مفتاح العمّاري
ما أجمل الحياة
الكتابةُ
الإبداعيةُ ضرورةٌ لتغذية الوجدان وشحن
المخيّلة ، والإسهام في تأسيس وتشكيل الذائقة وتنمية القراءة ،كآلية هضم وتلّقي
وإعادة إنتاج للأسئلة المفترضة . لكن في الوقت الذي يتفوّق فيه النوعُ السرديُّ
قصةً وروايةَ نلحظُ تأزمَ وانحدارَ فنون أخرى يأتي الشعرُ في مقدمتها . ما هي
الأسئلةُ التي يمكن استخلاصها من تراجع قراء القصيدة الآن ، لا سيما وأن الشعرَ يُعدُّ
أهمَّ رافد وجداني عبر العصور . هل يَكمن الخللُ في مخيلة الشاعر وعدم قدرته على
ابتكار إشكال فنية ذات خصائصَ جمالية تنسجمُ مع تحولات الحياة ، وتلبّي متطلّبات
الواقع ، بحيث عجز أن يكون شريكا في صناعة الوجدان ، وأن وجوده أمسى فائضا عن حاجة
هذا العصر ، أم أن اللحظة الراهنة لم تعد في حاجة إلى الشعر وقد استعاضت عنه بفنون
أخرى ،أكثر مواءمة وانسجاما وتطلبا . أسئلة كثيرة يمكن طرحها وإعادة صياغتها تبعا
لهذه الظاهرة التي أضحت تتفاقم ، لحظة أن عجزت القصيدة عن صناعة قرائها . ولعلنا
حين نتفحّص ما تطرحه وسائل النشر العربية الآن من مدوّنات شعرية ،نكتشف بؤس هذا
الكائن المهمل والمنبوذ والمنسي ، والذي لم
يعد يعبأ به أحد سوى الغبار . أسئلة قلقة ومحيّرة تكرّر نفسها ، علها تلامس موطن
الخلل الذي غيّب الشاعر وهمّش دوره .. أو تجد مخرجا من هذا النفق المظلم الذي تاهت
القصيدة العربية في غياهب متاهه وقتامه وعزلته . أجل ، أسئلة كثيرة أطرحها هنا بوجع الشاعر الذي راهن
ومازال يراهن على ضرورة الشعر في زمن بات ينأى عن لغة الشعر وأروقة الشاعر ..أسئلة
حائرة ومحيّرة ، وربما فاجعة لحظة أن تتورط القصيدة نفسها في انتحارها وترثي موتها . هذا الإحساس التراجيدي بالنبذ والإقصاء
والنفي لكائن أصيل ، كان قبل قليل حيا
وفاعلا وشريكا في صناعة الوجدان ونسيج
الحياة لا ريب سيولّد حالة من الخيبة ، لحظة أن يجد نفسه قصيا في منفاه ، يربّي خيال عزلته وحيدا ونائيا ، وكأن العزلة هي قدره الذي لا
فكاك منه .
اعترف أنني افتتنت بقصيدتي ، وهذا مكمن ضعفي وقوتي في آن ، ولا يسعني أن أكون
غير ما أنا طالما ظلت الفتنة قدري الذي لا فكاك لي من سلطة أسره . اجل افتتنت ،
واني لأعترف بهذه المثلبة الحميدة التي
عليّ أن أحمل وزرها أينما ذهبت . لكن لعله من حسن الطالع في نهاية هكذا مطاف أن
تظفر القصيدة أخيرا بحريتها بعيدا عن أيما ضجيج لكي تعيد اكتشاف نفسها ، وتقترب
أكثر من ملامسة الروح التي عليها أن تنتظر طويلا ريثما يلتحق بها الجسد الذي خلبت
لبّه غوايات عالمه الباذخ ، عالم السوق الذي لا موقع فيه للغة القصيدة ، عالم
يستمد وجوده من تفننه في تفسّخ القيم وتشويه الجمال . لهذا لن نخسر شيئا إذا ما
انتظرنا قليلا أو كثيرا ، فستبعث القصيدة
من رماد محرقتها ، وسنغني من جديد " ما أجمل الحياة / لأن أوهامنا معنا " .