وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 12 نوفمبر 2015

مجرد حلم وحكايات أخرى *

مفتاح العمّاري


غواية السرد بين الكتابة والكلام










   ثمة افتتان شديد الغواية ما انفكت    الحكاية على مدار التاريخ تحظى به ، ولا سيما عندما تتخذ من الحيوانات وسائط سرد  تجعلنا أكثر انجذابا ودهشة وإصغاء ..هذا الإغراب الفني تتكفّل بتصعيده عدة وسائط ، بينها الوسيط السردي ( أنسنة الحيوان )  الوسيط المتلقي داخل الحكاية نفسها ،  كسلطة خفية ( دبشليم ملك الهند ) :  كليلة ودمنة ، ( الملك  شهريار ) ألف ليلة وليلة ، الوسيط القاصر : المخبول / الطفل . 


          تأسرنا الحكاية باعتبارها  قد ارتبطت منذ نشأتها بالشفوي ، واكتسبت تشكّلات سمعية ووظائف صوتية ذات نبر إيقاعي وهبها سحرا مضاعفا ..  وهو ما لم يتوفر عادة في السرد المكتوب الذي يتوخي التأمل في سحر المعنى لا سحر الصوت  . أي أن فعل الكتابة ، كأصالة أعجاز جوهره اللغة المكتوبة لا المنطوقة ، يأخذ على عاتقه –بالضرورة - إعادة إنتاج الشفوي في قالب سردي ، ليتحقّق كمتطلب جمالي  بتحقق عملية التأويل  : تأويل الحكاية ضمن شرطها الخاص بها ، كذلك تأويل عالمها الممكن والمتخيّل ، داخل فضائها ( الزمكاني واللغوي ) ، حيث يتعين على السرد أن يكتسب تلك الخصائص الأسلوبية التي تجعله حياً ونابضاً ، يستدرج  تعدّد القراءة ، تعدّد الصوت ، وتباين زاوية النظر ، وتنوّع الرؤى ، وهنا تستمد المتعة من تحقق خاصية  التجاور بين الشفوي والمكتوب . كذلك من التصادم بين التناص والتأويل /القراءة وإعادة إنتاج المقروء ، وهي مسألة رغم بصيرتها ، غالبا ما تدخل في مناطق مظلمة،  يتعذّر أحيانا حتى  على  القارئ الدربة  رؤية تفاصيلها والدنوّ من  مضانها وكشف خباياها .. وذلك خلافا لأنساق الحكاية في قماشتها الشفوية التي  تأنس قدرا من الوضوح والتبسيط  يصل إلى حدّ السذاجة . فللحكاية منطقها الخاص بها ، و هنا ،نتوقف لإبداء بضع ملاحظات ، حول إسهام الكاتب ( سعيد العريبي ) في باكورة إنتاجه القصصي الموسوم ب ( مجرد حلم وحكايات أخرى  ) الصادر ضمن منشورات مجلة المؤتمر (صيف 2006).. وقد تضمن إضافة إلى القصص ، أو الحكايات تعقيبات وملاحظات شارك فيها كل من : محمد البشير / ليانة أبو صالح / عبد الرسول العريبي / نعيمة محمد , وتفيد إشارة المؤلف بأنه سبق نشر  قصص هذه المجموعة ضمن ( موقع القصة العربية ) على الانترنت .. كذلك ثمة عبارة توضيحية  تسبق العنوان وردت في الغلاف الداخلي ، هي ( كتابة معاصرة لقصص الحيوان ) . ومن معاينة عتبات السرد ، نلاحظ أن المؤلف لا يحفل  بتلك المفاتيح التقليدية التي تفتتح بها الحكاية في تراثنا العربي ، كما هو الحال في ألف ليلة وليلة ، أو كليلة ودمنة .   بل نراه يستأنس عتباته بعبارات مثل ( لم يعد سيد الدجاج سيدا للدجاج / ذات يوم من أيام الله المشرقة / تسلل اللصوص تحت جنح الظلام / في يوم من أيام الربيع المشمسة / ذات ليلة موغلة في البعد / لم يطلب القرد الطموح جدا من أحد .. الخ ) مقتفيا  الأثر باحتفاء خجول ، على هدي خطى النيهوم ،  لتلتمس حكاياته  نهجها بوفاء معلن ،  حيث يضعنا مباشرة  ومنذ البداية إزاء  حكاية ( المؤذن ) ، حكاية الديك الذي " تخلى بكامل إرادته عن مزاولة مهنته الشريفة ، وقرر الانسحاب إلى الحظيرة  "  وهي  على الرغم من قصرها نجدها تختتم   بحفلة بكاء مع  اللجوء إلى وصفة  النوم . وخلاصة الحدوثة ، مفادها أن ديكا قد تخلى عن دوره في إيقاظ الناس ، هذا كل شيء . يهديها الكاتب إلى شهداء انتفاضة الأقصى . وكأن  الإهداء عتبة دخول للمعنى ، وسراج بوابة  يضيء عتمة النص ،  أقحم عمد ا – مع سبق الإصرار والترصد -  ليكون جزءا لا يتجزأ  من نسيج الحكاية ، ويضعنا من ثم  وجها لوجه حيال مفارقة الأمة الغارقة في النوم ، بينما أطفالها يقاتلون ،  ولعل المؤلف – قد استأنس -  تثبيت  مثل هذه الإشارات تعمّدا ، كي لا يتوه المتلقي عن  وظيفة حكايته ، تبعا لحمولتها الوعظية . أوكأنه  قد حرص أن يفكّر هو عوضا عن حيواناته ، التي بدت تتحرك وفق مشيئته ،  من دون أن  يعتق مخيلتها لكي تواجه مصيرها الغامض ، أو أن المسألة برمتها لا تعدو عن رسم بعض المشهديات الساخرة ، بحيث تظل الحيوانات مجرد خلفية قدّت من كائنات كرتونية ، لا مجرد حلم ، الأفق المنتظر الذي وسم به غلاف المجموعة  . الحكاية الثانية ( نهاية ملك ) تقول " ذات يوم من أيام الله المشرقة  .. وبينما كان ملك الغابة  يستطلع الأرجاء من عل ويدير شؤون رعيته  زلت قدمه  فتدحرج على حين غرة  باتجاه القاع .. تشبث قي بداية الأمر بحجر  ناتئ ... أمسك بكل قوته طالبا للنجدة .. نظر إلى قرار الوادي السحيق  ، فأدرك أنه ميت لا محالة ، ما لم يتكّرم أحد أفراد رعيته ويمدّ له يده  أو حتى ذيله لمساعدته وانتشاله من وهدة السقوط المريع ". غير أن استغاثة الملك لم تجد أي صدى لدى الفيل والثور اللذان مرا مرور الكرام من دون أدنى التفاتة للملك الذي يشرف على الهلاك  . تضيف الحكاية  ،  " ورأى الملك الحمار يمشي مزهوا متبخترا .. فاستبشر  خيرا  .. لكن الحمار  الذي أدرك أنه الآن أضعف من أرنب برية  .. وأنه بعد قليل هالك لا محالة  وقف ثمة ينظر إليه باحتقار وتشف  "  وهكذا لم يفوت الحمار هذه السانحة  التي انتظرها طويلا  ، " وهبّ كالمسعور إليه .. لا ليمد  له ذيله لمساعدته .. بل ليعالجه برفسة  قوية " . وتُقفل الحكاية بهذا التعليق ، كلحظة تنوير  " وعاش الحمار بعدها مرفوع الذيل والرأس معا " .  في قصة " مقالب أبي الحصين " وعلى الرغم من الإشارة الصريحة إلى توظيف  إحدى حكايات ( كليلة ودمنة ) والتي جاءت في سياق بنائية  حوار مسرحي ، يشي ببعض هموم كائنات الغابة ، خلفية الحكاية . أي انه لم يحفل بإعادة إنتاج الحكاية ضمن نسق تأويلي ، يذوّب دلالاته داخل نسيج السرد ، مسهما في نمو الحدث وتطور الحكاية ، فقط تكتفي مسألة التوظيف هنا بالتنويع على سلالة قديمة من دون أن تفلح في إعادة خلقها .  وان يكن قد أراد الكاتب  من جهة أخرى اللجوء إلى  الصدف النادرة وتلك الجغرافيا التي تتسع لإيواء كائناته المسلوبة الإرادة .. بحيث لا نستغرب ذلك الصراع الذي يدور بين النوارس والذئاب ، من دون أن تتوفر تلك الدوافع والمحرضات  التي في مكنتها أن تجعل طائر النورس ( النورس المتمرد )  يتخلّى عن طبيعته لكي ينتهي على تلك الطريقة المأساوية ، وقد اختار حتفه ببسالة عجيبة .  لكن وعلى الرغم من ذلك قد توفر لدى الكاتب حيز لا بأس به من الحنكة والذكاء ، في أن يجعل بعض الحكايات تسير على نحو مؤثر ، في تصعيد جملة من المفارقات الطريفة رغم أحداثها المأساوية ووقائعها الدامية ، لحظة أن يتبوأ القرد سدّة الحكم ( مجرد حلم )  ، أو يتفوق الحمار على حيل الأسد والذئب ( رحلة صيد ) . وكل ذلك توخيا لخدمة الموضوعة ضمن حيزها الشفوي لا الكتابي . فلا تكشف لغة السرد  هنا عن قدراتها وإمكاناتها الفنية ، ولا تلعب أي دور سوى أنها لغة خبرية موصلة ، بحيث تقتصر وظيفتها فقط على توصيل الموضوعة الوعظية بأمانة متناهية . ومن ثم ندرج الحيوان تحايلا كوسيط سردي ، وتقترح أيضا وساطة  المتلقي عبر إيقاظ ذاكرته وتحفيز مخيلته ضمن حالة إيقاظ الحكاية المتوارثة ، ساعية إلى استنفار خزين التلقي لأن الحكاية تحيل دائما إلى رحمها  ، والتناص مع نفسها ، وفيّة لرموزها وإشاراتها وقوالبها الثابتة  داخل ثنائية الخير والشر .هذه المستويات جميعا  تتستّر بفكاهة بالغة الإغواء ، وبلذاذة  مضمرة ومعلنة في آن ، لأن الكاتب بقدر ما يتوخى الوضوح والتبسيط والإبانة ، هو في الوقت عينه يخفي قدرا من العمى والغموض ، مما يقتضي أعمال البصيرة . كذلك تنطوي الحكايات عند سعيد العريبي على درجة عالية من السخرية ، تصل أحيانا إلى حد التبسيط ، وهي كما سبقت الإشارة تعمل تحديدا على تكريس آلية التهكم  لتصعيد الغائي وظيفيا ، منشغلة بخدمة موضوعها الوعظي أو الإرشادي ، على حساب الفني : خدمة اللغة  ، التي لم تفلح تلقائيتها وانسيابيتها السلسة والناعمة في بلورة دلالاتها فنيا ، وظلت ( غير معتنى بها ) ، قريبة الصلة بلغة الصحافة السيّارة ، التي تنحاز غالبا إلى معالجة المضامين لا الأشكال ، أي أنها تعوّل – دون مواربة -   على تقديم وظائف اجتماعية وسياسية وأخلاقية ، مهملة التوقف عند جمالية الكتابة  كعملية إبداعية تقتضي بداهة إيقاظ خفايا اللغة السردية وتوليف تراكيبها بصورة فنية تطمح إلى الخلق والإضافة . ولعل مثل هذه المثالب  ناتجة عن ميل المؤلف نحو التبسيط .. وهنا نتفق مع وجهة نظر أوردها " محمد البشير " في معرض قراءته النقدية ، يؤكد فيها أن " أسلوب العريبي يتميز بالسهولة المفرطة  ، فلا استخدام لمنمّق الكلام  ، ولا وجود للبديع اللفظي ، وهذا ما يعاب على سالك الأدب ، فالاعتناء بالبناء اللغوي  له مكانته في استحسان القول "  الأمر الذي  جعل من  نسيجية حكايات ( مجرد حلم ) تفتقد إلى حلم الإبداع ، وتمسي  أكثر تشابكا مع الشفوي ، بغض النظر عن التماثل السطحي ، نشير هنا إلى بناء وتنضيد بعض  حكايات المجموعة انطلاقا من مقولة مأثورة أو عبارة حكمية ، حيث استمرأ  العريبي لعبة التنويع على الدلالة والعبرة المستقاة من المثل أو الحكمة ، محاولا تفصيل بعض الوقائع المقترحة كوسيلة ايضاح تتخذ من المأثور ، وعبارته الحكمية  محورا ارتكازيا تنبني عليه الوقائع ، و لحظة تنوير تختتم بها الحكاية ، مثل عبارة ( الدنيا مع الواقف ، لو كان حمار ) ، حكاية " رحلة صيد " ،  وعبارة ( هنا يرقد الضمير ) في حكاية " الذئب  " . كذلك  نلمّح إلى مستوى التناص مع إسهامات النيهوم ( القرود/  الحيوانات ،  الحيوانات ) وهو  تناص يمس السطح لا الجوهر ، إذ تتوقف غوايته عند حدود التأثيث اللفظي واللعب أحيانا على الفضاء ، كما هو الحال في قصة النورس المتمرد ، الذي تتجلّى فيه تأثيرات النيهوم بوضوح معلن . وعلى الرغم مما يعتور هذه المجموعة من مثالب فنية لمّحنا  بشكل عابر إلى بعضها ، تظل تحتفظ بتوقها في التخلص من التباس الشكل بين القص والحكي ، أي بين الكتابة والكلام ، لتصل إلى تلك الطاقة الوجدانية التي تهب الخلق الأدبي طبيعته  الحارة ، من خلال القبض على اللغة الحية التي تبثّ الروح في الكائن الذي من كلمات تتنفس . هكذا يكون الإبداع ، وهكذا تتحقق الإضافة .. إضافة جديدة  للحياة ، و للغة التي تستمد بقائها من بقاء الكتابة لا الكلام .   


ايمان مرسال في المشي اكثر وقت ممكن

مفتاح العمّاري


     كنت قد قرأت لإيمان مرسال  مجموعتها الشعرية   (حتى أتخلّى عن فكرة البيوت ) والتي تكتنز بطزاجة تجعلها أكثر نضارة وأبلغ أثرا  بفضل تلك الحمولة الحارة من اللقطات البصرية الحيّة   ، حيث كل شيء يمثل مترعا بسخونة اللحظة عبر تلك العفوية في السرد الشعري  كنسق عام في نظام الجملة الشعرية في هذا المتن ، فضلا عن التقاط الهامشي والمهمل ، ولملمة الأشياء داخل سلة من البداهات . ففي وقت أمسى فيه الشعر يفقد تفاعله ويخسر قراءه وعلاقاته  النسيجية مع محيطه  ، تنجح إيمان مرسال في إيقاظ روح لقصيدة ، وإعادتها للحياة ، بتلقائية بسيطة خالية من أي تكلّف أو ادّعاء .
  لكن في تجربة المشي سيختلف الأمر . لعل ما يحفز إيمان مرسال ، على " المشي أكثر وقت ممكن  " بأن كل شيء يمكنه أن يكون شعرا . لا بأس ، فللجاحظ قبل زمن بعيد ، ما يشير إلى هكذا مفهوم ، على اعتبار أن : المعاني مطروحة على الطريق ، أو في الطريق . وعلى الرغم من أن الشعر لا يكتفي بكونه محض ضرب من معنى يمكن ترجمته عبر كلمات وصور  ، كما هو الحال في هذا النسق السردي الاعترافي  الذي استمرأته الشاعرة هنا ، بل هو أحيانا يتعذر فهمه ليفسح إمكانية التقاطه بواسطة الحواس ، ليس للخروج بمعنى أو نحوه  ، بل يؤمل منه   - أي السرد في قصيدة النثر  –  أن يشي بمعرفة أخرى ، خلافا لوظيفته في القصة أو الرواية . كذلك خلافا لتلك الخيبة التي طفحت بها المقترحات  في هذا الدفتر  ، والتي جاءت في مجملها على شاكلة قصيدة  " أيميل من أسامة الدناصوري "  ، لكأن هذا الصنف من اللعب يتبرأ من أية مسؤولية إزاء الكتابة ، وأن العبث واللهو والتهكم  ، وازدراء الرصانة ، وهشاشة اللغة ، وتحقير الإيقاع ، هو جزء من مفاهيم قصيدة النثر ، والتي باتت يوما بعد يوم تشيد فراغها  ، وتبتكر المزيد من أصناف العزلة .
   قد يعزى ذلك إلى شبهة في مسار عولمة قصيدة النثر ، كنوع جديد من الكتابة الشعرية ، وصنف عابر للقارات ، وناسف للهويات  . لكن  وعلى الرغم من انحيازنا لهذا الشكل من أشكال الكتابة ، علينا في الوقت نفسه أن نستدرك ما يمكن استدراكه من قيم لصالح القصيدة ، والتي يقتضي الوعي بجدواها أن نتشبث بها  كبرهان على وجود  ما هو آدمي وحقيقي وأصيل وسط هذا النمو المخيف للتفسّخ . 
__ 
    أدرجت هذه الملاحظات ضمن تعليقاتي في موقع رفّي باسم ( عبد السلام  alammary19) . وهو وسم صفحتي في الموقع .


الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

امرأة كالأساطير إلى : لطيفة صالح

مفتاح العماري



اللوحة للفنانة غادة المحمدي







إلى : لطيفة صالح


لأنّك في النساء قليلة
صرت أريد القليل
فأنت الكل بمفردها
امرأة كالأساطير
وليل من سلالة العنب  .
حلم كاليقين
وكلام من عائلة القلب  .
وصرت ضائعا فيك بأمري
: الأذن توسوس بك
والنظرة إليك
تسمّي نفسها ملكة .
**
لأنّي أحبّ
كل شيء لا يليق  بي
أشكّ في نسبه ،
فأنا هنا
أنهض هاتكا ما لا يعرف .
وبوجهي المبدّد
أجرّب الموت على صدرك
وأهمس :
لمّيني من تعبي .
شعبي كله يصرخ أنا عطشان
وأنت مبتهجة تطلقين
سراح الينابيع
فأخرج إليك
مثل أمير مدلل
مثل فحل مدجج بالشهوات
وكبيرا مثل نبيّ
" دثريني  ،
أنا بردان  "
يطاردني لصوص مرسلون من السماء
وطابور من المشعوذين
والشطار
 والخونة .
**
أنا  هنا .
بنفسي أصالح هذا الهلاك ،
وأعلّم قاتلي
أنا هنا :
كل شيء لا يليق بي
أشكّ في نسبه .

_____________
من قصائد " ديك الجن الطرابلسي"






على نهج الطاو

                                                                                                                     مفتاح العمّاري






    " .. وقال لي القرب الذي تعرفه مسافة  ، والبعد الذي تعرفه مسافة ،
 وأنا القريب البعيد بلا مسافة . " 
                                      - النفّري -



نهج الطاو



      أن تكون واضحا ، تلك مسافة  أكثر شفافية وسطوعا وتبسطا .
الوضوح صفة  لا تحتمل عندما يدخل العالم إلى مناطق مظلمة .
تبدأ الحياة بمسافة ما ،  بإشارة ، بكلمة ..  بضوء ..  بشهقة ..  بحركة ..  بصيحة .. بابتسامة .. بعض هذه المسافات تشاطر الموت .
الحوار أيضا تلزمه مسافة  ما لكي يستيقظ من سباته..
يمكن أن يكون مزاحا أو لعبا .. لكن الكلمات ما تلبث أن تشي
بخبيئها .
   أن تجد مسافتك فجأة فائضة عن حاجة المحيط .. فأنت ولأمر ما .. قد تكون أكثر بعدا من أن ترى .. وأبلغ دقة من أن ترصدك الحواس .. وأقوى أثرا من أن تختزلك لغة العابرين . لأن جوهر الأشياء يكمن في خبيئها الذي لا يمس .. لهذا ينبغي أن تكون سعيدا كلما وجدت بعدك عن العالم يزداد قربا .. وقربك من العالم لا تحده لغة أو يحيطه زمن .
  الحب مسافة / المرح مسافة .. الذي لا  يتألم لا يدرك سعادة  الحب / لهذا كان القبح ضرورة لكي يكون الجمال جمالا .. ولهذا أيضا كان الموت نصف الحقيقة .
____ 
طرابلس . 20 أغسطس 2007


الاثنين، 9 نوفمبر 2015

رجل بأسره يمشي وحيدا . ترجمة غازي القبلاوي





A man walking entirely alone



By: Moftah Al Ammari

T.:  Ghazi Gheblawi

Lonely enough with what I am
That which is my body in the simple clothes
Running as if the lightenings are my shoes
Howling alone:
Oh, she-wolf 
Take me from my mouth

Away from your bosom
Everything becomes in extreme rottenness and grandeur 
The sparrows wear their mystic fear
And the terraces raving with extincted suns

Alone
Waiting every night
With fearful ears
For my house to fall down 

Take me from my mouth
Oh, she-wolf 

I am tired from my wife
When her hands tide me with confident imagination
Wake up my dear, 
The morning has emerged
I am tired from my children
While they grow
Without toys or sweets
From the conspiracy
Of salty and non-running water
In our shabby districts

I am tired
From the Bedouins storming into the streets
With jeans trousers

Everything is in extreme rottenness and grandeur
Tranquility is not a roof
And women are not the same

Lonely and enough
Every dream that doesn’t lead to me is false
And every celebration of my death is nonsense

The ink is my kingdom
There is always a tiding for me to name

I paint a city
With children that never thirst
And draw another woman
And I might play with the fire that isn’t beside me

Then I howl alone:
Oh, she-wolf
Take me from my mouth

Since thirty summers 
The evenings come barefooted
There was a body and hands for me here
And my window was beside me:

A moon spilling its shape on my mother

And I don’t understand
Why the love was so secret to the limit 
That I became not understanding.

O, Mother, guide me to myself 

She said: the wind is my wet nurse 
So slow down
There is no milk in the cup to drink

I said: its fine
I will be satisfied with my lonely imagination

And let everything be in extreme rottenness and grandeur

Because we’re very quite
Always riding the bus
Crossing to the next day
Where the faces look bewildered to my shadow
And think:

A man walking entirely alone
Howling
Oh, she-wolf 
Take from my mouth
Tripoli- 1991

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

كتاب

مفتاح العمّاري


كتاب

       لم يكن ذلك الكتاب سوى حزمة أوراق تعاني سحنته من غزو النمش والبثور والتجاعيد  ، لا غلاف له يستر عريه ويدفئ برودة جوفه ، أو عناوين أو أسماء أو تواريخ تشير لمؤلفه و تدلّ على منشئه  وأصله وفرعه ،حتى أرقام صفحاته قد تلاشت  ، وذهبت مع الحواف التي قضمتها قوارض العزلة حيث قدر لي في يوم طائش من الشهر الثاني في الحساب الشمسي حين دخلت بمحض الصدفة العابرة إلى  ذلك النفق المهجور ، والذي يعود إلى عهد الاستعمار الفاشستي ، لأجده محشورا بين أكداس المهملات ، منبوذا وحزينا وضامرا  ، ليس فيه ما يغري البصر ، أو يغوي الخيال لكي يستحق حتى مجرد أطالة النظر إلى هيئته البائسة ، لذا لم تراودني لحظتها أية رغبة في لمسه ،ولكن بعد أن أوليته ظهري استبدّ بي خاطر غريب  يحرضني بصيغة أمر صارمة تعذّر علي لحظتها لجم شفقتها ، تحثني بصلابة غامضة على إنقاذ ذلك التعيس من مصيره المنكود ، فانتشلته من منازل القتام  ، حيث كان علي بعدها أن أسلخ جزءا من حلمي في معالجة إعطابه، وترتيق عبارته التي تمزقت ،لأضفي عليه نضارة وبهجة تفوّقا على توقه ، إلى أن صار مخلوقا ورقيا جميلا يليق به أن ينتسب إلى عائلة مكتبتي الأثيرة ، كمصنف نادر لا يُضاهى. لكن  ها هو  أخيرا يعبّر عن جحوده بطريقة ماكرة حين  يتعمد  تنغيص هناءتي ، وتشتيت أفكاري بتغوّله وتوحّشه  ، وافتتانه الخادع بسلالته التي لا أثر لها . فأينما أضعه يزوغ عن بصري  :  روح شريرة  ، تطلق أشباحها في أرجائي لتثير فزعا وهلعا في نفسي ، حتى انقلبت هناءة المقام إلى رعب يومي لا يطاق ، يعلن عن مكائده بهيئة كوابيس تتكرر في يقظتي ونومي  ، وكأن كتابي صار يخطط بمكر لنفيي خارج مملكتي ليستأثر وحده بمتع الخيال والسفر ، ربما لأنه قد سأم من ولعي به ، وغيرتي عليه ، والتي أجبرتني على ضرورة إخفائه عن أعين الآخرين مخافة أن يلحّ أحدهم في استعارته ، باعتباره الكتاب الأثير الذي أخشى عليه من مغبّة النظر،  لهذا كنت أحتفظ به في أمكنة آمنة من أرفف القلب، حتى يكون في منأى عن فضول الآخرين ، ورغم ذلك ما انفكّ هذا الكائن  يكرر تمرده على مشيئتي، والتحرر من ولهي به ليحلّق بعيدا  في سماء غير سمائي ، بعد أن صنعت له أجنحة من ريش محبّتي . لكأن بعض الكتب أبلغ تعقيدا وشراسة من  سلالة بني آدم  حين تتفنن في قسوة الانتقام . لهذا بعد أن أضنتني رفقة كتابي سيء الذكر، الذي  صغت مستقبله من تعبي، ورويت أحلامه من نسغ  محبتي وعصير مخيلتي، بدأت الآن أفكر جادا في تركه لتقلبات مزاجه النكد ،بعيدا عن جموح شغفي به ، حيث يقتضي مني فقط ، بين الحين والآخر  تذكير فخامته بوطنه الأم ، أعني ذلك النفق  العطن الذي قادتني إليه صدفة غاشمة، مازلت حتى الساعة أحمل وزر لعنتها .
     لعلكم تستغربون غرابة حكايتي المحزنة ، لكن – صدقوني – هذا ما يحدث  حين تتواطأ خطفة شغف باهتياج محموم ، جراء توهمها التماعة بصيص علّه يغمرها بطمأنينة الوجد ، وبهاء المعرفة  . انها جريرة برزخ بين حلم ونقيضه ،لا سيما في غياب المؤلف كمجاز للعقل، أعني أنه في البدء  ما من شيء  ، كان يدلّ على كتاب عار ، بعد أن فقد جلده وذاكرته، بحيث تتعذر معرفته إلا تخمينا بأنه محض رواية بائسة لمؤلف مجهول تعوزه الدربة .لكن كما اعترفتُ لكم قبلُ ،  أثار هذا الكتاب الملعون غوايتي  ، كما لو أن امرأة وحيدة كانت تتخفّى في جثة متنه ، امرأة كما يبدو ترتدي شكل شجرة عطشى أو عشّ مهجور   ، أو هي  تخطّط طيلة دهر لتغيير عالمها ، لكأنها مقبلة على ارتكاب جريمة ما ، لا مجرد امرأة تحلم . وهذا أيضا ما هيّج شغفي في بداية عهدي  به ، ولا سيما أن الوقت ليل معزول، ومكتبتي  وحيدة  ، وأنا  أيضا  . كان النوم يفارقني ، لحظة أن اقترحت بمرح أن تكون المرأة أنيستي ، أعني الكتاب ،فلعلنا معا نترع الخواء ونجعل الليل أقل برودة ووحشة وسأما ..  ولأن الصفحات الأولى كانت منزوعة ، قنعت قراءتي أن تنطلق بدءا من الصفحة الثالثة والأربعين  . لم يراودني في أول الوله أيما قلق حيال الذاكرة المتخفّية بمسافة اثنين وأربعين صفحة ضائعة ،و قلت لا بأس ، فلا حيلة لي سوى أن أغضّ الطرف عن ماضي هذه الحكاية مكتفيا بالهنيهة  الحالمة التي أنا فيها ، ولا حاجة بي لنكش مطامير خلت ، وسأفترض مستأنسا بما غمرني من فيض التحنان أن ما تلاشى من ذاكرة الكتاب لا يعني الكثير طالما في مكنة أنيستي أن تنسج نفسها على طريقة شهرزاد ، لاسيما وأنها في أول الأمر قد بدت تتلطف تحببا لتشملني بابتسامة لافحة بالودّ ونظرة مغوية  أحسست على أثرها أن جدراني  انفتحت عن حشد من أجنحة حارة تخفق في صدري ، مدركا بأنه قد آن الأوان  لنفير الربيع العاشق. ولأنه ما من أحد غيري في تلك الصحراء القاحلة، يليق بتأدية هذا الدور الذي لا يقتضي سوى فنّ الإصغاء ، ألفيتني مستسلما لسحر السرد ، ملبيا كل ما يمليه خيال كتابي في ملء كهوف الوحشة التي تركتها الصفحات الضائعة . وحين رسمت أنيستي في أول الأمر طائرا خرافيا يخترق سماء مترعة بالغيوم  أومأت لها بأنني قد فهمت . وهكذا سافرنا معا إلى بلاد عتيقة تشبه سمرقند ، وتجولنا عبر بساتين مضمخة برياحين  حدائق الله .  ونمت في تلك الليلة نوما هانئا بين أحضانها وقد  تخللتني رؤى  فاتنة . لكن في الصباح التالي استيقظت فزعا على صوت ما  يتكسر ، لم يكن ذلك سوى مقام الروح.. إذ ألفيتني محض رفات ظلّ ،وأن بحار النور والعواصم والأحلام والقصائد وكل أسماء الألفة قد نأت بعيدا . وبدوت كأنني أتخبط في شراك غابة متوحشة  ، وأنه ما من اثر لذلك المتن ، سوى عقارب خديعته تلدغ مخيلة الوهم، نافثة سمومها في خلايا لغتي . وهذا بعض ما رأيت .
¨     

برلين 12/12/2009

صوب خليل

مفتاح العماري

صوب خليل

أبحث عن وجهي في مرآة الصباح
: أرى حقلا من الأشواك والعزلة .
**
كم من اللغات ينبغي إتلافها
تقتضي الحقيقة .
كم من الصور عليها أن تتمزق
ليعبر الألم .
**
أضحت أوردتي خالية من الزوار
لا شيء غير ضجيج الحقن .
**
هذا ما أفكر فيه :
حين ترتكب القصيدة بخجل المركيز دوساد
مأنوسة برياح القبلي .
هذا ما أفكر فيه أيضا ،
 لأكون أكثر تماسكا
وأنا أنظر الى حذائي الوحيد
 وهو ينزوي كئيبا خلف الباب

يرتديه شعب أشقر من نمل المنفي /
إلى رجل  تشطره الموسيقى
: من يحميه من طغيان قرينه .......
الذي رآه يبكي
فأضاف نصلا لقلبه ،
ووترا لبكائه .
**
في هذا الصباح
قالب صغير من الحلم
يكفي لرشوة الألم الأعرج
 الذي يتنزه في أحشائي كعجوز ثمل
سأذوّب بضع كلمات في كوب الحليب
وأتناوله بتفاؤل حتى لا تسقط أصابعي
خارج المتن ...
______
كاتنزارو 20 ابريل 2008


الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

ابنة الرمّان


مفتاح  العمّاري

  
                ابنة الرّمان

    يُحكى : أن رجلاً جلسَ ذات صباح تحت شجرة توتٍ ، شارد الذهنِ يُفكّرُ مهموما في محنته، فها هو  بعد سبع سنوات من زواجه لم يرزق بذريةٍ تؤنسه وتشدّ أزره . وفيما هو كذلك ، وإذ بغولٍ  في هيئةِ شيخٍ مسنّ  ،يقف قبالته ، ويناوله رمّانةً ناضجةً في غير موسمها .. ويخبره : بأن زوجه ستحبل على الفور ، و ستنجب له البنات والبنين إذا أكلت هذه الرمّانة . وقد اشترط عليه أن يُوهب له المولود الأول  حتى تستمر امرأته في الانجاب ، وفي غمرةِ دهشته وافق الرجلُ العاقرُ ، مؤكّداً بأنه سيلبّي رغبةَ الشيخِ الذي اختفى فجأة .
     حكى الرجل لزوجته ما حدث بينه وبين الشيخ ، وناولها رمانةَ السحرِ تلك ،والتي ما أن أكلت حبّها  اللذيذ حتى حبلت على الفور  . وفي الشهر  التاسع أنجبت بنتاً بالغةَ الحسنِ ، سمّياها (حَبّ الرمان ) ، وما كادت الطفلةُ تكبرُ حتى استدرجها اللعبُ .. فأخذت تتعرّف على صخبِ الشارع .. ولم تأبه كثيراً بذلك الشيخِ الغامضِ الذي ما فتئ يستوقفها بين يوم وآخر  ، وينحني عليها هامسا في أذنها مكررا الجملة ذاتها ، " قولي لأمّك أين ضاعت الكلمة "  ، ثم يقرص أذنها ويختفي . لكن (حَبّ  الرمان) وهي في غمرة اللعب قد سهت عن إبلاغ أمّها بأمرِ ذلك الشيخِ الغامضِ .. حتى صبيحة ذلك اليوم الذي همّت فيه الأم بغسلِ رأسِ ( حَبّ الرمان )،  فأحزنها أن ترى بقعةً صغيرةً من الدم تصبغ أذن طفلتها .حينها فقط تذكّرت (حّبّ الرمان) حكايتها المهملة ، وردّدت على مسامع أمها ، ما كان يقوله لها ذلك الشيخ الغامض .
 في صباحِ اليومِ التالي طبعت الأم على خد (حَبّ الرمان) قبلتها الحنونة بعد أن ألبستها  أجمل فساتينها، ثم ودعتها بحرارة وهي تُحمّلها الكلماتِ التي ينبغي أن تهمسَ بها على مسامع الغول .
   وهكذا ما أن خرجت (حَبّ الرمان) إلى الشارع حتى وجدت ذلك الشيخ الغامض في انتظارها ، فهست له بالجملة التي حفظتها عن ظهر قلب ، " تقول لك أمي ، من هنا الى هناك يمكنك أن تأخذ الكلمة إذا شئت " .
 ما أن فهم الغولُ مغزى العبارة ، حتى بادر بحمل (حَبّ الرمان) على كتفيه وطار بها بعيداً ليسجنها داخل قصره النائي  في الغابة الموحشة .. حيث ظلّ كل مساء يطعمها من غنائم صيده،  لحما شهيّا من الأرانب وصغار الغزلان ، ويجلب لها فاكهةً طازجةً لم تُمَسّ .
  هكذا كبرت (حَبّ الرمان ) في كنفِ الغولِ وغدت صبيةً مليحةً يغارُ من حسنها القمر . لكن وفي يوم من الأيام  ، بينما كان الغول غائباً ،  خطر لها أن تتحايل على السأم بالتجوال حول أطراف القصر .. فرأت في الأصطبل فرساً غريبة ، نصف جسمها بهيئة حيوان ، ونصفها الآخر امرأة . . كانت تتغذّى على فضلات من لحوم البشر وعظامهم .. فتقزّزت (حَبّ الرمان)  من بشاعة المشهد ، ثم استبدلت اللحم شعيراً والعظام قشاً ، وظلّت تلاطفُ الفرسَ حتى  رامت طعامها الجديد ، وخلف القصر اكتشفت غرفةً معزولة ينبعث من وراء بابها الموصد أنينٌ موجع ، فهالها الأمر، وشعرت بالخوف والارتياب ، ثم تقدّمت في حذرٍ من الباب وعالجت فتح قفله.. وما كادت تدخل الغرفة حتى فوجئت بأميرٍ سجينٍ يتوجّع وحيداً من شدّة المرض والجوع .. فدأبت على إطعامه وتطبيبه حتى تماثل للشفاء .. وحين سألته عن نسبه عرفت بأنه ابن سلطان البلاد ، فترك كلامه في قلبها شغفا ومودة ، وكذلك هو  قد تعلّق قلبه بأدبها ولطفها وجمالها  .وذات يوم قرر الأثنان ، (حَبّ الرمان ) والأميرُ السجين، الفرارَ بعيداً عن مملكة الغول .
كانت (حَبّ الرمان) قد حدست أن قوةَ الغولِ تكمنُ بين طيات شعر رأسه ، لذا استدرجته ذات ليلة بكلمات تقطر ودّا وأخذت تفلي له شعر رأسه ، فاستكان الغولُ منتشياً برحلةِ الأناملِ الرقيقةِ الناعمةِ وهي تطاردُ القمل عبر مسارب فروته.. لكن اصابع حَبّ الرمان  قد اصطدمت أثناء مشيتها بين طيات الشعر الكثيف بعودٍ صلبٍ من قصبِ الواحات البعيدة ، وصرةٍ  بحجم ثمرة التين ، وإبريقٍ صغير ٍمن نحاسٍ مصقول .. وحين سألته عن سرّ هذه التعاويذ العجيبة انتفض الغولُ غاضباً ونهرها بعنفٍ لاعهدَ لها به .. فتضرعت (حَبُّ الرمان) وهي تبكي بكاء حاراً مسّ شغاف الغولِ وحرّك مشاعره الراكدة .. حتى رقّ لها قلبه كاشفاً في لحظةٍ واحدةٍ عن سرِّ قوته .. وقال :
    " يكفي عند الضرورة أن يُرمى عودُ القصبِ ليكون غابة شائكة يصعب عبورها / وتكون صرّة الرماد إذا ما بُعثرت فوق الأرض حريقا عظيما يأكلُ الأخضر واليابس ، أمّا اذا سُكب  إبريق النحاسِ ، فأنه يصير نهراً هادراً يكتسحُ السهولَ ويُغطي الجبالَ العالية.
    في تلك الليلة ما كاد الغول يستغرق في نومه ، حتى تدبّرت (حَبُّ الرمّان) عوداً شبيهاً ، وصرةً من رمادٍ لا يجاورها الشكّ ، ومن نحاس شقيق أحضرت إبريقا آخر .. وبعد أن فكّت عقدة التعاويذ الثلاث من بين خصلات الشعر الكثيفة .. ربطت التعاويذ المزيفة عوضا عنها .  ثم تسللت هي وأميرها خارج أسوار القصر .
      بينما القمر يشع بدرا ، استيقظ الغول فزعا اثر كابوس جثم على صدره وكاد أن يكتم أنفاسه  وقد هاله نباحُ الكلبِ الذي انبرى ينبح دون توقف .  في أولِ الأمر  مرّر الغول أصابعه الخشنة على فروة رأسه ، فاطمأن لوجود التعاويذ الثلاث كما هي .. ثم طفق يبحث عن (حَبّ الرمّان )، فلم يجد سوى الفراغ وحده يجثم موحشا في المكان .. ولمّا تناهى إليه وقع حوافر الفرس وهي تخبّ مبتعدة ، اكتنفه التوجسُ وخامره الريبُ  فركض خارجا يقتفي أثر الفرسِ التي كانت  وقتها تهرب بعيدا ، يتبعه كلبُه الوفيّ . وحين شعرت حَبّ الرمان بالخطر ،  رمت عود القصب خلفها ، فأنتشرت غابة كثيفة ، فكان على الغول أن يفقد نصف قوته لكي يشقّ مسربا وسط الأشجار الشائكة.  ثم  بعثرت (حَبّ الرمان ) صرةَ الرماد ، ليرتفع حريقٌ هائل الى عنان السماء ، فتحتّم على الغول أن  يهدرَ  النصفَ الثاني  من  قوته لإطفاء الحريق الهائل ، وقد استنفذ آخر بلل من لعابه الكريه . حتى أنه حينها لم  ينتبه لكلبه  الذي التهمته النار فسقط محترقا يلفظ عواءه الأخير .
   وعندما سكبت ( حَبُّ الرمان ) إبريق النحاس ، تسمّر الغولُ مستسلماً في عجز ٍومهانة وخيبة فادحة إزاء النهر الهادر .. وظل واقفا يرنو بحسرةٍ ومرارةٍ إلى الأفق البعيد ، حيث الفرس المحمومة تسابق الريح ، وتتوارى بعيدا ، وهي تحمل فوق ظهرها الأمير  وحَبُّ الرّمان ،  صوب الضفافِ الآمنة .


الاثنين، 2 نوفمبر 2015

في باب الوله *


مفتاح العمّاري






في باب الوله ،

قال مولانا جلال الدين الرومي :

العشق زواج الروح .

قال بورخيس :

" في أعماق المرأة شخص آخر ، متربص " .


___ 
مقطع من قصيدة : ذئب الدلالات .
برلين نوفمبر 2009