مفتاح العمّاري
قبل
العين ..
إن البحث عن مفردة الحياة ، هو مبعث التخيّلات
التي يلحقها الشعراء بالعالم حيث الروح النهمة إلى كل ما هو أكثر انكشافاً
وتبسّطاً ، ليضفي على لحظته ارتياحات فخورة ، ما تلبث أن تسترد طاقتها من الشغف والتطلع والحلم والسفر والحدس .
لأن طريق أسئلة القصيدة هي دائما رحلة كشف تتوخّى إضافة سامقة للحياة لا انعكاسا .
و على الرغم من ظلمة المجاهل القاتمة ، تقترح الكتابة الشعرية – دونما توقف - ألوانا مضاءة بصور تؤثثها ظلال المعنى ، فللعين
مشيئتها وللأذن أيضاً .
ولأنّ الأذن ربّة صوت
وملكة نغم ، فهي تعشق قبل العين أحيانا .. لذا كان الأعمى في توحّده يكتشف
حكمة السواد ، ويرسم الخفاء مضاء بطاقة الصوت ، حيث يكون القاتم عبئا يتعذّر إيواءه في كنف الأذن
قارئة الصمت ونقيضه . لذا علينا أن نهب
الإيقاع حقّه في صقل الرؤى ، أسوة بحظوظ اللون وسمو صفاته ، مع تلطّف سخيّ يتيح
مسافة للعطر وأخرى لعذوبة النار وضراوتها . هذا الكلام ذو السطح المتخلخل – كما
يبدو – ليس مجرد خاطرة فاضت عن مشاعر خالقها ، إنمّا هو إشارة وقف إزاء ما يساق من
احتفاء بالرسم على حساب الصوت ، مانحا
الحظوة للتشكيل الشعري كسمة بصرية أمست تعلن عن طغيانها النظري ، لكأنها تزعم وحدها
التفرد باحتكار بلاغة المعنى وتكثيفه في مجازات حسيّة ومعنوية ، أو كأن الجمال في
أبهى تجلّياته محض صور ، تهيمن عليها العين وحدها ، من دون أن يكون لبقية الحواس أيما
شراكة في نسيج مشهدها . وهنا يكمن خلل
العديد من وجهات النظر التي تغفل أن الحياة صوت أيضا ، وأن قصيدة النثر مهما
توغّلت في نحت لحظتها ستظلّ بلا نبض حين تتجاهل نصف حقيقتها .. فالموسيقى وحدها
كمحض شكل خالص تمثّل أقصى طموح للفن ، وإنه ما من شيء في هذا الكون يقع خارج
الموسيقى . ولأن الأشياء تمتحّ روحها من نقائضها فما جدوى قصيدة النثر حين تكون
خرساء بلا رنيم .