مفتاح العمّاري
فعل الإبداع والحداثة
تجليات تجربة الشعر العربي المعاصر في ليبيا :
بصدد الحداثة في ممارسةِ الشّعر تحديداً ، أريدُ أن
أذكِّر هنا ( كما جرت العادة في أي حديث ينصبُّ حول تجربةٍ
إبداعيةٍ تمثلُ جزءاً مِن كل ) : أن
الحداثةَ الشعريةَ ، أو تجربة الحداثة في الشعر الليبي المعاصر ، تندرج ضمن سياقِ تجربةِ الحداثةِ في
الشعرِ العربيّ – سيأتي الحديث فيما بد عن بعض تجلياتها - .
هذه مجرد تواترات لأسئلة معلّقة أثارتها
إشكالية الحداثة والإبداع ، غالبا ما كانت تهيج هنا ، وهناك ، وليس بجديد
الإشارة إلى أن الحداثة في الشعر العربي المعاصر قد ظهرت مؤشراتها الأولى في منتصف القرن العشرين ،
متمثلة في عديد الخطابات النظرية والإبداعية
لنخبة من كتاب ( المشرق ) ، تحت مؤثرات إنتاج ، أو انجاز خطاب الحداثة
الأدبية في أوربا ، بمختلف أشكالها ومستوياتها . أي أن نشأة الحداثة الأدبية في
الشعر العربي المعاصر ، جاءت كمحصلة
طبيعية للتعالق والتثاقف مع فكر الآخر وثقافته ، في مرحلة عربية مشاكسة تطارد
مستقبلها في ماضيها ، تتنازعها المذاهب
الفكرية ، والصراعات الأيديولوجية ، - غالبا كشعارات متماهية - أوقعت خطاب الحداثةِ الناشئ في فخاخِ أوهامها . فبدلا من أن تطرح
الحداثة كفعالية جماليةٍ ، ترتكز على قراءة واعية لمعطيات الواقع ومنتجه الأدبي ،
انحرفت إلى تشيوعات إيديولوجية مُضَلِّلة ، ذات صبغة تجريدية فيها كثير من
الملابسات والمتناقضات الفكرية .
وهنا تكفي وقفة عابرة إزاء ما كانت تطرحه
مجلة ( شعر ) ، لملاحظة ما تنطوي عليه دعوة الحداثة من فضائح أيديولوجية ،ومزالق
نظرية ترفع إعلانات الحداثة مختومة بعبارات جذابة ، تشي بفتوحات جديدة – كما تدعي
– في ( الشعرية العربية ) ، مثل : " الكشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف
" بفعل ( الرؤيا ) ، من أجل "
الثورة على اللغة " سعيا للتأسيس في
نظرية الشعر العربي المعاصر ، - كما تزعم
- وجعل القصيدة " كيمياء شعرية
" . وذلك بعد رفض الرؤى الشعرية القديمة
للعالم ، وصولا إلى الكشف " كشف حياتنا المعاصرة في عبثيتها وخللها (.......) ، الكشف عن التشققات في
الكينونة المعاصرة " . هكذا تتكرس
متواليات شعارات الثورة الشعرية الحداثية ،
محرضة على فعل التمرد والتخطي : " التمرد على الذهنية التقليدية " وتخطي المفهوم القديم للشعر العربي . وفيما هي تتماهى بخطاب الآخر ( الغرب )
، تدعو في اللحظة ذاتها إلى التحرر من سيادة الأجنبي ، طامحة في هوس إلى
التوحيد بين " الحلاج ولينين "
.
هذه المقولات التي أثار زوبعتها ، الشاعر
والناقد ، علي أحمد سعيد ( أدونيس ) (1) ، جاءت في فترة غليان أسئلة ( شعارات )
الحداثة العربية التي كان هاجسها فعل
التخطي والتجاوز عبر منبرها المتمثل في
مجلة (شعر ) ، التي انشق أدونيس عن جماعتها موجها نقد الذات إلى مرحلة ( شعر ) ،
مشيرا إلى النزعة الرهابية في محرضات الحداثة
مجملا بعض الأخطاء التي كان من بينها تكديس أسئلة الحداثة الشعرية وتكرارها
. هذه الأسئلة التي أغرت الناشئة بتداولها
، وتكديسها عبثا ، من دون أي فعل للإضافة
كما يرى أدونيس " على صعيد مفهومات التجديد والتراث والحداثة ، بخاصة ولا على صعيد اللغة الشعرية وبنية التعبير
بعامة " (2) . ومن ثم افترضت هذه
المراجعة طفرة انتقاديه أخرى تمخض عنها فعل قفزة جديدة يهجس بتأصيل الحداثة ، من خلال نبش القبور وإخراج رفاتها ، والكشف عن مكنوزات
مطمورة بمعاول ومقتنيات غربية محض . فعلى هدى صوفية بودلير ، واشراقات رامبو ،
وكهانة مالارميه ونرجسيته الملائكية .. إضافة إلى الحساسية الشعرية لدى بيرس ،
وغرائبية لوتريامون ، وسريالية بريتون ، يتم اكتشاف تراثنا الصوفي بطقوسه
واشراقاته وانخطافاته وسرياليته (3)،
لتبدأ دعوة تأصيل حداثة الشعرية بدءا بنشأتها الأولى كما يزعم أدونيس ، التي اقترن نشوؤها في القرن الثاني الهجري ،(
الثامن الميلادي) بالحركات الثورية التي كانت تطالب ، سياسيا واجتماعيا بالمساواة والعدالة ( .... ) واقترن كذلك بنشؤ
الحركات الفكرية التي تعيد النظر ، بشكل أو آخر ، في المفهومات الثقافية الموروثة
".( 4)
إن هذه الحفريات الموهومة في تراث شعرية الحداثة ، بقدر ما تزعم التنصّل
من سلطة خطاب الآخر : ( الغرب ) تحاول في الوقت ذاته شرقنته .. انطلاقا من أن
الحداثة لا ترتبط بلحظة زمنية مباشرة ، باعتبار : " أن الشعر الأكثر حداثة
صدر ويصدر من عمق زمني يتجاوز اللحظة الراهنة ويستبقها "(5) . وهنا
يبرز طموح التأصيل متجاورا مع نية التنصّل من سلطة خطاب حداثة الآخر ( الغرب )
.وفي الوقت ذاته يُغلف بوهم شرقنة الغرب ، لأنه ، " في الأصل لا ( غرب ) لا ( شرق ) ، وأيضا في الواقع
الراهن ( الغرب ) هو الشكل وحشيا ، يبحث عن لطافة المعنى . أما ( الشرق ) فهو المعنى وحشيا ، يبحث عن لطافة الشكل "
(6) ويمكن الإزاحة هنا – إزاحة الصدمة -
صدمة الحداثة من مدلولها الحضاري
إلى حيزها النفسي في حدود صدمة
القراءة ، عندما يكتشف ( الناشئة ) تحوّل
الخطاب من صفة المغامر والجريء إلى مجرد مغلفات حداثوية موهومة ، إن لم تكن
مستنسخة بتحايل ، ودهاء فارط . فالانجذاب
نحو الغرب حدث في الغالب بطرق غير متكافئة
، لإقامة اتصاله الثقافي . ربما لأننا لا
نسكن العالم وحدنا ، كان هذا الانجذاب
حتميا . حسب مقولة : محمد
بنيس " نحن جميعا متورطون في الغرب ، متورطون في الحداثة " (7) ، التي
تنطوي على اعتراف صريح بمنجزات الآخر . هذا
الاعتراف الذي انصرف في الغالب إلى
نقل المناهج والأطروحات النظرية ، كأنظمة خطاب
متصلة بالشعرية في أوربا ، بطرائق موغلة
في التجريد والتعمية ، والذي تفاقمت شراهته الاستهلاكية في العقدين الأخيرين من
هذا القرن ** . وبصورة خاصة ، تلك الدعاوى التي
تمثلت في إسقاطات منهاجية مفتونة بنفسها إلى أقصى درجات الافتتان . وهكذا ظهرت عندنا خلطة عجيبة من البنياويات :
ألسنية ، وتكوينية ، وشكلانية ،وسيميائية
، مع تكومات اصطلاحية هائلة ، عادة ما تدرج في أنسجة متشابكة ، يرافقها
حشد من الأسماء ، لأعلام هذه الاتجاهات
وتياراتها . وبغض النظر عن منشأ هذه النظريات الأدبية ، سواء كانت في موسكو ، أو
باريس ، أو براغ ، بغض النظر عن مضانها ، وما تنطوي عليه من مواقف ومعتقدات
أيديولوجية ، فهي بما تقدمه من معارف ذات أهمية قصوى ... تشكل بالضرورة مساهمة
معرفية في إطار مفاهيمنا النظرية والإجرائية ، تتصف بتلبية فكرية نحن في أمسّ
الحاجة إلى خبراتها وتجاربها . غير أن الخلل يكمن فيما أثارته مقولات هذه المفاهيم
من تهدّم وتقويض لأدواتنا ، أو لما كنّا نعتقد
بوجوده من مكتسبات نظرية ، في إطار علاقتنا الخاصة ( الذاتية ) بالشعر
العربي ، المتشظية هي الأخرى ، بين
إشكاليات الأصالة والمعاصرة .
وهنا أريد
الكشف عن مدى الارتباك المنهاجي ، خاصة فيما يطرح اليوم من مقاربات نظرية
ونقدية مع ( منجزات ) الغرب ، التي هي – بالمقابل – خاضعة لمستجدات ، شديدة الطموح
والادعاء .. جعلت من حركيتها في حالة
انزياح مستمر ومتسارع ، مما أضفى قدرا من صعوبة التمييز والفصل بين سياقاتها الزمنية .
وإذا كان لابد لنا من هذا التورط ، فانه يجدر بنا إعادة النظر
في آليات المثاقفة سعيا لتحقيق الموهوم في مرامي حلمنا .ومن أجل هذا الادّعاء
الجميل .. لا يمكننا بأي حال من الأحوال
رفض الآخر .. أو القبول به قبولا تاما .
فقط ، السؤال هنا ينبش فرضية إيجاد آليات معرفية تقتضي بالضرورة احترام مقومات
الحوار وفنونه بين ( الأنا والآخر ) ،
وتفترض استخدام مفاتيح من معادن صلبة ، وبآلية تأخذ في اعتبارها استعدادات بنى
الذهنية العربية ( نفسيا واجتماعيا وثقافيا ) ، سعيا لإرساء تصورات إجرائية
كبرنامج عمل ، يفضي من ثم إلى بناء نظرية معاصرة للشعرية العربية . وذلك من خلال إعادة إنتاج للخبرات والتجارب
المستوردة ، لتكون متسقة ومنسجمة مع متطلباتنا الجمالية في إطار خصوصية الذات العربية . ولإقامة علاقة صحية مع
هكذا حداثة ، هي دائما تتجاوز نفسها ، علاقة
تضمن قدرا من التكافؤ ، فلا ينبغي
أن ينبني التواصل مع الآخر على حساب نفي الذات
.
وهنا نتفق تماما مع الدعوة " إلى إعادة
النظر في أوهام الحداثة ، أوهام <
حداثتنا > وأوهام < حداثة
> الغرب نفسه ، أي أن ننتج
< حداثة > شعرية تقول زمننا
المتغير وتساعد في الآن ذاته على أن يكون
متغيرا باستمرار ، وبمعنى آخر أن تكتب الحداثة
< القيم > في حياتنا
لكي تكون جديرة بتغيرها ومعناها
المتجدد باستمرار " (8) .
________
________
*كتبت هذه المقالة سنة 1994 واندرجت ضمن كتابنا ( فعل القراءة
والتأويل ) .
** المقصود هنا الاشارة الى القرن العشرين .
** المقصود هنا الاشارة الى القرن العشرين .
________________________
(1) أدونيس /زمن الشعر / دار العودة . بيروت / 1983 ، ط 3 .
(2) نفسه
.
(3) أدونيس
/ فاتحةلنهايات القرن / دار العودة . بيروت / 1980، ط 1 ، ص (334 ) .
(4)
أدونيس / الشعرية العربية / دار الآداب / بيروت 1989 . ط (2) ص (79) .
(5) المرجع
السابق نفسه .
(6) فاتحة
لنهايات القرن . ص (332 ) .
(7) محمد
بنيس . حداثة السؤال . المركز الثقافي العربي
- بيروت . الدار البيضاء . ط (2)
1988 . ص ( 117 ) .
(8) محمد
جمال باروت ( أوهام الحداثة ) مجلة الناقد ، العدد (15 ) ابريل 1989 .