مفتاح
العمّاري
عودة الولد الصغير
تضم مدونة السرد الليبي العديد من
المقترحات السردية التي تجاور بين السيرة الذاتية
وسيرة المكان ، حيث تتوزع الذاكرة بين المتخيّل والوثائقي ، لتهب القراءة لذاذة
خاصة يمكن استخلاصها بيسر عبر خاصية التجاور بين السيرة والحكاية والتاريخ . هذا
تحديدا ما نشعر به إزاء ( عودة الولد الصغير )
للروائي والقاص : سالم الهنداوي ، لنعود معه إلى الرحم ، إلى المدينة الأم ، إلى مراتع
الطفولة وحلمها النظيف وشقاوتها البريئة .. إلى بنغازي (الستينيات ) ، حيث كل شيء
في هذا العالم المليء بالمتناقضات ، خاضعا لحواس الطفولة ومشيئة الصبا . وإزاء
هكذا متن لن يسعنا أن نمرّ مرورا عابرا ، فثمة سحر هنا ، له ضرواته ، يلزمنا أن نتوقف
كثيرا حيال العديد من صوره التي تمور بحياة
طازجة . ولعل بساطة الجملة السردية في (
عودة الولد الصغير ) هي التي تستدرجنا
بتلطّف ، دونما إخلال ببراعة الخصائص الجمالية لفنون السرد ولغته .. لأن ما يميز
لغة الهنداوي السردية ينحصر غالبا في كونها تفيض على الدوام بحمولات درامية حارة ،وتضفي على فضائها بهاء
غرائبيا ، ربما يتعلق الأمر بتلك الواقعية السحرية التي تنبش ماضيا ، تندغم
الميتافيزيقا في نسيج وقائعه وتأثيث قيمه، و معرفة محيطه. هذا هو مسار هذه الرحلة في (عودة الولد الصغير ) حيث ينقضّ السارد على
اللحظة الهاربة بمخالب الحنين ليوقظ طفولة العالم ، عالمه الظالم ، والذي بقدر ما
تآمر عليه ، وسبّب له الكثير من الأذى إلا أنه في هذه العودة يبدو متلطّفا وحنونا
وهو ينكش المطمور وينفض الغبار عن مطارح وأسماء وأشياء وكائنات يتعذّر نسيانها .. لذا حكم عليها هنا بأن تظلّ حية ونابضة تحتفظ
بطزاجة عالية لكأنها بنت اللحظة الحاضرة . وعلى الرغم من أن سالم الهنداوي في ( عودة الولد الصغير ) ، يحاول استنفار الذاكرة بجموح عنيف ، لكي يستحضر عالمه القديم ، لكن ثمة دائما ما يفيض من مخابئ خزينه ، ولا سيما تلك الدهشة ، وهي تصعد من
لدن الجهات والكائنات التي يتفنن الهنداوي في رسم ملامحها وتهييج أصواتها لتغدو نسيجا حيا يتغلغل
بقوة في حواسنا إلى الحدّ الذي يشعرنا بألفة حارة ونحن نركض خلف الكلمات التي صنعتها
مخيلة السرد باقتدار شديد التبسط . وهذا
ما يميز الهنداوي ، البساطة في عمق ، وإعادة
تكوين الماثل ، عبر لملمة البديهي والعابر والهامشي والمهمل . إن ما يفعله سالم
باختصار شديد هو إضفاء كاريزما ذات مغنطة عالية
الجذب تنبثق من بداهة مشهدياته . ولعل هذه الخاطرة التي أملتها قراءتنا لعودة الولد
الصغير ، تحاول أن تندرج هنا كتحية لصديقنا
سالم الهنداوي ، الذي ظلّ وفيا لهمّه
كسارد متميّز ، له إضافته وحضوره وفعاليته في خدمة وإثراء مدونة السرد الليبي .