مفتاح العمّاري
أصالة السرد
في سير المقهورين والمنبوذين والمهمّشين
مع رواية " طائر ازرق نادر يحلق معي
" للروائي المغربي : يوسف فاضل نجد أنفسنا إزاء مشروع روائي أصيل – لا أبالغ إذا
قلت - انه يترسخ بفرادة نوعية داخل مدونة السرد العربي والعالمي . لعل الإنصاف هنا
، يقتضي التنويه بعديد الفضائل لهكذا تجربة ، كلما كانت القراءة أكثر رصانة
واجتهادا ، وتمعنا في تأملها لخصائص العالم المتخيل في طائر .... يوسف فاضل . لأن أصالة الكتابة الإبداعية في هذه الرواية
النوعية ، تستمد أولى مقوماتها من كونها تعيد خلق الحكائي العربي واستدراجه إلى
هامش (حداثي) معاصر . هذا ما تنشغل به قوانين السرد في الجملة الروائية ، والتي يمكن
ملاحظتها أكثر وضوحا في الأجزاء التي أسند حكْيها في النص للكلبة هندة ، وبابا علي
، وبنغازي . وعلى الرغم من أن السجن هو
الخلفية العامة لفضاء هذه الرواية ، والتي توسم بدلالات تتعلق بالسماء المفتوحة
كما يشي عنوانها . لكنها تبدو أكثر توغلا
في استنطاق الحضيض ، ونكش عفونته ، لتعرية الواقع الاجتماعي المفكك والقاسي .من دون أن
تتخلّى عن استبطان التحليق كحركة دينامية تشكل الطاقة الداخلية ، بغية استنفار
اللغة ومقارعة لحظتها بكل ما يعتمل في - اللحظة ايّاها - من مفارقات لا إنسانية . وهي خلافا لتلك الرصانة التي غلّفت رواية : العتمة الباهرة ، للطاهر بن جلون ، وغيرها
من المقترحات التي تمحورت حول سجن تزمامرت ، وسير المسجونين ، جراء ذلك العقاب
الذي طال المتورطين في المحاولة الانقلابية ، التي استهدفت الإطاحة بالعرش الملكي
، في مطلع عشرية السبعينيات من القرن العشرين ، باعتبارها أي : طائر أزرق نادر
يحلق معي - هي الأخرى تتخذ من مؤسسة السجن محورا أساسيا لوقائعها العنيفة . غير أن العالم هنا يذهب بعيدا ، متوغلا إلى
أقصى حدّ يمكن تخيله في الإغراب ، والذي يحتلّ حيزا واسعا في تنضيد وسكّ عالمه
السردي ، وبصورة خاصة إزاء تلك المقاطع أو الأجزاء التي ترويها الكلبة هندة . حيث يتخلل اللا معقول نسيج الواقع . كذلك لا تخلو المرويات الأخرى والتي تتقاسم
زوايا السرد ، وقد توزعت - كما أشرت - عبر
أصوات متعددة ، من زينة إلى عزيز ، مرورا بختيمة وبنغازي وبابا علي ، الخ . كان
المونولوج ، أو الحوار الداخلي لعزيز في معقله على الرغم من طابعه الهذياني ،
يكتنز بحمولة شعرية عالية ، في التقاط أصغر التفاصيل ، لتحتل موضوعا ذا شأن ، تلك
الدقة والسلاسة في تداعيات التعايش القسري مع الألم والظلمة والعفونة والحشرات ،
وقد خضعت لخطاب ساخر وتهكمي ، لتصعيد العبثية في أقصى درجاتها بهيمية وتوحشا . ثمة
نقطة أخرى تسجل كمأثرة نوعية في تجربة يوسف فاضل ،ولا سيما في هذه الرواية ، وهو
انفتاح النص الروائي على مجموعة من الأنواع الأخرى ، وتذويبها داخل سيولته ، كالشعر والمسرح والسينما . بالطبع لا تعد هكذا محاولات جديدة ، غير أن عمل
يوسف فاضل يتجلى بطريقة شديدة الاختلاف والمغايرة عن سابقيه ، سيما وانه يخضع هذا
الانفتاح في تجربته لعملية صهر واعية بخلطة خامتها ، مدركا مرام إشاراتها .
طائر ازرق نادر يحلق معي : رواية يتجلى فيها
العشق مخلوطا بالفساد ، والقمع الاجتماعي والسياسي . غير أن التيمة الرئيسة التي
تغذي الطاقة الشعرية في هذا السرد ، تظل دائما رهن التحليق ، والعلو والتشبث
بالسماء إلى درجة التلاشي في سديمها .
أشير أيضاً إلى أن هذه الرواية قد وصلت إلى
القائمة القصيرة لجائزة بوكر للرواية العربية . كنت قد قرأتها في حينها - قبل الإعلان
عن الرواية الفائزة - ليس بدافع تأثير إعلاني يتعلق بترشيحها للجائزة ، إنما لأنني
كنت على دراية بالإمكانات الجمالية لهذا الروائي ، إذ واتتني السوانح قبلُ ،
واطلعت ليوسف فاضل ، على بعض من منجزه الإبداعي في القصة والرواية ، وكنت أحدس على
نحو ما بأصالته وفرادته التجريبية ، فضلا عن اقتداره ووعيه لمفاهيم السرد ، وصناعته الروائية التي تجعل منه ساردا استثنائيا . ولعلنا لا
نبالغ إذا قلنا بأنه يعد من المؤسسين لفن كتابة رواية جديدة في المغرب . حينذاك ، وعلى
الرغم من احتفائي برواية سعداوي ( فرانكشتاين في بغداد ) ، كنت في دخيلة نفسي
متعاطفا مع : طائر ازرق نادر يحلق معي ،
والتي أعيد قراءتها الآن ، ليس لتجديد متعة القراءة وحسب ، بل للقفز - خارج حدود
الدهشة الأولى - .لأن هذا المتن الذي تؤرخ مخيلته لسير المقهورين والمهمشين
والمنبوذين في جزء حيوي من هذا العالم ، يعد مدرسة جديدة في الرواية المغاربية . فإذا كان نجيب محفوظ قد توغل في حواري القاهرة وأزقتها
، واستأنس حنا مينة بحكايات البحر في طرطوس ، وارتكن إبراهيم
الكوني لتأويل الصحراء ، فان سيمياء : يوسف فاضل ، حين تغوص في تاريخ المقهورين ، إنما
هي بالدرجة الأولى تؤصل نفسها ، حين تتخذ من خصائص الحكاية أولى العتبات لوضع ذلك
النسق المتعلق بالمهمشين ضمن إطاره المعرفي . هذا ما تشي به تلك العبارات المقطرة
بكثافة شديدة الاختزال ، خلل دينامية السرد ، والتي تنوّعت بين العربية الحية ،
والدارجة ، مع تطعيمها أحيانا بمفردات من لغة الأمازيغ ( الشلوح ) . وكقارئ ،
أعترف بتجديد متعة القراءة واكتشاف المزيد من خبايا المقروء . مع ملاحظة أن هذا
الكلام لا يندرج باعتباره نقدا أو تقييما ، إنما حاولت : صياغة انطباعي ، بهيئة
ملاحظات على هامش صفحات هذه الرواية ، تحمل وجهة نظري كقارئ . هذا كل شيء .
____________
أدرجت هذه
الملاحظات في التاريخ نفسه ، بصفحتي في موقع : رفّي لمتعة القراءة تحت امضاء < alammary19عبدالسلام > .