وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الجمعة، 28 أغسطس 2015

سيرة العطب ( 1 )

مفتاح العمّاري

سيرة العطب


      هذا الكهلُ الأشيبُ هو الجنديّ الذي سأحدثك عنه أيتّها الأميرٌّة الصاخبةُ بغبارها البارق . دعيه يهجع قليلاً قريباً من أنفاسك ، راقداً بين حواسّك كثقل من الموسيقي الناعمة ، حاراً يسرى بعذوبة عبر مسامك موغلاً في السرد الثمل  ،  إلى الحّد الذي يجعلك تكذّبين لوامسك الفاغرة وتهذين بوجود شاخص لا غبار عليه ،  تتحطّمُ فوق سّدته أسئلة اللهفة حيث الثياب المنيعة تنحلٌّ بطاعة عمياء ، وتستسلمٌ أٌقفالٌ الكشف مأهولة بالإعتاق ..  لا إرادة لها سوى أن تكون دونما ريبٍ جديرة بالعطب .
     هذا هو الجندي : تائها بين أو شامه العربيدة .. خذيه برفق .. فهو يكذب أحيانا ويعبثُ بهروبه الغامض .. متسكّعاً بين شوارع النثر ، يشطرٌ الوهم غائباً عن ذويه /  مٌهملاً نسله الرائع / متخّطياً بثبات قبائل لغوٍ صلبة ، ومومياءات ثرثارة تتآمرُ على سفك عزلته الوضيئة / عنيداً كعادته يقضمُ اللذاذة بأسنانٍ شرهةٍ تأكل روح خالقها . فهنيئا لكِ بهذا الباسل الطيب  ، العّراف الكسول ، الذي ينام  بعد الأرض متحّرراً من أعبائه ، سريرٌه الخيال ، وسريرته الرؤى .. كل ليلة قصيدة أخرى .
___

طرابلس . يناير 1993

الخميس، 27 أغسطس 2015

الأذن تعشق

مفتاح العمّاري

قبل العين ..



       إن البحث عن مفردة الحياة ، هو مبعث التخيّلات التي يلحقها الشعراء بالعالم حيث الروح النهمة إلى كل ما هو أكثر انكشافاً وتبسّطاً ، ليضفي على لحظته ارتياحات فخورة ، ما تلبث أن تسترد طاقتها من الشغف والتطلع والحلم  والسفر والحدس . لأن طريق أسئلة القصيدة هي دائما رحلة كشف تتوخّى إضافة سامقة للحياة لا انعكاسا . و على الرغم من ظلمة المجاهل القاتمة ، تقترح الكتابة الشعرية – دونما توقف -  ألوانا مضاءة بصور تؤثثها ظلال المعنى ، فللعين مشيئتها وللأذن أيضاً .
      ولأنّ الأذن ربّة صوت وملكة نغم ، فهي تعشق قبل العين أحيانا .. لذا كان الأعمى في توحّده يكتشف حكمة السواد ، ويرسم الخفاء مضاء بطاقة الصوت ، حيث  يكون القاتم عبئا يتعذّر إيواءه في كنف الأذن قارئة الصمت ونقيضه .  لذا علينا أن نهب الإيقاع حقّه في صقل الرؤى ، أسوة بحظوظ اللون وسمو صفاته ، مع تلطّف سخيّ يتيح مسافة للعطر وأخرى لعذوبة النار وضراوتها . هذا الكلام ذو السطح المتخلخل – كما يبدو – ليس مجرد خاطرة فاضت عن مشاعر خالقها ، إنمّا هو إشارة وقف إزاء ما يساق من احتفاء بالرسم على حساب الصوت  ، مانحا الحظوة للتشكيل الشعري كسمة بصرية أمست تعلن عن طغيانها النظري ، لكأنها تزعم وحدها التفرد باحتكار بلاغة المعنى وتكثيفه في مجازات حسيّة ومعنوية ، أو كأن الجمال في أبهى تجلّياته محض صور ، تهيمن عليها العين وحدها ، من دون أن يكون لبقية الحواس أيما شراكة في نسيج مشهدها  . وهنا يكمن خلل العديد من وجهات النظر التي تغفل أن الحياة صوت أيضا ، وأن قصيدة النثر مهما توغّلت في نحت لحظتها ستظلّ بلا نبض حين تتجاهل نصف حقيقتها .. فالموسيقى وحدها كمحض شكل خالص تمثّل أقصى طموح للفن ، وإنه ما من شيء في هذا الكون يقع خارج الموسيقى . ولأن الأشياء تمتحّ روحها من نقائضها فما جدوى قصيدة النثر حين تكون خرساء بلا رنيم .          





الاثنين، 24 أغسطس 2015

عطر

مفتاح العمّاري


مقبرة الزهور




أن ترى نفسكَ  أكثر من حكايةٍ في رفّ من قناني عطر فارغة 
أن تكبرَ دون أن تغادر عاداتك السيئة   
حيث مَا مِن كلمات غير ذاكرة الروائح  
لهذا تحوّل احد رفوف مكتبتي إلى مقبرةٍ صغيرة
أعني الفوارغ من قناني العطر
التي أصفّها بقداسة أنيقة كجثامين لملايين الأزهار الميتة .
وفاء لرائحة صلاة ناعمة : قُبلة مسروقة  في مصعد كهربائي
للقاء متأخر بين عاشقين في مقهى الصفوة
صلاة غائب :  
      إكراما لقبر صغير من بلّور ماليزيا
يحاذي ثلاثة قبور نظيفة
لفرسان مدججين بدروع  ذهبية 
ثم قبر كبير لروما ، جلبته أثناء عبوري قادما من كاتنزارو
 في رحلة قطار شاقة /
يليه قبرٌ متصدّع من أعشاب إفريقيا ،
 جوفه قاتمٌ  ، وغلافه من طين
 جاء محمولا داخل حقيبة ظهر عسكرية
عبر الصحراء الكبرى ، من فايا لارجو إلى البيضاء .
وأخيرا ثمة قناني تصطف مرحة بلا علامات  
في يوم ما سقطت أحداها على بلاط الغرفة فانكسر غطاؤها.
**

لكم تبدو الفكرة ضالة :
قبور صغيرة لحشد من الحدائق المنقرضة  .
¨       
طرابلس خريف 2013



الأحد، 23 أغسطس 2015

صباح الخير : خليفة الفاخري

مفتاح العمّاري


صباح الخير أيها البحار النبيل * ..

    صباح الخير: خليفة الفاخري ** ..
صباح الخير  لما تبقى من جسد الحكاية .. حيث لاشيء يجدي أمام ضراوة الموت التي أيقظت القراءة الخائبة وعجلت اللحظة المحتملة . فالموت يا أخي هو القارئ الأكثر فداحة والمتفرج الوحيد الذي يهيمن علي شراسة المشهد . لذا حين عجز وأد براءة الحكاية . تقمّص في أول الأمر هيئة بليدة وتستر خلف قراءة خاملة لا يعول عليها . قراءة خاضعة لوتيرة واقع ثقافي معاق وقاصر عن الإحاطة ببهاء الكلمة وترويض خيولها الجامحة ، وفي آخر الأمر أيها الحكاء الجميل تربص الموت بجسدك .
    كنت أيها المشاء مغامرا شجاعاً تفتح مغاليق المعرفة وتقتحم كنوز الحكايات . هاجسك الوحيد  : انتصار الحياة .. فجاءت حكاياتك متخندقة ببلاغة الحفر في تربة المخيلة  الأشد مجازاً وتغوراً في اليومي، فصرت بحق حكاءً وشاعراً وراويا سامقاً ، تتموقع برصانة واقتدار ،  ضمن أبرز المؤسسين لديوان النثر الليبي ، الذين منحوا الكتابة عطر المفازة ونكهة البحر . كنت صياداً ماهراً تقود مراكب السرد في ثقة القبطان النبيل الذي لا تعوزه حكمة إهمال الجيف والنفايات تطفو على السطح مفتونة ببرق عدسات التصوير وضوضاء الصحافة .. واخترت أن تظل وحدك تغوص بعناد إلى أقصى القعر ، منقّبا عن درر المعنى ، ومفردات الحكاية الغائرة في ذاكرة المدينة ، لكنك لم تجد إزاء حماقة التهميش سوى اللجوء إلى صفة المصحح اللغوي متشبثاً بتقويم الرداءة ، مكتفيا في الحدّ الأدنى ، بهذا الدور الهامشي الذي يكرِّس الكسوفَ رأفةً بحلم الحكاء . حيث يُمسي الانزواءُ في ركن مطبعة مهملة ، وبأجرٍ زهيدٍ ، جديرا دونما ادعاء بمعالجة أمّية الكتبة .. منكباً على جثث النصوص الردئية، كجرّاحٍ يُدرك تماماً جسامة الخطأ اللغوي ، مما جعلك أكثر توجعا من الكلمات ذاتها التي تمزقت دلالاتُها وسط مجانية المسوخ الذين اقتحموا منابر الثاقفة وقاعات الأدب .
     صباح الخير أيها البحار النبيل ..
ومعذرة إن تزامن رحيلك مع مجازر شارون وفتنة العولمة التي تكتسح ثقافُتها أخلاقَ الناشئة الذين أمسوا يتطلعون بشغف لسراويل مايكل جاكسون ، حيث لامناص لمواسم الحكايات إلا أن تنسحب مرغمة إلى محطات الغبار، ومرافئ النسيان .
    معذرة أيها البحار النبيل ، على غفلتنا المريبة ، ومعذرة لسهونا ، فها أنت ترحل وحيداً تاركاً حكاياتك المرحة وسادة مسك ، تنثر النجوم في ليل الخائبين .
_____

*كتبت بأيام قليلة بعد رحيل الكاتب خليفة الفاخري .
** خليفة الفاخري ( 1942-2001) كاتب ليبي . انشغل بخدمة السرد ، وترك اثارا مميزة في مدونة القصة الليبية .

عودة المماليك

مفتاح العمّاري

رأس المملوك جابر



     تقول الحكاية : بأنه في قديم الزمان كان في بغداد ثمة وزير سيئ الطالع عاش ردحا من الزمن محاصرا داخل أسوار قصره بعد أن نشب النزاع والشقاق بينه وبين الخليفة ، وقد تعذّر عليه وقتذاك خرق رقابة الحراس والجواسيس ، بغية تمرير رسالة يطلب فيها النجدة من أحد ملوك العجم  .  تضيف الحكاية  بأن أحد مماليك الوزير  ويدعى ( جابر )  كان شديد الولع والهيام بفتاة جميلة ، اسمها ( زمرّدة )  هي خادمة زوج الوزير .  ولأن المملوك جابر قد  حدس على نحو ما قلق سيده الوزير الذي كان يخطّط بصمت لتسليم مفاتيح بغداد لملك العجم  والإطاحة بسيده وولي نعمته خليفة بغداد  ، لكي يجلس هو  على كرسي الخلافة  .  يومها وجد المملوك الفرصة سانحة  لكي يقوم بمهمة حمل الرسالة الخائنة ، وذلك بعد أن توصّل إلى فكرة شيطانية لا يخامرها شكّ ، حيث اقترح أن يكون رأسه هو  بمثابة  ورقة خفية لكتابة عبارات  الخيانة تلك .. وذلك مقابل  موافقة الوزير على زواجه من الخادمة ( زمردة )  .. وفي الآن  نفسه  ، كانت لدى المملوك أحلامه الصغيرة وأطماعه الجديرة بخيال الخدم الأذكياء  . وهكذا، عجل الوزير باستدعاء الحلاق  الذي تفنّن في جعل رأس المملوك جابر صفحة ناصعة وسلسة تطاوع ريشة الخطّاط  ./  لكن وفي اللحظة ذاتها التي كاد خلالها الخطاط أن ينتهي من تحبير آخر حرف  من حروف الرسالة ، تغيّرت نظرة الوزير إزاء مملوكة  ، وخمّن بينه وبين نفسه بأن هذا الكائن  الحالم الذي يتفوّق ذكاؤه على ذكاء الخدم ، قد يضمر طموحا لا تقف حدوده  عند الخادمة زمردة ..  لذا بيت الوزير أمرا ما ،  وفي اللحظة ذاتها مرّر بخفة ماكرة  ورقة مطوية إلى الخطاط الذي ارتبك للوهلة الأولى  لهول ما تنطوي عليه العبارة  من شرّ لا فكاك  منه .. ثم ما لبث أن سيطرالخطاط على ارتعاش أصابعه الخائفة  ، وخطّ رغما عنه  الجملة القصيرة التي تنطوي على فداحة المجهول  .  بعدها عُزِل المملوك ( جابر ) في غرفة منفردة داخل دهاليز القصر المحاصر  ، يقوم على حراستها  سجّان غليظ القلب ، ريثما ينمو شعر رأسه  ، لينطلق بعدها إلي بلاد العجم  .  وفي ذات صباح حانت ساعة الشؤم  لكي ينطلق المملوك لتأدية رحلته الغريبة  التي ما من أحد يعلم وجهتها غير سيده الوزير .  لكن حين انكشفت لملك العجم ملامح الكلمات الخفيّة ، أدرك بأنه قد أضحى قيد أنملة  من حلمه في الاستيلاء على بغداد ،  وامتلاك كنوزها الوافرة  .. لذا حرص دون إبطاء  على تنفيذ وصية وزير بغداد  التي أكدت على قطع الرأس الذي حمل عبارات الرسالة النادرة  .  وهكذا كانت خاتمة أحلام المملوك ،التي بدأت بغزو بغداد  ونهب كنوزها وثرواتها الهائلة . لكن ثمة  هنا العديد من الإشارات  التي تركتها هذه الحكاية مفتوحة لشهية التأويل ، وقد أخفاها الكاتب بدهاء شديد الحنكة ، وكأن سعدالله ونّوس  حين سطّر :مسرحية ( مغامرة رأس المملوك جابر )  قد حدس  على نحو ما بالمصير الفاجع الذي جعل من أحلام المماليك والخدم  طرفا رئيسا في نسج مؤامرة كبيرة ، لا أحد بعدُ يمكنه سبر نهاية ما ، لفصلها الأخير .

أرض الميعاد

مفتاح العمّاري


رواية أرض الميعاد




     في وقائع " أرض الميعاد " رواية الكاتب الروسي " يوري كوليسنكوف " ، نتعرف على قصة شاب يدعى  " حاييم فولدتير " من يهود رومانيا ، يجد نفسه فجأة متورطا في مصيدة الدعاية الصهيونية المبشرة بخرافة أرض الميعاد  (فلسطين) : الطيب والعسل وجنة الله فوق الأرض .. وخاضعا في الوقت ذاته لسياط ترهيب مخطط سري تشرف عليه لجان غامضة تدبر عمليات العنف الذاتي ضد الشتات اليهودي  . وفي أتون سياسة الترهيب والترغيب أضطر الفتى للتطوع في فرق التدريب العسكري " الأكشارا " كخطوة أولى باتجاه الرحيل إلى الأرض الموعودة . حدث ذلك والتاريخ يقف مرتبكا وقلقا على عتبات حرب عالمية ثانية  ، فقد بدأ هتلر يضع العالم في عنق الزجاجة  ، وفي الوقت نفسه يمهد الطريق للصهيونية ، ويضع حصانه السحري أمام عربة " وعد بلفور " لتنقل مئات الآلاف من الشتات  إلى فلسطين بذريعة العداء للسامية ، التي كانت مجرد دعاية تكتيكية تشرف على تنفيذها سرا لجان مختصة من الحركة الصهيونية ، استطاعت أن تخترق الرايخ بواسطة رؤوس الأموال الكبيرة . هذا ما تؤكده الرواية على لسان أحدى شخصياتها التي تقول " لو لم يكن هذا الأدولف هتلر، موجودا لكان علينا نحن الصهاينة أن نوجده " وهكذا كانت النازية منسجمة تماما مع مقولة – هرتزل - " بأنه كلما ازدادت المذابح ضد الشتات اليهودي  اقتربت اللحظة المناسبة لإنشاء الوطن ."  لتجد العنصرية الصهيونية في النازية - شقيقتها الروحية – محرضا معنويا وماديا لإيقاظ نعرة العرقية والعنصرية لدى يهود العالم ، وفي الوقت ذاته كان الصهاينة يدأبون على الشكاة  والبكاء والتنديد بجرائم هتلر في الصحافة والمحافل الدولية لكسب المزيد من التعاطف وتهيئة الرأي العام ، لإعلان قيام دولتهم في فلسطين ، وهذا ما انتزعوه في ما بعد من عصبة الأمم . 

   وفي سياق تطور أحداث هذه الرواية ، نجد أن الشاب  " حاييم " مايلبث أن يكشف أكذوبة أرض الميعاد حين يصطدم وهمه بشراسة الواقع وتتبخر أمامه أنهار الحليب والعسل ، ويرى عن كثب ما تقترفه العصابات الصهيونية في فلسطين من جرائم النهب للبيوت والمزارع ، واقتلاع السكان من ثراهم  . ولأنه قد خضع هو الآخر لأعمال الترهيب قصد التفريق بينه وبين زوجته اليونانية بحكم أنهم يريدونه يهوديا خالصا ، يقرر أخيرا الهرب من فلسطين ، والعودة إلى أرض الوطن " رومانيا "  . ولكن ما تضمره الرواية بامتياز  يشير في كل حركة من حركاتها السردية إلى آلية العنف ، التي تمثل محورا أساسيا  في البرنامج الصهيوني  .. هذا العنف الذي بدأ في مرحلته الأولى  كطابع تكتيكي ، عندما كان يمارس ضد الشتات  ، قد تحول في مرحلته الثانية  إلى طابع استراتيجي  ، يهدف إلى ابادة وتشريد السكان الأصليين  من عرب  فلسطين ، الذين وجدوا أنفسهم  ضحية مؤامرة دولية كبرى متعددة الأطراف  ، لتجعل منهم : شتات العالم الجديد . 

طرابلس

مفتاح العمّاري
طرابلس الغرب ..


     منذ عشرين سنة دخلت طرابلس لأول مرة ،  كشاعر يتأبط قصائد خجولة، طويت على عجل في ورق مجعلك . كنت أكثر حياء وأنا أتلكأ مرتبكا بأسماء محطّات حميمة، ومقتنيات سفر بائسة تتشظى في عوالم التيه.. وأتأتئ بعطر فتيات جميلات كبرن في قصور من ورق وحبر، هنّ تأشيرة دخولي إلى جهات وعواصم تدحرجت بألفة في سماء الشعر.
       منذ عشرين سنة لم تكن طرابلس بالنسبة لي سوى جنة محلوم بها..  لذا لم أتجاسر وأنا أمشي بمحاذاة حلمها على لجم هوسي وفتنتي، واعتقال مخيلتي الجامحة، لمّا ولجتها ذات صباح ناعم ومطير، عبقت أنفاس بساتينه بعبير الغوايات ، فتركت الغرام على هواه سادرا بشهوة التسكّع وحيدا أمشي عبر مسارب التاريخ متأملا بخشوع ، كمن يقيم صلاة البهاء المقدّس : إعجاز السراي وهي تتربّع على خمسة قرون  ثرية . ثمّ...   ( وأنا أمشي  ) مأخوذا بعتاقة عمرانها   :  شوارع قديمة ذات  بهاء أصيل صقلته مطارق الذاكرة،   أزقّة صنفرتها الطمأنينة مستقرا لحكايات لا تأفل. 
       منذ عشرين سنة غمرتني هذه السيدة الكريمة بفيض من حنان وقور وسامق.. كأنّها أمّي وهي تربت على وجعي برأفة لم أتعوّدها من قبل، أنا الجافل  من ضراوة الثكنات البعيدة ، كنت أمشي بلا شيء في جعبتي سوى ما قدّه الضيم من كلمات  صهرت أحرفها في أوعية من سلالة النثر.
        منذ عشرين سنة، عشقتُ طرابلس، كما يقال " من أول نظرة "  .........
ولم أحدس وقتذاك بأنها بعد بضعة أشهر ستكون قدري المؤبّد الذي لا فكاك من سلطة سحره الغامض،  وملاذي الآمن وقبري الأخير.. ففيها وبها استطعت اكتشاف عشرين طريقة لفكّ شفرة التيه، وترويض وحشية الخيال.. كما ذوّبت في ليلها زبدة القمر وعذوبة الكلام.. فتناثرت عبر تضاريس صدرها الدافئ أجزاءُ روحي.
       وعبر باب الجديد ، وباب الحرية ، وشارع الرشيد ، أيقظت ذاكرة أبي، الذي طالما رسم بآهاته أروقة أسواقها وأقواس شوارعها العتيقة..  واختزلت لأجلها كل ما أفضت به سير العشاق الذين عبروا أروقة البهاء قبلي ،  لكي أضيف ملحا جديدا لطرابلس، سيدة البحر  .. التي : اسم قصيدة لثلاث مدن تتوحّد في كلمة .  لأجلها منذ عشرين دهرا وأنا أطوي الخيال وأمشي.  

________ 

طرابلس يناير 2001

مستعمرة صغيرة

مفتاح العمّاري


______  مستعمرة صغيرة اسمها بابا























هذه المرة
قد كبرت حقا يا أمي .
بتلعثم شديد أضغط مزيدا من الخوف
كأن أذهب إلى الوظيفة متكاسلا عن حلاقة ذقني
محتلا من الداخل بقراصنة مرحين .
قسوتهم الوحيدة أنهم يتناولون أحلامهم على
نفس المائدة الأثيرة لديّ
ويحيونني ببراءة أعرفها .

تماما
 لست واحدا الآن  .
معي لينا وريما ووعد وأحمد
فهم من يقرّر ملاءمة الطقس للجلوس في الشرفة ،
ومشاهدة المارة والعصافير والمطر ،
ويلعبون بالقداحة وحلقة المفاتيح .

نعم لقد كبرت يا أمي
وصرتُ مستعمرةً صغيرة
اسمها (بابا ) .
____ 

طرابلس ربيع 1992 .من قصائد المجموعة الشعرية : منازل الريح والشوارد والأوتاد . 

السبت، 22 أغسطس 2015

تأنيث الألف



مفتاح العمّاري


تأنيث الألف




     تعد الحكاية حلم توطين ، ليكون السفر داخلها لا خارجها  ، هكذا هي  تبعا لألف ليلة وليلة وشقيقاتها : شهرزاد تسرد التاريخ السرّي للجسد  / شهريار يصغي  بتأويل من يكتب  لحظة أن يتعقّب المعنى بفحولة/ شهريار  يسافر / شهرزاد تقيم / المفارق هنا يشير  إلى برزخ ما بين الظل والضوء  : 



 شهرزاد تخفي نفسها عبر الحكاية ،  بينما شهريار يعريها بتلذذ .. وإذا كان الموت سفرا حيث لا أين بعد الفناء ،  فشهرزاد تتوطّن حيث لا بقاء  بلا منفى  ،المنفى داخل الرحم  عبر التحقق بوجود الجسد التاريخي الذي يروّض بلاغة سرده في الليل ، فما الحكاية هنا سوى ضلع صغير  في لعبة التأنيث ، تأنيث اللغة  وإنقاذها من استبداد الذكورة صانعة الحدث والبطولات والقوانين والحروب والإمبراطوريات ، غير أن لحظة  الإصغاء  بالنسبة لشهريار تعد فعل كتابة بقلم الفحل .. أي إننا إزاء تجاذب بين الأنوثة والذكورة ، السكن والرحيل ، الحياة والموت حيث كلاهما شرط الآخر  وروحه  ، يوجد بوجوده ، ويتجسد مأموله من خلاله وبه /  شهرزاد :  السكن ، الجسد ، الرحم ، الوطن .   هي ميكانزم دائم الحركة في دورة استدراج الحياة وتأكيدها ، وبالمقابل  يتمحور شهريار داخل السرد ، وان رام التبختر خارج نسيجه ، مدركا بأن الأنثى ( شهرزاد )  تستأنس  لعبة  المواربة خلف سجف من حكايات تتناسل وتنمو  وتنتشر ،  تتخفّى وراء ضباب خرافات لا تكف عن اجتراح تداعياتها . هكذا  تُحقِّق استقرارها عبر تشتيت الملايين من الكلمات المنبوذة  ، تنكش أكواما من الوقائع والأسرار المحرّمة  لكي تغلف ببراءة الأنثى  مضانها ومرامها ومأمولها ، تستدعي ما لا يحصى ويعد من المحكومين بالفناء لتؤجل بإيقاع واثق لحظة فنائها  ، لعلها توقع الذكر في شراكها  ، سعيا للخصوبة والنماء ، لا القحل والجفاف ..لكن اللعبة هنا لا تخلو من متاهة المغامرة ،  لهذا يكون مصير الرحالة في معظم خواتم الف ليلة وليلة  ، فاجعا وتراجيديا ، ونهايته غامضة ومجهولة ، الرحالة الذي يوجد داخل الحكاية ، قد يُغَيََّب حينا لصالح أن تظل شهرزاد حية وذكية ونشيطة خارج الحكاية وداخلها .. شهرزاد وحدها التي يتعذر هنا القبض على حقيقتها ، وهنا يكمن سحرها وجمالها، فهي دائما منطقة برزخ ، وبقدر سطوعها ومثولها الحاضر ببهاء له عنفه ومثيراته  ، تشي في الوقت نفسه بجسد من سديم ، وبإعجاز التلاشي ، كائن يمكن للوهلة تطويقه والإحاطة به ، وفي اللحظة ذاتها يتعذر الإمساك به .. هذا ما يهب صيرورة حياة اللغة ، تحريرها من هيمنة الذكورة  ، عبر تأنيثها . وسيظل المجهول والغامض تبعا لحكايات شهرزاد هو ما يكفل صيرورة السرد ،واستئناف كتابة الحياة .   

¨