمراريتا . ويكفي أن ندلل هُنا بأن العديد من التجارب الكلاسيكية مازالت كما يبدو تحتفظ بمواقع شديدة الصرامة والرسوخ ،  و يحتفي بها في منابر الشعر ومهرجاناته .
     وهذه إشارة إلى مفارقة شديدة الوضوح ، تؤكد أن الذائقة الشعرية العربية المعاصرة لا يمكن الوثوق بحساسيتها العصرية . لان             
     هذا التعايش بين الأشكال الكلاسيكية والحديثة يشي بالمقابل بتداخل الأزمنة وتشابك الأمكنة ، ويشي أيضا بإيقاع نشاز ، يتعذّر معه تحريك الشعر وعودة القصيدة إلى الشفاه .
______________________
* من المجموعة الشعرية ( مسك الحكاية ) .منشورات مجلة المؤتمر 2005 طرابلس .



الجمعة، 20 نوفمبر 2015

الشيطانة النائمة : قصائد زمان ( 2 )

مفتاح العمّاري 
        
            الشيطانة  النائمة           

كما لو أ نني أ هذي
رأيتك أيّتُها الشاردة وأنت تهتفين نحوي
توقف أيها الجندي .
**
كما لو أ نني أ حلم
أنزع معطفي العسكري
و أجلس قريبا من شواطئك القاسية
أفكر فيك بحواس مرتبكة
وحزن شفيف .
أنت يا صديقتي الماكرة
يا شيطانة الشعر الذي يُولد
لكي يرضعكِ
بأ ي مستقبل سأفكر فيك  ؟
فا لذي يخطفك يكون شبيها لرغبتك في اللعب
مقطوعا من شجرة منقرضة
حتى لا يعاوده الحنين إلى أمه
مختلفا عن أ قرانه
يدخلك متأبطا هدوءه الحالم
شاعرا
يقود الخيال من أذنيه .
هذا  الخجول الفاحش
 قريني الذي
خانني
علمني كيف أ هوى
وكيف أ عبر واثقا باتجاهك
في وداعة الأسرى  .
لأكون أول وافد يضع حدا لهيمنة العطش
أ هبط إلى شوارعك الحارة
الخانقة أوهام عابريها
في ظهيرة طاغية جدا ، والهواء يترنح
بأ سنان وسخة وفم كريه
طاغية تراوح كسلحفاة مقلوبة على قفاها .
**
الذي مَرَّ ليس مثلي .
له رغبة حصان عجوز
رغبة نافذة معطلة .
ليس مثلي
الشاعر الذي رافق العسكريين
وهم يقفزون من الشقوق
وأرفف الغبار .
مثلي من يخطفك بعيداً
حيث لا أ حد يطرق الباب سوانا ، أيّتُها
الأمّارة   بكلّ الغوايات .
الغامضةُ لأنها تضحك دائما
وتعدّ القهوة للأصدقاء
المستبدّةُ :  تهبُ المستقبلَ عصيرَ أنوثتها
أحبُّها يا ربي
هذه الشيطانة الجميلة النائمة في سريري
بشعرها الجامح
وقامتها السادرة في المعصية .
بشعرها الذي ربته مشاغبا
علمته الرماية وركوب الخيل .
الحنونة
حاضنة القصائد والشهوات .
لم تولد بعد  /   حين ذهبت   الى الحرب
لم توجد الحريةُ  الفاتنةُ
لكي أقبّلها أمَام المسجد
في نهار  كبير وزاحم .
أغازلها داخل السوقِ  كأننا وحدنا .
لم أدخل المدينةَ بعدُ
كبدويٍّ خاسر .
فترّفقي .
ما من ذَكَرٍ ليس مشروطا بكِ .
كلّهمُ  يشتهونكِ  مقشرة فوق المائدة
مفروكة بالعطر
مبللة بمزيد من صراخك الفتيّ .
لكن ما مِن أحدٍ يَقْوَى على هزيمتكِ ،
لأنكِ عصارة كرومٍ متوحّشة  .
أيّتُها البدويةُ المدللة
الطفلةُ المسنّةً المأخوذة باللعب .
المرأةُ الضالةُ
الابنةُ الوحيدةُ في سلالةِ الذكور .
العنيدة : فقدت نصفَ سكّانها لتكون هي /
وتبقى .
يا معركتي المؤجلة
الآمرة بالتوقف  .

- استعدّ أيها الجندي
أنا خندقكَ الأخير  .
فتزوّد لحربكَ المؤبّدة
بنارٍ  لا تأفل
وهواء لا يحترق .
أنتِ المنزوعة سلفاً لأجلي  /
المقتلعة بسطوةِ الريح
لكي أكون إلى جواركِ أبدا
أُهرّبكِ خلسةً من حلم إلى آ خر
يا وشمي التائه بين الدلالات
يا لغتي التي تجدِّد قاطنيها .
ويا أمي الصغيرة ....
أنا المغرورُ بكِ  /
العابرُ  مكتفياً بنفسه  / لأنّك معي  .
لأنكِ امرأة  تُشبهُ نفسَها /
لمْ أرها تخاف الغد أو  تشتكيه   .
أسمُها يكفيها لإثارة الفتنة .
عنقُها رحيلٌ لا يُفسّر.
عنقُها سعيدٌ لأنه عنقها .
وعيناها يرتبكُ فيهما المعنى.
وفمُها يبشِّر المؤمنين بالجنة
حيث يقفُ العابدُ خاشعاً
:  شكرا يا ربي على اختراع النبيذ والفاكهة .

يداها  ....
أعترف أني حين لمستُ إحدى يديها
ارتجفتْ مثل بلادٍ خائفةٍ من شغبِ
عاشقيها ......

 : توقف أيُّها الجندي
 أن تذهب بعيداً
يغدو الضحك مقلوبا
ويصير صدري بل مأوى .

قلت :
لمثلك  يتطوع الخيال فدائيا /
يكرس حواسه لمشيئتك وحدها
ولأ جلك ترتكب المؤامرات
ويغدو كل شيء ممكنا ؛
-  المستقبل بثياب نظيفة
    وغرف مرتبة .
   المقاهي تسترد أمسياتها الحميمة ،
   والكلام براءته العابرة  .

**

_  توقف أيُّها الجنديّ
لست مدينة مستباحة
لكي تحتلني
ثم تنسحب حين تشاء .

قلت :
أ حبك أيتها الكافرة 
سأهبك ما تبقى من شعبي
ليزرع حواسك بالقبلات  .
**

_  أ حبُّها يا ربي
لها إذا أرادت
رعايا هذا الجسد .
عبيد طيعون
يرتّبون لها العالم  كما تشاء ..
فساعدني على بلواي  /
أنا الفتى الخائف
الشاب العربيد
العابر الضروري
الضيف خالق الوقت والمسرات
الزوج الآبق الوفي
والولد الشقي
حامل الألعاب والمطر ..
ساعدني
قبل أ ن أخسر مفاتيح بيتي .
**

:   كان بيتي  قريبا من بحر لا أراه
شرفته تطل على محطة الحافلات ،
وباعة الحصر والأغطية  .

    كان بيتي  بعيداً .

_   ساعدني
لكي أ قول :
أرجو المعذرة
أيتها البنت العاقة
يا فتنة الشعراء
يا قبلة التجار والقراصنة
لأني الليلة حلمت كثيرا
فامتزجت ألوانك بي  ..
كأن أراك
بين  عيني وبيني
ولا أ مشي الا  بك .

وأني كبرت كثيرا
وشطحت كثيرا
فصنعتُ لكِ ِ نهراً بحجم الحصير   /
وشيدتُ وطناً فوق المخدة  .
_____
طرابلس الغرب . 12ديسمبر1991

 من قصائد المجموعة الشعرية : رجل بأسره يمشي وحيدا