وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 31 يوليو 2025

مهند سليمان: (إضاءة على مجموعة تحطيب سكان الريح للشاعر مفتاح العمّاري)

 

__________________________________________________________



 

تحطيب سُكّان الريح في رأس القصيدة

 

"الأشجار التي تحجّر عطرها
كيف نسميها حديقة؟
كان عليّ جمع الحطب
لا انتظار الريح."


بهذا المقطع يستهل الشاعر “مفتاح العمّاري” رحلته الجديدة راويًا حكايا سُكّان تحطيب الريح، ففي مجموعته الشعرية الأخيرة يجمع الحطب وينسف ساعات الانتظار إنه يتعمد إدانة الحطّاب الذي حطّم الشجرة وقتل ما عليها من أعشاش لطيور الكناري والقُبّرات يد ذاك الحطّاب عادت إلى البيت بأحشاء الشجرة الذبيحة ؟ وربما كان عليها أن تنجو وتصرخ صرخة شجيّة من حُنجرة الناي ! كيف للموت أن يصرخ بينما اليد الآثمة تتدفأ بأشلاء الضحايا؟ ونفس تلكم اليد تسجن الزهور وراء سُورٍ سمته مجازًا بالحديقة إذًن لا مبرر لانتظار الريح !

 

"منذ أن دفنا أبي وتركنا أخطاءه
تلعب حرة خارج القبر
منذ أن تدبّرت أمنًا زوجًا آخر
ولم نعد نراها إلا في المآتم

منذ أن تخلت عني الأبواب
وتحول اسمي إلى خمسة أرقام هزيلة
وأمست الثكنات ملاذي غير الآمن"


الثكنة هاجس الشاعر الموت الذي تحيا به قصيدته فهي قد ولدت من فوَّهات البنادق وأوامر المشرف العسكري بالاستيقاظ قبل الساعة السابعة صباحًا وكان لابد جراء حجم الخوف هذا أن يتحسس الشاعر جبينه المحموم بالقصيدة فيندفع إليها دفعًا لا يسابقه فيها أحد لا الريح ولا بقايا الجثث المتفحمة!


"على طاولة عامل بدالة في معسكر الكتيبة 23 مشاة
كان النبي مهانًا
شوّهت ملامحه أرقام وخربشات عابثة
وبقع الشاي
منذ ذلك الحين وأنا أكتب الشعر لجمهور مغرور
يتجاهل الموسيقى ويفسح الطريق للجنرالات" 


لعل قدر الأنبياء اللوذ بالحرف والكلمة ليقولوا احتجاجهم ليموتوا وهم واقفين دفعًا للإهانة وردًا للصفعة هذا ما أراده الشاعر فلكي يأخذ بأسباب النجاة كان عليه أن يتشجأ ويتقيأ ويتخلص ! ليس مهما الشكل الهندسي لتلك الأبجدية

المتساقطة على صدر الورق.


"حيث لا شيء يصمد طويلاً
في الحرب
تشّبثت بالموسيقى
تلك الرفيعة شبيهة السر
فمهما كانت عظمة النار
وحدها الموسيقى لا تحترق"


أشياء أبلغ عمقًا من الموت ترويها لنا قصيدة الشاعر حين يفقد الكلام شفافية أمانه وتشتهي الثرثرة أمان صمتها! لكن في المقابل لازال الجسد الذي تُسكره ثمالة الموت ماثلاً في ذاكرة قصيدة الشاعر لا يلبث أن يُنسى أو حتى أن يُعلن هزيمته! لماذا يختار الشعراء الانتصار بقصيدة؟ كيف خطر لهم أنها الطريقة المثلى لسقوط الأعداء في ميادين الوغى؟

"في عطلة الأسبوع
ذهب الجنود إلى عائلاتهم
وتركوا الثكنة لي وحدي"


العُزلة مصيدة الشيطان حيث يُعدّها على طريقته ويستدرج بها ضحاياه قبل أن يتحولوا إلى قاتلين أو قتلى! هنا لم يلقى الشاعر نفسه إلا أن يُمضمض ريقه الحاد برسالة الشيطان بينما الجنود الآخرون يلوذون بأهاليهم، شيطان اللغة أرغم قلم الشاعر على النبش بعيدًا في أحشاء الشجرة التي اقتطعها الفأس وغنّاها الناي بحرقة؟


"ثياب الجنديّ
التي لبستها طيلة عشرين عامًا
عجزت عن إخفاء ظِلّ الشاعر"


    هل الشاعر هنا هزمته الظلال؟ فحتى وهو يُمزّق بزّته العسكرية تذكّر عودته من الموت بقصيدة! قصيدة أظمأت قدميه للعودة للبحر واصطياد سمكة كبيرة كما كان يحلم سنتياغو في رواية الشيخ والبحر! لكنّ العودة مؤجلة ماتزال مؤجلة فثياب الجندي عجزت وظل الشاعر لازال فمه يغتصّ بآثار دم تلكم الثياب!


"أحيانًا أغبط أولئك الكسالى
وهم يسترخون في المقاهي
ويثرثرون بأصوات حرة ولأسباب لا أفهمها، أغبط النار
الشوارع لحظة أن تستيقظ في الشتاء "


ربما كان لابد من مجاراة الانتظار وفتح روزنامة الوقت يومًا بيوم الحفر في أخاديد أسئلة مثل لماذا أنا؟ وكيف تواقح عليّ القدر؟ تحسمها خطوة واحدة تتمثل في العودة والاغتسال بزغاريد النهار وإلقاء مجرد نظرة على أنثى غنّت الليل بأنوثتها! قصيدة الشاعر تُرمم فجوات المنفى بالكلمات وكأنها ترغب في إرباك إيقاع الزمن الذي ورّط الشاعر خلف قناع الجُنديّ المحترق تحت لهيب الشمس !


"اعتمروا الخُوذ
وتنكبوا البنادق؛
خمسُ سنوات
لا أمّي ابتسمت
ولا اخوتي عادوا"


مرة أخرى يرمي القدر بصنّارته أمام ألم الشاعر ويُذكِّره بحقيقة الذاكرة المفتوحة على الزمن المتداعي! إنه في لحظة يراها جيدًا في المرآة تشتد معاناته فالأسباب الغامضة لم تحوله إلى جزار، ولم تُعلِّمه البنادق متى يقتل كل ما تُحرّكه الريح! لقد وضعته الأسباب الغامضة على أرض ملغمة بالكلمات والكلمات تقتل وتُحيي تُوهم صاحبها بالانتصار وهو طريح الهزيمة المرآة لا تُزيّن حقيقته حين تفرّ المرأة من أحضانه في ليلة ممطرة حين تراه القاتل والقتيل في آن !! بعدما أخبرها بضرورة أن يموتا طيّعين مثلما علمته البنادق! بكم تُقاس المسافة بين الخوف والنجاة؟ هل بالقصيدة التي انهمرت عوضًا عن الرصاص من الفوّهة؟ لا حرج على المحاولة محاولة أن نكون ثابتين وإن بدت الأرض رخوة وهشة، حيث تُصر القصيدة على التمسك بحقها في انتزاع ملابس الجندي المغبرّة!

الشاعر “مفتاح العمّاري” تصوير “طه كريو”

     تتجاوز قصيدة مفتاح العمّاري سطحية التربص بنهديّ عذراء بالكاد تُزرر قميصها ومطاردة أثر دم ليلة الزفاف، إنما في قصيدته الأسئلة تُزكم رائحة أنفك ولا ترويها إجابة داخل سياق المنطق! يلتبس على الوعي صداع اللغة المزمن وتجربة المشي حافيًا. وتذكّر أنّا نريد، لا أن يُراد بنا .

 --------- الرابط:  https://tieob.com/archives/56455

محمد عطية محمود: قراءة في ديوان ” السلطانة ”

 

___________________  



أنثى المكان: فاكهة الأساطير في "سلطانة" العمّاري 



سيظل كل عاشق، يقتفي أثر العواصم والنساء والرؤى
العمّاري

تلتحم الصورة الشعرية لدى ” مفتاح العمّاري ” بالصورة السردية/ الدرامية، التي تطرح دلالات موازية في متن نصوصه الشعرية، والتي تعطي للنص الشعري مذاقا خاصًا يشتبك فيه أيضًا المكان كدال؛ سواء أكان ثابتا يتكئ عليه الشاعر، أو متحركا في الفضاء الشعري الذي تخلقه حركة هذه الصورة / الحالة الشعرية التي يتوحد فيها إحساس الشاعر ونبضه مع المكان بمستويات دلالاته التي تتوزع على النصوص لينشر فيها عبير إحساسه، ثم تعود لتلتئم على ارض/ ذات الوطن، كمكان / محبوبة/ معشوقة/ أنثى !! تتجلى فيها السمات الدالة على التوحد مع تلك المفردات.
في ديوانه ” السلطانة ” الصادر في طبعته الأولى عن منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والأعلام بليبيا، لعام 2006/ 2007، يقتفي ” العمّاري” أثر مشواره الشعريّ الطويل المكلل بثمانية دواوين شعرية، أصّل فيها لتجربته الجادة، مرتقيا بأدائه الشعريّ الحسّي، إلى درجة التوحّد بالمكان/ الوطن/ شجرة الحسّ الممتدة والموغلة في أعماق وطن/ أنثى أسطورية يبثها/ يبثه عشقه المبرح، وتباريح غرامه وأنسه، إلى جانب صروف معاناته الحسية المعجونة بهذا العشق/ السفر المتجدد مع الإبداع وآلام النفس المجبولة على تلك المعاناة المحمودة.

بعد العنوان الرحب، الحمّال لأوجه التأويل والدهشة، والعتق، الذي يحمل مضمونا يؤصّل لتجربة العشق لدى الشاعر نحو وطنه/ أنثاه السرمدية.. يتصدر الديوان إهداء لافت، قوامه خمس كلمات دالات؛ إلى حمّالة الرؤى .. ابنتي وعد “، ولعل فيهن ما يكفي من مشاعر الامتداد الممتزجة بحلم الشاعر ذاته الذي يسقطه على غد أيامه/ امتداده في ابنته التي تحمل دلالة اسمها الكثير من التوق إلى ما هو في علم الغيب ” وعد “، بما يشي بالإحساس المضمر في نفس الشاعر، بيقينية المصير الذي يربط الإنسان/ الشاعر بحبال من الدهشة والترقب والتخيل: مما يفتح له أبواب مخيلة إبداعه، اتكاء على هذه اليقينية التي ربما كانت دالة على قدرية الشاعر/ الإنسان.. فنراه يقتحم سيّال أرقه الشعريّ بتلك الكلمات الوامضة، الدالة على الامتزاج بنار الوطن ونعيمه… في مفتتح نص العنوان “السلطانة” الذي يحيلنا مرة أخرى إلى الولوج في عالم العنوان الملغّز:

وجهك رائحة نار/ سفر أغنية تتنفّس وحيدة.
كل تلك الحروب كانت/ لأن وجهك غنيمة نظر،
لأن الله ألقى سماءه في عينيك/ ووطّن ياقوت حكمته في فمك” ص 9

فمن هي تلك السلطانة/ الأنثى – التي القى الله سماءه في عينيها – إلا وطن تجتمع فيه النار، برائحتها الدالة على وجودها، والترحال في أغنية تطبع آثار الوحدة والقلق النازف على روح شاديها الوحيد/ المتوحّد بعشقه .. هذا التوحد الذي يعزي كل الأمور وفعاليات الحياة الى هذا الوجه السرمدي الذي تتكامل به كل الموجودات، وتعيش في ظلّه !!.

ليظل وجهك الوحيد من ينتظره التائهون في نومهم
ويصنع الأطفال من ضحكاته/ مراكب لعب/ يتسرب البخارُ من مسام بهجتها اللامعة ” ص 9.

هي الأنثى في صورة وطن، أو الوطن في صورة أنثى .. أيهما ؟ لا ضير.. تلك التي يتشكل من رحمها كل الموجودات الدالات على نبع لا ينضب، ولا تتوقف سرمديته الشاخصة أمام كل الخطوب، وعلى كل الدروب، ليتمثل في:

وجه شاعر فتيّ يجلس خلف قصيدته
يفقأ صور الأيام وهي تعبر ساكنيها … ” ص 10

الا أنه يعبر كل التضاريس، ويتخطى كل التخوم المرئية لينعزل في صمت، محتفظا بسمات تواجده الحقيقي برغم الخطوب، منهمرا في تعبيرات جلية دالة / غير مجانية ، ليصل إلى أن يحتوي كل المدلولات ليكون :

وجه أمّ تلد المستقبل تحت نخلة الواهب
وجه موسيقى تغسل وحشة الليل ..
وجه صلاة في زنزانة تشظت بين فولاذها أوصاف الشمس” ص 13

حيث يسمو هنا التعبير السرديّ ليتعانق مع هذا الفضاء الشعريّ المتّسع بالرغم من انغلاق المكان ومحدوديته – والذي لا تحدّه هذه الكلمات الوامضة المكثفة، بل تعطيه رحابة المعنى وأصالة التضاريس ، وتاريخها المتنقل بينها ..

طارت الستائر والمخدات والمرايا
وظلّ وجهك يخمش برودة الهواتف / ويذوّب ملح براءته
طار الألف من برج عقربه …/ وضاقت طرابلس بوزر أنوثتها ” ص 16

يبدو هنا الإحساس بالاغتراب، بطيران رموز الاتكاء والراحة في الحياة في مشهد واقعي سحري، يذكرنا بواقعية السرد السحرية، فيما بين سطور القصيدة يكشف لوعته بذاك الشعور بالمرارة المختبئة خلف الضلوع، والمتسربة من بين ثنايا الكلمات. هذا وجد، وهذه براءة، وهذا عشق مبرح، وترانيم تنقلنا إلى أجواء التدله بين الشاعر وأنثى المكان، كما يفيض من مد بحور القصيدة في نص ” اسم الشمس” ذاك الاسم المؤنث، الواهب للحياة، الذي تلتف حوله مادية كل كواكب المجرة، ولكن مجرة الشاعر هنا حسية خالصة ترقى بالنفس لتلاقي معراج نشوتها حتى وان كانت متألمة .. تلهب الخيال وتضرب في أعماق التاريخ، تبحث .. تسرد بوعي شعري، أو تشعر بوعي سرديّ .. تؤرخ شعرا :

ليبو .. /
نقش عتيق في معبد أبيدوس .
قبائل الحلم الأخضر تشيرُ يدُ الوافد
اسم ثريٌّ
يستدرج بوارج الفينيق
ويلهب خيال البرونز في أثينا . ” ص 21

هنا إبحار في عمق الميثولوجي.. عمق الحضارات، وعمق الضوء، ضوء الشمس المفتون باسمها كمركز للكون، ومصدر لدفئه وحرائقه ، ولا يخفى علينا في هذا المقام ولع الإنسان في نفس الشاعر لاستنطاق التاريخ، أو استعطافه واستمالته إلى جانب البحبوحة التي تماهى فيها معنى الأنثى / الوطن في اسم الشمس / ليبيا / الوطن مرة أخرى، فالأنثى موجودة أيضا في مفردة ” قبيلة ” و ” قارة ” وقرص” شمس ” يحصرهما قرنان – كرمز ذكوري – من الدم / الدم ، والولع / المديح ..

أنها ربّة ريح، وأمّ نار
هذه المطروحة كطبق من فاكهة الأساطير ” ص 23

تعود هنا مفردة النار، بدلالاتها الملتهبة لتفرض ذاتها على سطح الفعل الشعريّ، المترع بآمال مرور الشاعر الطازجة نحو برها الآخر دون رادع أو منغص أو مترصد / رقيب ؛ فهي أيضا :

سلة عصافير على ظهر غيمة سخيّة ..
حلقة مفاتيح تلمعُ تحت الماء ” ص 23

تجمع القصيدة هنا بين دلالة الحرية المحتبسة في سلة العصافير، وتضاهيها – بما يحقق التأكيد على المعنى – بحلقة المفاتيح المغمورة اللامعة تحت الماء !! وأي حرية دون فضاء رحب ؟ وما يفيد اللمعان دون غواص ينتشله ؟ ربما كان هذا هو السؤال الذي يطرحه النص !! هنا نرى كيف استطاع الشاعر أن يختزل كلمات تقال في فقرات كاملة، في كلمات معدودة، ولكنها تعطي مذاقا ورديا متفردا، يعكسُ أيضا حالة من المعاناة المختبئة بعيدًا في زوايا النفس العاشقة، لكنها تطلّ منها على استحياء، في حنين معاتب.. يحمل الأمل في من يخترق حجب الغبار ويجليها عن روعة التاريخ/ الزمن؛ ليعانق الحاضر عبير الحضارات التي جعلت من الوطن/ الأنثى، طبقا من فاكهة الأساطير.

فمن يتقدّم .. / ينادي الباعة.
ليقايض ملحا بفضة / وإعجاز عشب له فذاذة سحر
بحصان عربيّ / أو حسناء ترقص ” ص 24

يطفو مذاق الملح، ليعطي للسطور مصداقية الإحساس بالمرارة، مع ظهور إعجاز العشب، التي تؤصل المعنى، كمترادف – مؤكد- كما في سلة العصافير، وتاليها حلقة المفاتيح المفقودة رغم لمعانها، لتطغى على ماهية الحصان العربيّ، والفضة، وعمقها التاريخي والقيمي. هنا تتضافر الصور مع تكاثرها لتعطي هذا الإحساس المختلف الذي يدفع بالنص في اتجاه معاكس تماما من حيث الحالة .. إنما هي إرادة الشاعر وإنسانيته تكاملتا مع شاعريته وفنيته للحصول على المعنى المراد تجذيره بإبراز المعنى المضاد وقسوته، وهي مهارة لا شكّ، تحسب في الميزان الشعري للشاعر المجرب، والمستمر بقطار شعره بصوته المدوي في الآفاق؛ فالوطن مازال يملك كل مقوماته، وأروع ما فيه، كما يملك أملا بعيون عاشقيه .

عندنا قمر / من زخرف الروح ،
وثياب منسوجة من وبر الفصول
عندنا نبال / ورماح لا تجبن ” ص 24

هنا يتعانق الشاعر مع التاريخ ومفرداته من طبيعة راسخة يتلألأ فيها قمر الدجى المنير، وتتعاظم مفردات بداوتها الفطرية المجبولة على البطولة والفداء، الذي تتراقص مدلولاته في فضاء النص الشعري، وهو التاريخ الذي يستمدّ منه الحاضر قوة لا يعينه على حيازتها إلاّ المزيد من العمل على استحضاره واستجلاء قيمته، ونهضته القادمة، ولعلها من مهام المبدع – أيا كان تصنيف إبداعه – الذي يدق الأجراس، ويداوم على طرح الأسئلة.

في ” خماسيات ” يستمر الشاعر في ارتقاء صهوة جواد عشقه النبيل، يعتليها بنزق طفوليّ حاد وفطري لعاشق ملهم أحبّ وطنه، يتقطر الشهد من فيّه، وان جائعا، ويغرق في ثنايا الحلم الورديّ الذي يعكس حالة من الحرمان/ الجوع / التردد / القلق/ الخوف، على هذه الأنثى/ الوطن، التي تتجلى في أبرز صورها من خلال هذه الومضات المتتابعة، والتي تطرح في متن النص علاقة جديدة بين السرد وبين الشعر في ديناميكية تغير وجه العلاقة بين الشاعر وأنثاه/ وطنه، بحيث تأخذ هنا شكل التبتل والخشوع في محراب حب، مع توتر العلاقة النفسية بين الذات وخارجها الواقع تحت تأثير خمر جلالة المعشوقة !!

في أول الأمر تعتعني خمرُ جلالتك
فرفعت يدي بعلوّ/ وبعلوّ أيضا
رفعت أنامل ولهي/ وأيقظت نسغ أنوثتك ” ص 30

تلعب الخمر هنا دورا هاما ودالا على الدخول في مرحلة غيبوبة العشق التي يرتقي فيها المحبّ/ المتصوف في مدارك جلال معشوقته الذي تعانق فيه يده فضاء حكمة عشقه.. تبحر فيها، وتستنيم كي توقظ فعاليات هذه الأنوثة.. فالأمر هنا مختلف دلاليا عن سياق ما سبق؛ حيث تبحر الدلالة في اتجاه عشقي صاف، إلا أنها تصطدم بصخرة عجز العاشق، حينما يزول تأثير خمره / حالة عروجه :

لكنما في آخر الخمر/ تأتأني أمر جلالتك ” ص 32

هنا يلعب الجناس الناقص بين مفردتي ” خمر ” و ” أمر ” دورا هاما في قلب موازين الحالة بين الانطلاق وبين الكمون، كما تلعب المفارقة التي ختم بها النص على فكر الصدمة / الأفاقة / ضياع السكرة وإتيان الفكرة ، ليرصد مرحلة / حالة جديدة من حالات حرمان العاشق المتبتل ، غير القادر على التواصل مع المحبوبة برغم فرط العشق و تغلغله ، فالتأتأة التي تصاحب حالة الارتداد إلى الطفولة الغرة، هي رد فعل نفسيّ لبيان حالة ارتباك النفس، وكمعادل لمفهوم العجز عن الاقتراب من دائرة المحبوبة، أو الغرق فيها .. فهل من سكرة تستمر كي تربط مجالاتنا الشعورية في أعلى مستوياتها ؟! ربما كان سؤلا جديدا من أسئلة الشعر في هذا الدي. لكن فعل التردد والتأتأة المصاحب لنص ” ثلاث مدن ” يعكس – ربما – علاقة أخرى مغايرة لما طرحه الشاعر في خماسيته، ليأتي معانقا المكان/ المدينة/ طرابلس كنسق جغرافي تشاغل تضاريسه في نفس الشاعر، يسقط به إحساسه العام على كتلة الوطن كجزء من كل :

طرابلس :
يا عسلا يتنفس سعيدا بتأتأتي / يا جنوب لغة .. قريبة ثدي
وشقيقة بحر/ تهبك السماء كفّها غيمة رحيمة ” ص 41

هنا تتلاقى المفردات، لتصنع سردا مكثّفا دالا تجتمع فيه ، لتدل على الحالة التي يقع فيها ردّ الفعل على صورة عدم القدرة على الكلام والتلعثم، ليضع إطارا جديدا مغايرا للعلاقة التي تأخذ شكل الأفاقة، وبخلاف السكرة التي غلفت شغاف النص السابق، لتصير العلاقة بين جمادات يؤنسنها النصّ ليعمل على وصل وشائج القربى بين الكائنات من جهة، وبين الإنسان – في مجمل معنى إنسانيته وآدميته – من جهة أخرى؛ فيجتمع العسل ( المؤنسن بسمة إنسانية وهي السعيد )، واللغة (التي تتخذ مكانا جغرافيا وسمتا مغايرًا)، وثدي بما يرمز إلى الحياة والنماء (بخصوصية الأنثى الرمز) ، وبحر ( مؤنسن بالشقيق )، وغيمة (مؤنسنة بالرحيمة) لتتماهى هذه المفردات مع الطبيعة التي تعكس ارتباطا شديدا بينها وبين ما يحاول الشاعر معانقته لأثر المكان على الروح وامتداد تلك الروح في رحم التاريخ، رحم الأنثى الوطن.

وتعطيك الأرض ألوانها / وأعطيك رحلة العاشق
أنت يا برج ماء / ومدار حلم يسافر” ص 41/42

لينتقل العطاء من الطبيعة بفعل الأنسنة الرقيق، بما أن العطاء يتوازى مع الرقة والرهافة، إلى عطاء الشاعر ذاته لمدينته / أنثاه / وطنه الصغير؛ فهو يهبها روحه العاشقة المتلهفة إلى رموزها الحالمة والموازية ملامحها لنفس العطاء؛ فهي ” برج ماء “، وهنا يلتقي المستوى الأفقي للمادي/ الماء، مع المستوى الرأسي لدلالة الارتفاع والسمو والعلو/ البرج، مع النداء الذي يتحرك في الفضاء الشعري لتصنع صورة شعرية متكاملة متينة البناء من تلك الكلمات الثلاث ” أنت، برج، ماء “مع موازاتها بالحلم الذي يحمله الشاعر سمات الأنسنة ليسافر مصاحبا له، وليتماهى الشاعر هنا مع مدار هذا الحلم، أو يصير هو الحلم نفسه الذي يرتحل به ومعه، وهي ” طرابلس ” فرحة التهجي – هنا – في تأتأة طفل يشوبها المرح.

طرابلس: / تأتأة مرحة في فم طفل / رسالة حب تنتقل من يد إلى يد
إشارة نفير ودم جريء بين / فواصل الغزاة ” ص42

كما تنتقل تيمة السفر والترحال، بمفردتها ومعناها الدال، في نص يحمل نفس الاسم ” سفر” أتى به الشاعر ليطلق في فضاء النص باعثا ألق المعنى واتساعه ورحابته؛ فمن خلال اللغة / الموسيقى يأتي السفر؛ ليكون معنويا شفيفا متسقا مع التوجه إلى عدم تحديده أو تعريفه، من خلال ثلاثة مقاطع سرد/ شعرية لاهثة ودالة:

من هذه الموسيقى/ التي يرتفع صداها الحالم
كهدية متواضعة / للمعلقات العظيمة / صنعتُ ربيعا سخيا ” ص 47

فمن الموسيقى كلغة تتناغم مع لغة الكلام / الشعر، الذي يهفو إلى معانقة تراث شعريّ يتمثل في المعلقات كأثر شعريّ لا يزول ذكره، يعود الشاعر ليصنع تواشجا معنويا يتشخصن في ربيع سخيّ، يأمل الشاعر في خلقه وتكوينه حسيا ليكمل الصورة البهية التي اقتحمها الذئب الذي ” صعد لاهثا/ خلف الكلمات البريئة” لتشهد هذه القطعة – موسيقى شعرية إن جاز لنا التعبير- على براعة في إتيان صيغة من صيغ المفارقة اللاذعة. فهل يفجّر النص هنا سؤلا آخر؟ أم أننا بصدد إشارة دالة؟! بينما تعود في المقطع التالي صورة المرأة/ المدينة؛ لتطلّ من جديد، تمثل ركنا من صورة السفر من خلال بحور لغة ” تهطل من حلم الشوارع / صنعت ريحا جريئة / لكي أختفي بين مدينتين / بين امرأتين / من ملح وغبار ” ص 48 وربما لاح لنا إحساس داخلي بأن هذه النهاية لتلك الومضة هي الأنسب؛ لأن ما تلاها قد تم طرحه من حلال سياق ما قد سبقها، فأصبح الكلام التالي من قبيل لزوم ما لا يلزم، في قوله:

وكنت أبعد من أثر
وأخفّ من خيال” ص 48

كما تكتسب اللغة في المقطع الثالث صفة الحارة، بانتقالها إلى ساحة الوغى والقتال؛ فاللغة هنا وطن غير عاديّ/ أنثى غير عادية، فهي في ضمير النص/ الومضة ” التي ليست وطنا وكفى ” ص 49 وما بين ” المرأتين/ المدينتين ” يهاجر فم الشاعر، كناية عن الكلام، ليرتبط الفم بالشعر توحّدا، وبالسفر بين متاهات الكلام، دروب عشق المدينة / الأنثى / الوطن، سفرا يعانق الملح والتراب والفضة، أملا في جني ثمرة من ثمار فاكهة الأساطير.

______________  

رابط المقاربةhttps://atlasjournal.wordpress.com/2020/08/11/%D8%A3%D9%86%D8%AB%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%81%D8%A7%D9%83%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86%D8%A9/

نقلا عن مجلة: أطلس 


د. خالد عبد السالم خليفة: بنية الإيقاع في ديوان ديك الجن الطرابليس لمفتاح العماري ( مجلة ابن منظور. العدد الثالث )

 



___________________________   

رابط العدد: https://drive.google.com/file/d/1D5e0P-q_0MVmZFVhcGGNG4HiDORep40X/view?fbclid=IwAR0H-miLZSw6GcvA8V7x2YGZitsYzn0zyt5wMdXYQ5H7lzgHs3vPrybh9Tw   
___________________________  

بنية الإيقاع في ديوان ديك الجن الطرابليس لمفتاح العماري . انظر الفهرس:  ص ( 262)

أ. عيادة خليفة محمد: حركة ابتناء الصورة الليلية في شعر مفتاح العماري

 

الملخص                               

يتناول هذا البحث بالتحليل موضوع حركة إبتناء الصورة الشعرية (الليلية) في النص الشعري الحديث، انطلاقا من الخيال الذي يعد اللبنة الأولى في بناء النص الشعري الحديث، من خلال التفاعل بين عناصره المتعددة. إذ يمثل الخيال الشعري نقطة تحول جذري في مسارات النص، كونه يتعدى حدود الواقع لينقل بالمتلقي عبر مسارات الزمن في رحلة بحث عن اللاواقع الذي نسجه خيال المبدع وهو ما يجعل النص الشعري مبنيا على علائق تفاعلية بين الأنا والأخر. يعرض البحث حركة ابتناء الصور الليلية في نتاجات الشاعر مفتاح العماري، كونها مرتكزة على الخيال الذي يبني علائق تفاعلية متداخلة في نصوصه الشعرية. يبدأ البحث بعرض مختصر لماهية الصورة الشعرية بشكلها العام، ومن ثم يعرض بالتفصيل الصورة الليلية في القصيدة العمارية، وكيف يسهم الخيال في ابتنائها، ورسم معالمها وتحديد سماتها، وكشف العلائق بين الواقع واللاواقع وكيفية تداخلهما.

___________  

رابط 1   https://afaqjournal.ly/index.php/aaj/article/view/15

رابط 2  https://afaqjournal.ly/index.php/aaj/article/view/15/14

تحميل ديوان ثكنات- نشر ألكتروني : موقع بلد الطيوب *

 

الرابط : https://www.4shared.com/office/fizZntTJba/Thoknat.html   



__________  

مفتاح العماري – ثكنات/ شعر/ 2015

د. عبد الحفيظ العابد: السرد غير المباشر في قصيدة “حكمة الأعمى” لمفتاح العماري *

 




      يتيح القص غير المباشر في هذا النمط من القصائد للسارد الشعري أنْ يتخفّى خلف أقوال الشخصيّات، لكن وبالرغم من غيابه فإنّ نقل هاته الأقوال يستدعي حضوره، يبدو ذلك بالقياس إلى الرواية، فالرواية التي لا يُمثَّل فيها أيّ راوٍ تستدعي صورة مؤلّف خفيّ في الكواليس، يتخذ صورة مخرج، أو محرّك للأحداث( )، وبما أنّ أقوال الشخصيّة تنقل في هذا الحكي الشعري على لسان السارد، فإنّ ذلك يتيح للنص الشعري أنّ يتحرّر من أحادية الصوت، ليكون القارئ أمام ثنائيّة الصوت، أو الأصوات المتعدّدة؛ ذلك أنّ السارد وهو ينقل أقوال الشخصيّة يمزجها بأقواله، أو بأقوال شخصيّات أخرى، وفي هذا السياق نقرأ النص التالي:

(حكمة الأعمى(

(1)

وحيدة

أسقط من شرفة الماء

يدثّرني صوتي

قالت: غيمة.

(2)

بغضّ النظر عن المتنبّي

قال شاعر مغرور

أنا

كوكب نفسي.

(3)

العين التي تقترح السواد

تكتشف الخارج

قال الأعمى.

(4)

تنحّيْ قليلاً

أيتها الصور

أريد يدي

أيتها الشوارع

أريد صوتي

قال المتسوّل.

      يشي فعل القول المُثبت في كلّ مقاطع النص بالقص غير المباشر، ويعمل في الوقت نفسه على إبراز التشاكل البنائي المتمثّل في انتظام التعبير البادي في تأخير الفعل (قال) على المقول نفسه المتسم بطابعه الثنائي؛ ذلك أنه يحيل على صوت السارد الشعري والشخصيّات في الآن ذاته، يحدث هذا عندما يتولّى السارد نقل أقوال الشخصيّة في سياق القص، فيتداخل الصوتان، ويغدو الصوت مزدوجًا( )، وهذا يحقّق الحياد اللغوي المنشود الذي تبتعد به القصيدة عن دائرة الغنائية والذاتية عبر مزج صوت الشخصيّات بصوت السارد الشعري الذي لا يحضر بشكل مباشر، لكن أقوال الشخصيّات لا تُقدّم إلا على لسانه.

     تُقرأ ثنائيّة الصوت هاته في ظلّ الرؤية المصاحبة المهيمنة على بنية النص المتسم بتكافؤ الرؤية بين السارد والشخصيّات، هذا التكافؤ أوجد نظامًا بنائيًا منتظماً، فالبرغم من انقسام النص إلى أربعة مقاطع مرقّمة تشبه قصائد قصيرة غير أنها تحكمها بنية واحدة، تتمثّل في السرد بضمير الغائب، وفي تقديم القول على الشخصيّات الأربع: الغيمة والشاعر والأعمى والمتسوّل التي تتسم بتشاكل جزئي؛ ذلك أنّ الغيمة تشذّ عن الشخصيّات الأخرى لكونها لا تحيل على ذات إنسانية، وهو ما يوحي بمجازية القول والغيمة في هذا السرد الشعري المتخيّل، وبالنظر في دلالة هذه المقاطع يمكن الكشف عن البؤرة الدلالية الكامنة في العنوان المتضمّن شخصيّة واحدة من هاته الشخصيّات وهو الأعمى، والعمى تعطيل لحاسة البصر، وكأنّ النص يقوم على ما يمكن تسميته بشعرية الحواس، فالشخصيّات تشترك في فعل القول الذي يفعّل الأذن، وهذا يشي بأهميّة الصوت في حياة المتسوّل، والشاعر، والأعمى الذي تغدو أذنه بديلًا عن العين المعطّلة، وفي وجود الغيمة التي تعلن سقوطها عبر صرختها المدوية، وهي بذلك تكتسب سمات سياقيّة من خلال نسبة الصوت إليها تزيل التعارض بينها والشخصيّات الأخرى، من هنا يتبدّى للقارئ دور تكرار فعل القول في انتظام التعبير والدلالة، وهو ما يؤدي إلى خلق نظام داخلي يبرز انتظام النص.

     تحرّرت قصيدة النثر من أحادية الصوت في هذا القص الشعري غير المباشر، فغدت الشخصيّات شريكًا للسارد في الرؤية والأقوال، هذا السارد يؤكّد هويته بخلق هذا العالم الفنّي متخذًا مسافة بينه والكاتب، هاته المسافة تتيح للكاتب أنْ يرى نفسه واحدًا من قارئيه، واحدًا يخلقه لا على صورته، ولا نسخة عنه، وليس مجرّد صوت علني لصوته، ولا إعلانًا لموقفه الأحادي، وعينه الضيّقة، وهذا يشي بأهمية اقتراب قصيدة النثر من مناطق السرد لتنجز خطابها في ظلّ سلطة الرؤية السردية المصاحبة وتعدّد الأصوات الشعرية.

______ 

*نقلا عن صحيفة فبراير

رابط المقاربة:

https://febp.ly/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D9%85%D9%89/