مفتاح العمّاري
الآخرون *
لا يعدّ اهتياج البذاءة
والإباحية في نصوص أدبية أو شبه أدبية ، موضوعاً جديداً . فثمة العديد من الإشارات
في التراث الأدبي العربي قد تمحورتْ تحديداً حول موضوعة المجون . ولعّل ديوان
الشعر يشي بِحَيَّزٍ وافر لا سيما في خمريات ( أبي نواس )، والتي مهما
تواتر حولها من نقد هجّاء وساخط يظلّ الجوهريّ فيها متحّصناً بكونه من سلالة أدب
رفيع وراسخ ، كَفُلَتْ له أصالة إعجازه وصناعته المكينة أن يحتلّ حيّزاً مرموقا في
مدوّنة الشَّعر العربي .
في مطلع عشرية الثمانينيات
من القرن الماضي ، هيّجتْ روايةُ ( الخبز الحافي ) للكاتب المغربي ( محمد
شكري ) زوبعةً شديدة الخصوبة ، في الصحافة الأدبية ، وغير الأدبية .. تمركزت
حول مضانّها العارية ، وصورها الفاضحة ، خاصة بعد أن خضع متنها للمنع والمصادرة ،
وهي لهبة تضفيها قرارات المنع ، حين تؤدّي إلى نتائج عكسية : أهمها أن يحظى العمل
المصادر بترويج إضافي وشهرة متسارعة . حيث قُدَّر للخبز الحافي أن تحوز على انتشار
متزايد لم تنله روايات نجيب محفوظ . ففي فترة قصيرة تعاظم شأنها وتضاعف
ريعها بعد أن تلقفتها دور النشر وآلة المترجمين الذين نقلوها إلى العديد من اللغات
الأجنبية . ومحمد شكري كاتبٌ عصاميٌّ شرس ، حاول ببساطة فادحة أن يكتب نفسه
. فكانت سيرته الشخصية ، بكل ما تنطوي عليه من تكوّمات سريّة ، وبذاءات فجّة ،
ووقائع فاضحة ، هي المادة الثريةُ في نسيج خبزه الحافي . وقتذاك وصلتني نسخةٌ
طازجة ، تكرّم بإرسالها من المغرب الصديق الكاتب ( بشير القمري ).. فقرأتها
بشغف خاص لم يلبث أن فَتُر على مشارف الصفحة العاشرة .. حين ألفيتني إزاء مادة خام
، تتلخّص في حشد من المكابدات الآسية التي حفرت براثنها دروباً دامية وتمزّقات
عنيفة في ذاكرة وجسد شخصية مطحونة اجتماعياً ، خضعت رغماً عنها لاستلابات الجنس
والعنف الوحشي . وقاست أصناف البؤس والجوع ، ومرارة الفقد والتشرّد . وعلى الرغم
من أن الراوي يمتلك شجاعة نادرة للإفشاء وهتك السرّ ، إلاّ أنّ المتن في مجمله ظلّ
محض حكاية وحشية ، تشبه الكثير من الحكايات الشعبية التي تنتجها كُلّ يوم أحزمة
الفقر ، في الأحياء والحارات البائسة ، وربما نعثر دون عناء على عشرات الوقائع التي تفوقها ضراوة وعنفاً،
لأنّها وببساطة شديدة الوضوح تفتقر إلى لغة السرد الروائي ، فاللغة وحدها هي التي
تفعل سحرها في نسيج الكلمات ، لتنفخ الروح في الجسد ، وتكفل له الخصائص التي تهبهُ
صفة نصًّ يسهمُ في بناء الرواية لا هدمها ، من هُنَا تعدُّ الخبز الحافي
حسب قراءتي فعلَ تقويض لنفسها ، لأنّها لم تتجاوز حّيزها الشفويّ الذي ظلّ عالقاً
بها .. مما جعلها أقلّ محدودية وطموحاً في أن تصيبنا بأيّة حساسية شعرية ، وسيغدو
تعاطفنا ضعيفاً حيال تلك الكلمات الخليعة التي تمزّقت دونما هوادة على حبل الغسيل
.. وليس مع نصًّ أدبيّ كان يفترض أن يمغنطنا بحساسية الحلم والمعرفة والرؤيا
كمشيئات ضرورية ، تتضافر جميعاً لخلق عالم فنيّ حيّ ، ذلك لأن الخلاعة وحدها لا
تصلح بأي حال من الأحوال أن تكون أدباً جميلاً ، وأن أية كائنات من هذا الصنف لا
تختلف في أكثر مستوياتها براءة عن بيت صغير للدعارة يضجُّ بعشرات الحكايات المحزنة
. غير أن البعض من صنّاع هذا الخزف ، قد استمرأ – كما يبدو – وبشهية ماكرة تكريس
لعبة المجون ، على نحو لا يخلو من الخداع والتضليل ، ولا سيما لدى الفرانكفونيين
العرب الذين وجدوا في سحر الشرق ضالتهم الأثيرة لاستدراج شهيّة ( الآخر )
الغرب ، المفتون بغرائبية ألف ليلة وليلة ، كطريق ممهّدة للشهرة
والانتشار وصيد الجوائز العالمية ، فدأبوا ينقّبون بأدوات مزيّفة في حفريات
الفلكلور الديني ، والشعبي بهوس شديد التهتّك والغرابة . وهكذا شهد الربع الأخير
من القرن العشرين فصولاً أكثر إثارة من مخيّلة ( شهرزاد ) .. تجسَّدُ شرق
العنف والجريمة والذكورة الموهومة . من هُنَا كان الاحتفاء برواية ( ليلة القدر
) للطاهر بن جلّون الذي عرف جيداً كيف يستدرك بؤس الخبز الحافي ..
ليقدَّم صناعة روائية متذاكية ، حرّية باقتفاء براعة ( ميلان كونديرا ) في
اللعب بآلية السرد وتصعيد شعرية الكلمات ،من دون أية غضاضة في خيانة الحقيقة ،وسلخ
جلدها جهاراً نهاراً ، على الرغم من أن أول عبارة دشّنت هذا المتن كانت تقول : ( ما يهمّ هو الحقيقة ) .
طاهر بن جلّون قدّم
في ( ليلة القدر ) فانتازيا مذهلة ، حين نكش دُمَّلَ الذاكرة ، وكشف كل شيء
يمكنه أن يتناغم مع قراءة الآخر ، إذ كان خزّافاً ماهراً لصور الشذوذ الجنسي
والجريمة والخصاء ، وإيواء التيه في مجاهل مفازة عربية معتمة يقودها فكرٌ غامض ،
بمشيئة عمياء ، وبالتالي لم نفاجأ كثيراً حين اصطاد بشباك مغشوشة جائزة جونكور
. وقبل أن نتوقف إزاء رواية ( الآخرون ) للعربي التونسيّ حسونة المصباحي
، نشير أولاً إلى مقولة رامبو : (ضرورة تغيير الحياة ) . فمن (شارلفيل ) إلى (عدن )
آثر الشاعر المشّاء ، أن يصّوب عقرب بوصلته باتّجاه الشرق / شرق الشعر والحكمة
والمعرفة .. شرق الحضارات العتيقة والأنبياء ، شرق ابن خلدون والتوحيدي
والمعرّي والحلاج وابن عربي ، فعبر الحلم الذي صنو الرائي ( الشاعر
والرحّالة ) كان لابُدّ أن تتضافر مشيئة الفعل ومشيئة الرؤيا ، حتى لا تغدو
الكلمات مجرد لغو ، فثمة بون شاسع بين اللغو واللغة ، اللغة التي هي حسب تعبير (رامبو
) : الفكر الذي يشدُّ الفكر ويحتذ به . لكن خلافاً لذلك تجزم ثرثرة (الآخرون)
بأن الشرق مقبرةٌ للأحياء . حيث يتاح لنا التعّرف على رهط من المثقفين
الخائبين .. وقد تجسّدوا بهيئة التابع ( شانسو ) المفتون إلى حدّ الهوس
بأوهام فارسه المبجّل ( دون كيشوت ) ، دون كيشوت المثقف والمناضل الطبقي
الذي تخلّى عن زيّ فرسان العصور الوسطى ، لينتحل دور مهرّج تنكّر بلحية ( ماركس
) أو قبّعة ( لينين ) أو بيريه ( جيفارا ) .. في مرحلة عربية خانقة
، ضجّ فيها رواق الانتلجنسيا بانصاف مثقفين مهذارين ، يسعون إلى ضرورة
تغيير العالم حسب مقولة ماركس.. واثقين إلى حد اليقين بانتصار الفلاحين
وصعود البروليتاريا في مدن عربية هي مجرد سوبر ماركات وفنادق فارهة ،
ومنتجعات فاخرة للخدمات السياحية ، بحيث لم تتعد علاقة هكذا مثقف حدود الصرعة التي
تنتهي إلى فاجعة صادمة إزاء وهم التغيير، أو تبديل العالم . لهذا تشبّث بعضهم في
نهاية المطاف بميراث بائس من سيرة رامبو .. فلم يغنموا سوى بضعة سراويل
مثقوبة .. وأحذية ثرثارة ، لا تجيد غير التسكع بين الحانات والمواخير والمقاهي .
وعلى هدي المشاء رامبو يحزم بطل ( الآخرون ) حقيبته مقترحاً الرحيل
باتجاه الشرق . ففي سنة 1973 والأمة العربية تخوض منعطفاً خطيراً في صراعها مع
العدو الصهيوني يحطّ صاحبنا الرحال في طرابلس الغرب، كمحطة أولى باتجاه
المغامرة والاكتشاف ، وعبر صفحتين من الهجاء المقيت يخلص الانطباع العابر بأنه ما
من شيء في طرابلس يثير شهية الرحالة . " لا رائحة للأنثى حتى لو
كانت صبية في العاشرة من عمرها.. اشتعل حنيني إلى بارات تونس ، وإلى أغاني السكارى
أواخر الليل إلى الكلمات البذيئة التي تطلقها مومسات باب البحر " هكذا
يقول المشّاء الذي يقرّر على الفور السفر إلى دمشق ليفاجأ مرة أخرى بأن لا
سحر في دمشق يثير مخيّلة القصيدة .. حين يكتشف مدينة كئيبة تختنق بالمخبرين
. هناك يلتقي بطالب مغربي ، فيكاشفه
بحقيقة صادمة مفادها ( أن هذا الشرق يا
عزيزي مقبرةٌ هائلة للأحياء ) يقول الطالب في الرواية ، فيفرّ صاحبنا بجلده إلى بغداد عاصمة
الحضارات العتيقة ، غير أنه ما يلبث أن يجد بغداد أكثر ضراوة ورعباً من دمشق
، فيتدبّر بمشقة ثمن تذكرة العودة إلى تونس ليسرد على أصدقائه وقائع رحلته
الفاشلة إلى الشرق ، ثم يلوذ بمدينة بنزرت حيث يتاح للراوي أن يسرد وقائع
أيامه في بنزرت ، " أرتاد البارات المعتمة المحاذية للميناء ، وألعب الورق
مع البحارة والعتّالين أمثالي وأراود النّساء في سوق الخضر ونادراً ما أعود من
صيدي خائباً " غير أن تونس لم تحتف بعودة ابنها الضال ، الذي
اكتشف بمرارة أن جلّ رهطه رهن الاعتقال ، فيراوده شعور بالذنب أن يلهو بين البارات
وأحضان العشيقات ، بينما أصدقاؤه يقاسون عذابات الزنازين فيقّرر أن يكتب منشوراً
سرياً ضدّ سياسة بورقيبة. ينتج عنه اعتقاله في اليوم التالي ، ليحوز على
هبة العقاب المقّدس .. لكنه ما أن يقضي بضعة أشهر في السجن حتى يفرج عنه بقرار من
وزارة الداخلية بمناسبة عيد الجمهورية . بعد الخروج من ظلمة الزنزانة يذهب في
اليوم ذاته إلى شاطئ البحر ويمكث هناك حتى طلوع الفجر . ويقول موثّقاً هذه اللحظة
: " أبداً لن ألمس المعنى الحقيقي للحرية مثلما لمسته تلك الليلة وأنا
وحيد أمام البحر " وكأنه يسوق هذه المحرضات النفسية كدافع عنيف لهجرة
وطنه الأصلي والفرار بجلده إلى الغرب . حيث الآخرون من مثقّفي الشتات سيشكلّون
مادة غنية فيما تبقي من رحلة سانشو .
( الآخرون ) تضّم
حشداً هائلاً من الشخصيات التائهة والأحلام الخائبة . وتمعن في سرد سير مثقفي
الشتات بآلية من المفاصل والمقطّعات التي
تّصاغ بلغة بائسة بلاغياً ، ومخيلة مريضة خضعت خلالها جميع الشخصيات المقترحة
لإساءة بالغة القساوة . إذ كان من الممكن للقاصة والأديبة اللبنانية ( رنا
) .. وللسينمائي العراقي ( سامي شاهين
) والشاعر التونسي (خالد ) أن ينعموا جميعاً بشاعرية حارة لو توفّرالحّد
الأدنى من خصائص السرد الروائي . ألا أن تماهيات ( الآخرون ) بتجارب خليعة
جعلتها أكثر استئناساً بتكريس البذاءات وكأنها بالنسبة لها تمّثل ارتياحات نزوية
وهي تمعن دون غضاضة في وصف البارات والاهتياجات الجنسية وتعدّد وظائف المراحيض
ومزاياها التي تصلح لمآرب شتى كالنوم والقراءة والاستجمام . وغالباً ما يخضع
العالم الكلاّني هنا إلى تنميط سرديّ في غاية السذاجة حين يلتقي صديقان ويدخلان
الحانة ليعبّان بِنَهمٍ قناني البيرة .
إذا كانت ( الآخرون
) تسعى إلى مديح الكأس والجسد الشهويّ
وتجسيد تراجيديا مثقفي الشتات .. إلا أنها في حقيقة الأمر قد كشفت عن عجزها الخاص
بها .. كعمل فقير يحملُ خصائص تدميره وفنائه . لأنه بغضّ النظر عن عباراتها
التهكمية ومقولاتها الهجاءة .. كذلك بغض
النظر عن هذياناتها ووساوسها الفارطة بالتهتك والمجون الذي لا يخضع لأي نسق فني
يمكنه أن يلبيّ متطلّبات السرد . بغض
النظر أيضاً عن أية تناصات قد تُحيلنا إلى ( هنري ميللر ) و ( جان جينيه).
يمكننا القول وبإيجاز شديد الاقتضاب بأن رواية ( الآخرون ) لم
تبتعد سوى خطوة واحدة عن عتبة ( الخبز
الحافي ) .
ذلك لأن ظهور الرواية قد
اكتسب صعوده الراسخ من تحوّلات اللغة . حسب وجهة نظر باختين . اللغة وحدها
هي جوهر الأدب والكائن الحيّ في الكتابة الروائية . وليست محض أداة أو وسيلة نقل
تتكفّل بحمولة المعني . بل هي نسيج فنيّ ذو طاقة شعرية هائلة ، ومخّيلة جموح تمتصّ
خلاصة المحيط لتعيد تشكّلاتها وفق تناميها الخاص بها . ومن ثم فأن أية محاولة
مختلّة للسرد ستسهم حتماً في وأد الرواية وهدم نسيجها . السرد كإضافة جوهرية للحياة
وليس تكرارا مُملا للوقائع والأحداث .
¨
*من مقالات كتابنا : عتبة لنثر العالم .