مفتاح العمّاري
طرابلس الغرب ..
منذ عشرين سنة دخلت طرابلس لأول مرة ، كشاعر يتأبط قصائد خجولة،
طويت على عجل في ورق مجعلك . كنت أكثر حياء وأنا أتلكأ مرتبكا بأسماء محطّات
حميمة، ومقتنيات سفر بائسة تتشظى في عوالم التيه.. وأتأتئ بعطر فتيات جميلات كبرن
في قصور من ورق وحبر، هنّ تأشيرة دخولي إلى جهات وعواصم تدحرجت بألفة في سماء الشعر.
منذ عشرين سنة لم تكن طرابلس بالنسبة لي
سوى جنة محلوم بها.. لذا لم أتجاسر وأنا
أمشي بمحاذاة حلمها على لجم هوسي وفتنتي، واعتقال مخيلتي الجامحة، لمّا ولجتها ذات
صباح ناعم ومطير، عبقت أنفاس بساتينه بعبير الغوايات ، فتركت الغرام على هواه
سادرا بشهوة التسكّع وحيدا أمشي عبر مسارب التاريخ متأملا بخشوع ، كمن
يقيم صلاة البهاء المقدّس : إعجاز السراي وهي تتربّع على خمسة
قرون ثرية . ثمّ... ( وأنا أمشي
) مأخوذا بعتاقة عمرانها : شوارع قديمة ذات بهاء أصيل صقلته مطارق الذاكرة، أزقّة صنفرتها الطمأنينة مستقرا لحكايات لا
تأفل.
منذ عشرين سنة غمرتني هذه السيدة الكريمة
بفيض من حنان وقور وسامق.. كأنّها أمّي وهي تربت على وجعي برأفة لم أتعوّدها من
قبل، أنا الجافل من ضراوة الثكنات البعيدة
، كنت أمشي بلا شيء في جعبتي سوى ما قدّه الضيم من كلمات صهرت أحرفها في أوعية من سلالة النثر.
منذ عشرين سنة، عشقتُ طرابلس، كما يقال
" من أول نظرة " .........
ولم أحدس وقتذاك
بأنها بعد بضعة أشهر ستكون قدري المؤبّد الذي لا فكاك من سلطة سحره الغامض، وملاذي الآمن وقبري الأخير.. ففيها وبها استطعت
اكتشاف عشرين طريقة لفكّ شفرة التيه، وترويض وحشية الخيال.. كما ذوّبت في ليلها
زبدة القمر وعذوبة الكلام.. فتناثرت عبر تضاريس صدرها الدافئ أجزاءُ روحي.
وعبر باب الجديد ،
وباب الحرية ، وشارع الرشيد ، أيقظت ذاكرة أبي، الذي طالما رسم
بآهاته أروقة أسواقها وأقواس شوارعها العتيقة..
واختزلت لأجلها كل ما أفضت به سير العشاق الذين عبروا
أروقة البهاء قبلي ، لكي أضيف ملحا جديدا لطرابلس،
سيدة البحر .. التي : اسم
قصيدة لثلاث مدن تتوحّد في كلمة . لأجلها
منذ عشرين دهرا وأنا أطوي الخيال وأمشي.
________
طرابلس يناير 2001