وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 28 يناير 2016

مشيئة الوعل : قصائد زمان .(11)


مفتاح العمّاري




_________________ مشيئة الوعل


منذ زمن قديم
أعني قبل أن نهب الوطن الأسماء والأحلام والحدائق
كنتِ المرأة الوحيدة
التي تهبُ الشاعرَ
الكلمةَ النادرة
وتمنحه الحجرَ الغريبَ
الذي توّه الفلاسفة ،
والقمرَ الجديرَ بالأعياد والسفر .
كنتِ المرأة الوحيدة التي يُقال  :
رحلة العاشق في كهولته ،
فأعطيتُ أجنحتَك بلاغةَ العلوّ
والحلمَ السخيّ الذي يُوصف  :
حظ القبائل الثرية  وغنائم الصيد
وهبة اللون الضائع ،
ومشيئة الوعل .

لكن نظرتكِ قد أنكرت طقسها
ولَمْ تعد تحفل
بسموِّ الطائر  .
كل شيء فيكِ  صار يبدّدُ نفسه
حتى أصابعكِ الطيبة
التي كانت منذ قليل  تحرّكُ الضوءَ والألوان
وتعقدُ العطرَ والعسل
صارت شقيقة حجر ،
ووجهكِ الطفل تغيّر ماؤه
ولم يعد بيننا رسائل أو مواعيد ،
أو مطر ،  لكي نأخذَ المدينةَ في حقائبنا
ونطرد الكبارَ من ألعابنا .
هكذا مضى كلّ شيء
دونما حكايات خجولة .
كأننا خسرنا بعضنا
ولم يعد بيننا ما ينتظر  .
_____ 

الرملة . 5 نوفمبر 1999

الأربعاء، 20 يناير 2016

أمنية *

مفتاح العمّاري

الحلم . بيكاسو

في القرن العاشر قبل الميلاد
 فيما كنت اغنّي خلف قطيعي صنع الفينيقيون سفنا .
كم تمنيت لوكان أبي نجارا عوضا عن قاطع طريق
يتربص للقوافل وينصب الفخاخ لنساء العشيرة 
لو كان صيادا يجوب البحر على الأقل
لكانت أمّي أسعد حظا وهي تشوي سمك المرجان
وربما كانت تجيد القراءة وتربية الزهور .  
كم تمنيت أيضا أن املك أكثر من لغة ووطن وسفينة
عوضا عن الإصغاء لأمّ  تدفن أبناءها .
__ 
مقطع من قصيدة طويلة للشاعر بعنوان : الليبو .

الجمعة، 15 يناير 2016

تكريس الرداءة *

مفتاح العمّاري


ذاكرة الجسد

     إن الإشهارات الأدبية التي تُعني بترويج الكتاب لها فتنتها الخاصة بها . ولعل فعل الإطراء الذي اقترن مديحه برواية ، أحلام مستغانمي ( ذاكرة الجسد )، كان محّرضا عنيفاً لقراءتي ، ولاسيما أن أحد الأصدقاء الشعراء من تونس قد كتب إليّ مصرّحاً دونما غضاضة بأن رواية ذاكرة الجسد ، تعدّ أفضل نص روائي على الإطلاق كُتِب باللغة العربية . وعلى الرغم ما في هذا لرأي من شطط ، إلاّ أنني لم أجد مفراً من مطاردة ذاكرة أحلام مستغانمي بعد أن غدت من بين الروايات الأثيرة لدى معظم المتثقفين العرب .. لها حظوظها الوافرة من الدعاية والتسويق ..  ونالت عن استحقاق - حسب علمي - جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية .
    لكنني وبكل أسف قد خُذلت في هذه الرواية  . فبعد قراءتها ، اكتشفت العديد من المثالب ، تجلّت أولها في العنوان المقترح والذي لم يضف شيئاً لمتنها ، كما أنه لم يفض إلى أي أفق انتظار محتمل داخل سياقاتها السردية .  وقد توزّعت هذه المثالب بين شيطنة السرد عبر جمل مضلّلة ، تحايلت على مخيال القراءة بافتعال ميكانزمات التراكيب الشعرية داخل عالم خامل ،  وبين كولاجات رديئة الصنع تواترت مجتزأة خلال هذيانات رسّام أكتع يعاني حسب مكاشفاته من تمّزقات النفي وخيبات الثائر ، وغيرها من المكابدات التي لم تفلح آلية السرد في تكثيف دلالاتها ..  وجاءت مجرد لغو لا طائل من ورائه . . فكانت تداعيات الثرثرة من أكبر المثالب في ذاكرة الجسد . بيد أن ايهاماتها الملتبسة بمفردات الشعر لم تفلح – رغم طموحها – في إيقاظ الأشياء .. فظلت رميتها طائشة..  تتماهى في تداعياتها دونما استحياء وهي تكشف سجف وزر جليلة عجزت شكلانية لغتها المتذاكية عن تجميل تشوهاتها ومعالجة اعطابها الكثيرة . فجاءت بلاغة المعنى – بادعاء فاضح – مجرد شطحات عشواء . لأن العالم هنا ظلّ محتفظاً بطقسه البارد ، ولم يكثّف على النحو الذي يحتمل إيواء الشعرية ، وأيضا كان الانشغال بالمجانية هو الهاجس . فانصبت السردية على لغة باذخة باللغو مفتونة بنفسها . الأمر الذي بهر الكثيرين ..  وشكّل انجذاباً أعمى لهم،  فتجاوبوا مع مجانية النصّ بمجانية الاحتفاء.
    وهي المجانية نفسها - حين تبلغ أقصى درجات انفعالها -  مجسدة في كلمة الشاعر نزار قباني التي وسمت الغلاف الأخير ، كذلك في تثبيت صورة المؤلفة على الغلافين الأول والثاني . ونحن لا نجد هنا أية غرابة في زمن تحتفي نخبته بتكريس الرداءة .
_________

  * نشرت هذه المقالة قبل خمسة عشر عاما في الصحافة الليبية تحت عنوان ( تكريس الرداءة ) وتناقلتها في حينها بعض المواقع الثقافية على شبكة الانترنت  . فضلا عن أنها قد اندرجت - فيما بعد - من بين مقالات كتابنا ( عتبة لنثر العالم ) الصادر عن مجلة فضاءات الليبية ، سنة 2005 . وقد حفزني لإعادة نشرها الآن ،   ما يثار خلال هذه الأيام في الصحافة العربية - ورقية والكترونية -  من سجال حول روايات مستغانمي ، والتي كما يبدو اهتاجت - في معظمها - كردود فعل إزاء ما كتبه الصحفي المصري : محمود الغيطاني ، في إحدى المطبوعات المصرية ، تحت عنوان ( تكريس للتفاهة ) . 

الخميس، 31 ديسمبر 2015

رواية طائر ازرق نادر يحلق معي

مفتاح العمّاري


أصالة السرد
في سير المقهورين والمنبوذين والمهمّشين

      مع رواية " طائر ازرق نادر يحلق معي " للروائي  المغربي : يوسف فاضل  نجد أنفسنا إزاء مشروع روائي أصيل – لا أبالغ إذا قلت - انه يترسخ بفرادة نوعية داخل مدونة السرد العربي والعالمي . لعل الإنصاف هنا ، يقتضي التنويه بعديد الفضائل لهكذا تجربة ، كلما كانت القراءة أكثر رصانة واجتهادا ، وتمعنا في تأملها لخصائص العالم المتخيل في طائر ....  يوسف فاضل  . لأن أصالة الكتابة الإبداعية في هذه الرواية النوعية ، تستمد أولى مقوماتها من كونها تعيد خلق الحكائي العربي واستدراجه إلى هامش (حداثي) معاصر . هذا ما تنشغل به قوانين السرد في الجملة الروائية ، والتي يمكن ملاحظتها أكثر وضوحا في الأجزاء التي أسند حكْيها في النص للكلبة هندة ، وبابا علي ، وبنغازي .   وعلى الرغم من أن السجن هو الخلفية العامة لفضاء هذه الرواية ، والتي توسم بدلالات تتعلق بالسماء المفتوحة كما يشي عنوانها .  لكنها تبدو أكثر توغلا في استنطاق الحضيض ، ونكش عفونته ، لتعرية  الواقع الاجتماعي المفكك والقاسي .من دون أن تتخلّى عن استبطان التحليق كحركة دينامية تشكل الطاقة الداخلية ، بغية استنفار اللغة ومقارعة لحظتها بكل ما يعتمل في - اللحظة ايّاها -  من مفارقات لا إنسانية .  وهي خلافا لتلك الرصانة التي غلّفت  رواية : العتمة الباهرة ، للطاهر بن جلون ، وغيرها من المقترحات التي تمحورت حول سجن تزمامرت ، وسير المسجونين ، جراء ذلك العقاب الذي طال المتورطين في المحاولة الانقلابية ، التي استهدفت الإطاحة بالعرش الملكي ، في مطلع عشرية السبعينيات من القرن العشرين ، باعتبارها أي : طائر أزرق نادر يحلق معي - هي الأخرى تتخذ من مؤسسة السجن محورا أساسيا لوقائعها العنيفة .  غير أن العالم هنا يذهب بعيدا ، متوغلا إلى أقصى حدّ يمكن تخيله في الإغراب ، والذي يحتلّ حيزا واسعا في تنضيد وسكّ عالمه السردي ، وبصورة خاصة إزاء تلك المقاطع أو الأجزاء التي ترويها الكلبة هندة . حيث  يتخلل اللا معقول نسيج الواقع  . كذلك لا تخلو المرويات الأخرى والتي تتقاسم زوايا السرد  ، وقد توزعت - كما أشرت - عبر أصوات متعددة ، من زينة إلى عزيز ، مرورا بختيمة وبنغازي وبابا علي ، الخ . كان المونولوج ، أو الحوار الداخلي لعزيز في معقله على الرغم من طابعه الهذياني ، يكتنز بحمولة شعرية عالية ، في التقاط أصغر التفاصيل ، لتحتل موضوعا ذا شأن ، تلك الدقة والسلاسة في تداعيات التعايش القسري مع الألم والظلمة والعفونة والحشرات ، وقد خضعت لخطاب ساخر وتهكمي ، لتصعيد العبثية في أقصى درجاتها بهيمية وتوحشا . ثمة نقطة أخرى تسجل كمأثرة نوعية في تجربة يوسف فاضل ،ولا سيما في هذه الرواية ، وهو انفتاح النص الروائي على مجموعة من الأنواع الأخرى ، وتذويبها  داخل سيولته ، كالشعر والمسرح والسينما .  بالطبع لا تعد هكذا محاولات جديدة ، غير أن عمل يوسف فاضل يتجلى بطريقة شديدة الاختلاف والمغايرة عن سابقيه ، سيما وانه يخضع هذا الانفتاح في تجربته لعملية صهر واعية بخلطة خامتها ، مدركا مرام إشاراتها . 

    طائر ازرق نادر يحلق معي : رواية يتجلى فيها العشق مخلوطا بالفساد ، والقمع الاجتماعي والسياسي . غير أن التيمة الرئيسة التي تغذي الطاقة الشعرية في هذا السرد ، تظل دائما رهن التحليق ، والعلو والتشبث بالسماء إلى درجة التلاشي في سديمها .
   أشير أيضاً إلى أن هذه الرواية قد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر للرواية العربية . كنت قد قرأتها في حينها - قبل الإعلان عن الرواية الفائزة - ليس بدافع تأثير إعلاني يتعلق بترشيحها للجائزة ، إنما لأنني كنت على دراية بالإمكانات الجمالية لهذا الروائي ، إذ واتتني السوانح قبلُ ، واطلعت ليوسف فاضل ، على بعض من منجزه الإبداعي في القصة والرواية ، وكنت أحدس على نحو ما بأصالته وفرادته التجريبية ، فضلا عن اقتداره ووعيه لمفاهيم السرد  ، وصناعته الروائية  التي تجعل منه ساردا استثنائيا . ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأنه يعد من المؤسسين لفن كتابة رواية جديدة في المغرب . حينذاك ، وعلى الرغم من احتفائي برواية سعداوي ( فرانكشتاين في بغداد ) ، كنت في دخيلة نفسي متعاطفا مع : طائر ازرق نادر يحلق معي  ، والتي أعيد قراءتها الآن ، ليس لتجديد متعة القراءة وحسب ، بل للقفز - خارج حدود الدهشة الأولى - .لأن هذا المتن الذي تؤرخ مخيلته لسير المقهورين والمهمشين والمنبوذين في جزء حيوي من هذا العالم ، يعد مدرسة جديدة في الرواية المغاربية .  فإذا كان نجيب محفوظ قد توغل في حواري القاهرة وأزقتها ، واستأنس  حنا مينة  بحكايات البحر في طرطوس ، وارتكن إبراهيم الكوني لتأويل الصحراء ، فان سيمياء : يوسف فاضل ، حين تغوص في تاريخ المقهورين ، إنما هي بالدرجة الأولى تؤصل نفسها ، حين تتخذ من خصائص الحكاية أولى العتبات لوضع ذلك النسق المتعلق بالمهمشين ضمن إطاره المعرفي . هذا ما تشي به تلك العبارات المقطرة بكثافة شديدة الاختزال ، خلل دينامية السرد ، والتي تنوّعت بين العربية الحية ، والدارجة ، مع تطعيمها أحيانا بمفردات من لغة الأمازيغ ( الشلوح ) . وكقارئ ، أعترف بتجديد متعة القراءة واكتشاف المزيد من خبايا المقروء . مع ملاحظة أن هذا الكلام لا يندرج باعتباره نقدا أو تقييما ، إنما حاولت : صياغة انطباعي ، بهيئة ملاحظات على هامش صفحات هذه الرواية ، تحمل وجهة نظري كقارئ . هذا كل شيء .
____________

أدرجت هذه الملاحظات في التاريخ نفسه ، بصفحتي في موقع : رفّي لمتعة القراءة تحت امضاء <   alammary19عبدالسلام  > .  

الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

رواية (الآخرون) لحسونة المصباحي

مفتاح العمّاري


الآخرون *


      لا يعدّ اهتياج البذاءة والإباحية في نصوص أدبية أو شبه أدبية ، موضوعاً جديداً . فثمة العديد من الإشارات في التراث الأدبي العربي قد تمحورتْ تحديداً حول موضوعة المجون . ولعّل ديوان الشعر يشي بِحَيَّزٍ وافر لا سيما في خمريات ( أبي نواس )، والتي مهما تواتر حولها من نقد هجّاء وساخط يظلّ الجوهريّ فيها متحّصناً بكونه من سلالة أدب رفيع وراسخ ، كَفُلَتْ له أصالة إعجازه وصناعته المكينة أن يحتلّ حيّزاً مرموقا في مدوّنة الشَّعر العربي .
   في مطلع عشرية الثمانينيات من القرن الماضي ، هيّجتْ روايةُ ( الخبز الحافي ) للكاتب المغربي ( محمد شكري ) زوبعةً شديدة الخصوبة ، في الصحافة الأدبية ، وغير الأدبية .. تمركزت حول مضانّها العارية ، وصورها الفاضحة ، خاصة بعد أن خضع متنها للمنع والمصادرة ، وهي لهبة تضفيها قرارات المنع ، حين تؤدّي إلى نتائج عكسية : أهمها أن يحظى العمل المصادر بترويج إضافي وشهرة متسارعة . حيث قُدَّر للخبز الحافي أن تحوز على انتشار متزايد لم تنله روايات نجيب محفوظ . ففي فترة قصيرة تعاظم شأنها وتضاعف ريعها بعد أن تلقفتها دور النشر وآلة المترجمين الذين نقلوها إلى العديد من اللغات الأجنبية . ومحمد شكري كاتبٌ عصاميٌّ شرس ، حاول ببساطة فادحة أن يكتب نفسه . فكانت سيرته الشخصية ، بكل ما تنطوي عليه من تكوّمات سريّة ، وبذاءات فجّة ، ووقائع فاضحة ، هي المادة الثريةُ في نسيج خبزه الحافي . وقتذاك وصلتني نسخةٌ طازجة ، تكرّم بإرسالها من المغرب الصديق الكاتب ( بشير القمري ).. فقرأتها بشغف خاص لم يلبث أن فَتُر على مشارف الصفحة العاشرة .. حين ألفيتني إزاء مادة خام ، تتلخّص في حشد من المكابدات الآسية التي حفرت براثنها دروباً دامية وتمزّقات عنيفة في ذاكرة وجسد شخصية مطحونة اجتماعياً ، خضعت رغماً عنها لاستلابات الجنس والعنف الوحشي . وقاست أصناف البؤس والجوع ، ومرارة الفقد والتشرّد . وعلى الرغم من أن الراوي يمتلك شجاعة نادرة للإفشاء وهتك السرّ ، إلاّ أنّ المتن في مجمله ظلّ محض حكاية وحشية ، تشبه الكثير من الحكايات الشعبية التي تنتجها كُلّ يوم أحزمة الفقر ، في الأحياء والحارات البائسة ، وربما نعثر دون عناء  على عشرات الوقائع التي تفوقها ضراوة وعنفاً، لأنّها وببساطة شديدة الوضوح تفتقر إلى لغة السرد الروائي ، فاللغة وحدها هي التي تفعل سحرها في نسيج الكلمات ، لتنفخ الروح في الجسد ، وتكفل له الخصائص التي تهبهُ صفة نصًّ يسهمُ في بناء الرواية لا هدمها ، من هُنَا تعدُّ الخبز الحافي حسب قراءتي فعلَ تقويض لنفسها ، لأنّها لم تتجاوز حّيزها الشفويّ الذي ظلّ عالقاً بها .. مما جعلها أقلّ محدودية وطموحاً في أن تصيبنا بأيّة حساسية شعرية ، وسيغدو تعاطفنا ضعيفاً حيال تلك الكلمات الخليعة التي تمزّقت دونما هوادة على حبل الغسيل .. وليس مع نصًّ أدبيّ كان يفترض أن يمغنطنا بحساسية الحلم والمعرفة والرؤيا كمشيئات ضرورية ، تتضافر جميعاً لخلق عالم فنيّ حيّ ، ذلك لأن الخلاعة وحدها لا تصلح بأي حال من الأحوال أن تكون أدباً جميلاً ، وأن أية كائنات من هذا الصنف لا تختلف في أكثر مستوياتها براءة عن بيت صغير للدعارة يضجُّ بعشرات الحكايات المحزنة . غير أن البعض من صنّاع هذا الخزف ، قد استمرأ – كما يبدو – وبشهية ماكرة تكريس لعبة المجون ، على نحو لا يخلو من الخداع والتضليل ، ولا سيما لدى الفرانكفونيين العرب الذين وجدوا في سحر الشرق ضالتهم الأثيرة لاستدراج شهيّة ( الآخر ) الغرب ، المفتون بغرائبية ألف ليلة وليلة ، كطريق ممهّدة للشهرة والانتشار وصيد الجوائز العالمية ، فدأبوا ينقّبون بأدوات مزيّفة في حفريات الفلكلور الديني ، والشعبي بهوس شديد التهتّك والغرابة . وهكذا شهد الربع الأخير من القرن العشرين فصولاً أكثر إثارة من مخيّلة ( شهرزاد ) .. تجسَّدُ شرق العنف والجريمة والذكورة الموهومة . من هُنَا كان الاحتفاء برواية ( ليلة القدر ) للطاهر بن جلّون الذي عرف جيداً كيف يستدرك بؤس الخبز الحافي .. ليقدَّم صناعة روائية متذاكية ، حرّية باقتفاء براعة ( ميلان كونديرا ) في اللعب بآلية السرد وتصعيد شعرية الكلمات ،من دون أية غضاضة في خيانة الحقيقة ،وسلخ جلدها جهاراً نهاراً ، على الرغم من أن أول عبارة دشّنت هذا المتن  كانت تقول : ( ما يهمّ هو الحقيقة ) .
  طاهر بن جلّون قدّم في ( ليلة القدر ) فانتازيا مذهلة ، حين نكش دُمَّلَ الذاكرة ، وكشف كل شيء يمكنه أن يتناغم مع قراءة الآخر ، إذ كان خزّافاً ماهراً لصور الشذوذ الجنسي والجريمة والخصاء ، وإيواء التيه في مجاهل مفازة عربية معتمة يقودها فكرٌ غامض ، بمشيئة عمياء ، وبالتالي لم نفاجأ كثيراً حين اصطاد بشباك مغشوشة جائزة جونكور . وقبل أن نتوقف إزاء رواية ( الآخرون ) للعربي التونسيّ حسونة المصباحي ، نشير أولاً إلى مقولة رامبو : (ضرورة تغيير الحياة  ) . فمن (شارلفيل ) إلى (عدن ) آثر الشاعر المشّاء ، أن يصّوب عقرب بوصلته باتّجاه الشرق / شرق الشعر والحكمة والمعرفة .. شرق الحضارات العتيقة والأنبياء ، شرق ابن خلدون والتوحيدي والمعرّي والحلاج وابن عربي ، فعبر الحلم الذي صنو الرائي ( الشاعر والرحّالة ) كان لابُدّ أن تتضافر مشيئة الفعل ومشيئة الرؤيا ، حتى لا تغدو الكلمات مجرد لغو ، فثمة بون شاسع بين اللغو واللغة ، اللغة التي هي حسب تعبير (رامبو ) : الفكر الذي يشدُّ الفكر ويحتذ به . لكن خلافاً لذلك تجزم ثرثرة (الآخرون) بأن الشرق مقبرةٌ للأحياء . حيث يتاح لنا التعّرف على رهط من المثقفين الخائبين .. وقد تجسّدوا بهيئة التابع ( شانسو ) المفتون إلى حدّ الهوس بأوهام فارسه المبجّل ( دون كيشوت ) ، دون كيشوت المثقف والمناضل الطبقي الذي تخلّى عن زيّ فرسان العصور الوسطى ، لينتحل دور مهرّج تنكّر بلحية ( ماركس ) أو قبّعة ( لينين ) أو بيريه ( جيفارا ) .. في مرحلة عربية خانقة ، ضجّ فيها رواق الانتلجنسيا بانصاف مثقفين مهذارين ، يسعون إلى ضرورة تغيير العالم حسب مقولة ماركس.. واثقين إلى حد اليقين بانتصار الفلاحين وصعود البروليتاريا في مدن عربية هي مجرد سوبر ماركات وفنادق فارهة ، ومنتجعات فاخرة للخدمات السياحية ، بحيث لم تتعد علاقة هكذا مثقف حدود الصرعة التي تنتهي إلى فاجعة صادمة إزاء وهم التغيير، أو تبديل العالم . لهذا تشبّث بعضهم في نهاية المطاف بميراث بائس من سيرة رامبو .. فلم يغنموا سوى بضعة سراويل مثقوبة .. وأحذية ثرثارة ، لا تجيد غير التسكع بين الحانات والمواخير والمقاهي . وعلى هدي المشاء رامبو يحزم بطل ( الآخرون ) حقيبته مقترحاً الرحيل باتجاه الشرق . ففي سنة 1973 والأمة العربية تخوض منعطفاً خطيراً في صراعها مع العدو الصهيوني يحطّ صاحبنا الرحال في طرابلس الغرب، كمحطة أولى باتجاه المغامرة والاكتشاف ، وعبر صفحتين من الهجاء المقيت يخلص الانطباع العابر بأنه ما من شيء في طرابلس يثير شهية الرحالة . " لا رائحة للأنثى حتى لو كانت صبية في العاشرة من عمرها.. اشتعل حنيني إلى بارات تونس ، وإلى أغاني السكارى أواخر الليل إلى الكلمات البذيئة التي تطلقها مومسات باب البحر " هكذا يقول المشّاء الذي يقرّر على الفور السفر إلى دمشق ليفاجأ مرة أخرى بأن لا سحر في دمشق يثير مخيّلة القصيدة .. حين يكتشف مدينة كئيبة تختنق بالمخبرين .  هناك يلتقي بطالب مغربي ، فيكاشفه بحقيقة صادمة مفادها (  أن هذا الشرق يا عزيزي مقبرةٌ هائلة للأحياء ) يقول الطالب في الرواية ،  فيفرّ صاحبنا بجلده إلى بغداد عاصمة الحضارات العتيقة ، غير أنه ما يلبث أن يجد بغداد أكثر ضراوة ورعباً من دمشق ، فيتدبّر بمشقة ثمن تذكرة العودة إلى تونس ليسرد على أصدقائه وقائع رحلته الفاشلة إلى الشرق ، ثم يلوذ بمدينة بنزرت حيث يتاح للراوي أن يسرد وقائع أيامه في بنزرت ، " أرتاد البارات المعتمة المحاذية للميناء ، وألعب الورق مع البحارة والعتّالين أمثالي وأراود النّساء في سوق الخضر ونادراً ما أعود من صيدي خائباً " غير أن تونس لم تحتف بعودة ابنها الضال ، الذي اكتشف بمرارة أن جلّ رهطه رهن الاعتقال ، فيراوده شعور بالذنب أن يلهو بين البارات وأحضان العشيقات ، بينما أصدقاؤه يقاسون عذابات الزنازين فيقّرر أن يكتب منشوراً سرياً ضدّ سياسة بورقيبة. ينتج عنه اعتقاله في اليوم التالي ، ليحوز على هبة العقاب المقّدس .. لكنه ما أن يقضي بضعة أشهر في السجن حتى يفرج عنه بقرار من وزارة الداخلية بمناسبة عيد الجمهورية . بعد الخروج من ظلمة الزنزانة يذهب في اليوم ذاته إلى شاطئ البحر ويمكث هناك حتى طلوع الفجر . ويقول موثّقاً هذه اللحظة : " أبداً لن ألمس المعنى الحقيقي للحرية مثلما لمسته تلك الليلة وأنا وحيد أمام البحر " وكأنه يسوق هذه المحرضات النفسية كدافع عنيف لهجرة وطنه الأصلي والفرار بجلده إلى الغرب . حيث الآخرون من مثقّفي الشتات سيشكلّون مادة غنية فيما تبقي من رحلة سانشو .
   ( الآخرون ) تضّم حشداً هائلاً من الشخصيات التائهة والأحلام الخائبة . وتمعن في سرد سير مثقفي الشتات  بآلية من المفاصل والمقطّعات التي تّصاغ بلغة بائسة بلاغياً ، ومخيلة مريضة خضعت خلالها جميع الشخصيات المقترحة لإساءة بالغة القساوة . إذ كان من الممكن للقاصة والأديبة اللبنانية ( رنا )  .. وللسينمائي العراقي ( سامي شاهين ) والشاعر التونسي (خالد ) أن ينعموا جميعاً بشاعرية حارة لو توفّرالحّد الأدنى من خصائص السرد الروائي . ألا أن تماهيات ( الآخرون ) بتجارب خليعة جعلتها أكثر استئناساً بتكريس البذاءات وكأنها بالنسبة لها تمّثل ارتياحات نزوية وهي تمعن دون غضاضة في وصف البارات والاهتياجات الجنسية وتعدّد وظائف المراحيض ومزاياها التي تصلح لمآرب شتى كالنوم والقراءة والاستجمام . وغالباً ما يخضع العالم الكلاّني هنا إلى تنميط سرديّ في غاية السذاجة حين يلتقي صديقان ويدخلان الحانة ليعبّان بِنَهمٍ قناني البيرة .
       إذا كانت ( الآخرون ) تسعى إلى  مديح الكأس والجسد الشهويّ وتجسيد تراجيديا مثقفي الشتات .. إلا أنها في حقيقة الأمر قد كشفت عن عجزها الخاص بها .. كعمل فقير يحملُ خصائص تدميره وفنائه . لأنه بغضّ النظر عن عباراتها التهكمية  ومقولاتها الهجاءة .. كذلك بغض النظر عن هذياناتها ووساوسها الفارطة بالتهتك والمجون الذي لا يخضع لأي نسق فني يمكنه أن يلبيّ متطلّبات السرد  . بغض النظر أيضاً عن أية تناصات قد تُحيلنا إلى ( هنري ميللر ) و ( جان جينيه).
يمكننا القول وبإيجاز شديد الاقتضاب بأن رواية ( الآخرون ) لم تبتعد  سوى خطوة واحدة عن عتبة ( الخبز الحافي )  .
 ذلك لأن ظهور الرواية قد اكتسب صعوده الراسخ من تحوّلات اللغة . حسب وجهة نظر باختين . اللغة وحدها هي جوهر الأدب والكائن الحيّ في الكتابة الروائية . وليست محض أداة أو وسيلة نقل تتكفّل بحمولة المعني . بل هي نسيج فنيّ ذو طاقة شعرية هائلة ، ومخّيلة جموح تمتصّ خلاصة المحيط لتعيد تشكّلاتها وفق تناميها الخاص بها . ومن ثم فأن أية محاولة مختلّة للسرد ستسهم حتماً في وأد الرواية وهدم نسيجها . السرد كإضافة جوهرية للحياة وليس تكرارا مُملا للوقائع والأحداث .
¨        
*من مقالات كتابنا : عتبة لنثر العالم .




شجرالكلام: عبدالسلام العجيلي

مفتاح العمّاري



كلام في شجر الكلام

" الأطفال
سحبوا ..
طائراتهم الورقية
تركوا ..
السماء شاحبة
لهدير  ..
بلا معنى ." (1)

        في هذا القول يتجلّى الإيمان بجدوى الشعر الذي هو حسب تعبير الشاعر الليبي : عبد السلام العجيلي :  سفرٌ رمادي يترصّد الحروف ويخفي شجر الغيم . وفي هذا القول أيضاً ، الذي اقتطفناه من شجر الكلام ، الديوان الشعري الأول للشاعر ، إضافة حقيقية لها نكهتها الخاصة بها ، تُكسب تجربة قصيدة النثر في ليبيا طموحاً متزايداً لارتياد مناطق جديدة، أكثر معرفة وتماسكاً ، ولا سيما أن القصيدة هنا لا تُخفي انحيازها الجميل إلى مكابدة الكلام ، كأنها تستمرئ تلخيص الألم الإنساني في احتفال جنائزي يعيد إنتاج أساه الشفيف بعبارات مكثّفة .
    احتفال بروح الشعر وكيان الشاعر مندغماً بذلك الكائن الخفي والمدهش : (الخيال ) كوهم ممكن التحّقق ، يلتبس دائماً بسموّه ، حيث لابدّ لنا كقراء أن نؤخذ بهذا العلّو الساحر ، مستسلمين لِلَذاذة سلطته ، ومؤمنين في الوقت ذاته بضرورته في لحظتنا الراهنة .. ولحظتنا المحلوم بها .. لنسافر عبر تجلياته الصوفية التي هي فعل صلاة .. من أجل تطهير ذواتنا من تشوّهات عالمها ، بكل ما فيه من فجائع وهزائم وخيبات .. كذلك من أجل الانتصار على مشيئة الأذى ، مقتفين إشارات القصيدة وما تفضي إليه من تهيؤات محتملة تحلّق دائماً صوب فضاءات أخرى أكثر طمأنينة وجمالاً :  دائماً الحلم دليلنا ، هذا ما تشي به قصيدة الشاعر عبد السلام العجيلي ، أو هذا ما تبدّى  في " شجر الكلام " هذه المجموعة الشعرية ، التي تصعّد سحر الكلمة برافد نقدي له حسّه اللمّاح في معرفة عالمه .. مهتدياً بحدس القصيدة وحدها ، ليمتعنا .. ويوقظ فينا روح الشعر ، لأنه فعلاً قد امتلك مفاتيح خزانة الروح واكتشف السّر  .. محققا باقتدار مكين إضافة جديدة لنثر القصيدة ، ومن ثم إضافة للحياة .
____ 
كتبت هذه الكلمة احتفاء بإصدار المجموعة الشعرية ( شجر الكلام ) 2001 .

(1)مقطع من شجر الكلام .

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

أرض الحليب. قصائد زمان ( 10 )

                                                                                                                        مفتاح العمّاري



أرض الحليب


       تعلّمتُ الأسماءَ ،
  قلتُ بلادي
شكّلتُ من أحرفها منازلَ حُلمي
وحفرتُ قريباً من سرّتِها
بئرَ ألعابي .
وحين هتفتُ مزهواً بحليبِ يديها
صرتُ بعيداً
تشردني أسبابي .
 فدنوت بأصابع شفتها العزلة
لأرمم ضحكتها بمآثر روحي
رأيت بصّاصين
يحيطون حبر هدوئي .

صرختُ :
 بلادي
فأنكرتْ صوتي .
كأنّه من حجرٍ مهجورٍ قُدَّ صوتي
وصداهُ تيهٌ يتشظّى وحيداً في غربته
ويقترف غموضاً مهووساً بمرابض أُخرى
لا أفهمها .
فتركتُ على الرملِ كلّ مفاتيحي
وأهملتُ مراتعَ جسدي
وتعاليمَ كتابي
وقلتُ :
إن يكن قد تجعّد وجهُ ظلّي
وذبلتْ نوّارةُ قميصي
واحدودب ظهرُ بابي
يكفي أنتٍ أيّتًها السماويةُ ارضُ الحليبِ
أنت أمّي الصغيرة
وأنا الطفلُ الذي يرقص الصبح
على مخدّته
أنثرُ الشموسَ في ليلِ حمّامكِ
وأغنّي
أنتِ بلادي .
______
سواني بني آدم 21 أكتوبر 1995
*من قصائد المجموعة الشعرية : رحلة الشنفرى .



وحشة. قصائد زمان ( 9 )

مفتاح العمّاري



وحشة

حين أهمله الأهلُ

وغادره صخبُ الأحبابْ

ما أوحش مفتاحي

قالَ البابْ .


___________________
*طرابلس ديسمبر 1997