وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

السبت، 22 أغسطس 2015

الوقت دفعة واحدة . فرج العربي

       مفتاح العمّاري           


الوقت دفعة واحدة ..*
 
الشاعر : فرج العربي

      ثمة وشائج فتية وحارة تربطني بصديقي الشاعر ( فرج العربي ) ، وأمومة شعرية دافئة وهبتنا معاً غنائم صدرها فرضعنا من ثدي قصيدة واحدة . كذلك ثمة حكاية عتيقة هي دائما تجدّد نفسها ، وتنسج من تيهنا شرفة للتوق ، ومنازل فسيحة للخيال . معاً احتطبنا غابة الشعر ، بين أحراش الجبل الأخضر وسفوحه وأوديته الثرية بأسماء الكائنات والشجر والألوان ، وعبر ذراه المهيبة أطلقنا صراخنا اللامع وضحكاتنا المرة والأسئلة الحيرى من الاختفاء المفاجئ لرأس الإمبراطور باتوس ، ووهبنا الغزل لسيولة الحسان الثلاث ، تلك التي تمنح الحجر مشيئة أشعار كاليماخوس القورينائي .. حتى صرنا نمتلك عشرين مفتاحاً للمسافات الغامضة وغرف شهرزاد وقلوب بنات العواصم .. والكتب المتروكة لسطوة الغبار ، وخبايا الليل، وخفة الزمن الذي يمضي بنا إلى كبواتنا الأشدّ صلابة من عواء ذئب جائع .. ورغم ذلك تعسّر علينا تأويل بعضنا ، فلم نكتب ما تطمح إليه شهوة قصائدنا ، كأن العاطفة قد حالت بيننا وبين مغامرة التأويل ، فأمست الكتابة عنّا تؤجل نفسها . وهكذا ظلّ الإحساس بالتقصير وخيانة الذات يلازمني ، حتى أن الإشارات التي أوردتها مروراً عابراً ، ضمن سياق اللقاءات الصحفية وهي قليلة ، أو تلك الشّوارد التي تتخلل بعض مساهماتي النقدية وهي أقلّ ، وقد اندرجت محكومة بتواترها العام ، من دون أن تخصّ قصيدة العربي وحدها ، ولاسيما أن تجربته الشّعرية الحافلة بالثّراء ، تستحق وقفة متأنية ، وتأملاً متمهّلاً وقراءة شفيفة ، تمنح المقروء بهاءه ، وتعرّف بتجلّياته ورؤاه ، من هنا حرّك الحنين رواكد الشغف ، ونزع قشرة النسيان ، فكانت هذه التقدمة التي لا مناص منها لملامسة ( الوقت دفعة واحدة ) .. وإذا كانت رفقتنا الحميمة تحرمنا موضوعية التناول باعتبارها حتماً ملتبسة بالمقروء ، مندغمة فيه إلى درجة التغلغل في خلاياه وأنسجته ، فلا بأس هنا كحدّ أدنى من براءة لاحتفاء بالشعر والشاعر..  ولا بأس أيضاً إذا ما علقت القراءة بفخاخ ذاكرتها .
       قلتُ : لا بأس  بهذا التلبّس ، لأنني لا محالة جزء ذائب ومنصهر في قصيدة العربي مثلما هو في قصيدتي ، ولعلّه من حسن الطالع أن يكون كلانا بداهة داخل النصّ ، منجذباً لمغنطة حواسه  رغماً عنه .. ومستسلماً لمذاقه وحرارته ، مدركاً عن كثب الألوان وهي تخترق ظلال الفتنة والمسافات المكنوزة بسّر الضلالة التي روضنا معاً خيول كلماتها الشرسة . فمعاً كنّا نكمن للسهروردي المقتول ونتدبر حيلاً لأسر المتنبي .. ونهيأ مجلساً يليق بمهابة الحلاّج وآخر يتّسع لإيواء ديك الجنّ .. ولاسيما أنه لا تعوزنا النباهة لاستدراج ما تبقّى من السلالة الضّالة / فبحدس القصيدة وحدها عثرنا على غرفة الماغوط ، وممرات الجيلاني طريبشان ، ومنفى أنسي الحاج ، وحنين علي الرقيعي ، ووردة علي صديقي عبدالقادر . وكانت غزواتنا للكتب لا يضاهيها شيء سوى فتنتنا بالنساء ، لهذا تفرّقنا قريبا من ألفتنا لتصبح قصيدتنا أكثر تماسكاً وصلابة  . وهي لمفارقة لا تتيحها إلاّ نساء القصائد .
    أن نهجر الجبل الأخضر .  ليتّخذ العربي من بنغازي ملاذا – بنغازي التي علّمتني الدمعة الأولى باتجاه قبر أبي .. وفي الفترة نفسها وجدتني بمشيئة أخرى أتشبّث بطرابلس محمولاً بقصيدة جامحة تطمح أن تحفر ممراً لها في ذاكرة السراي – حيث يظلّ الوقوف على الرصيف أمراً متعسّراً ، ما لَمْ تمنح لقامتك ضراوة النظر بشفافية حالمة دونما ارتباك . وهكذا كان قدر المسافات بين البيضاء وبنغازي وطرابلس  .. نتربّصُ بالشعر: ترحالنا الدائم ، الذي نرسم أثره بإشارات تأنيث ، ومحطّات أثيرة تمنح الخرائط بهاء السفر وتؤثث نفسها بالحقائب الساخنة والأصدقاء والأمّهات . وبين هذه المدينة وتلك ، توزّع ملحُ أوقاتنا . أربعة وعشرون عاماً مرت .. حيث مضت بنا القوافل وغادرتنا أصداء الرمل ، وتأتأة  البدايات . وها هو فرج العربي كما أرى  يتجاوز نفسه بصهيل آخر، ينثر عبره لذاذة الزمن ومرح الطفولة ، ليهدي الوقت دفعة واحدة إلى أمه فاطمة بنت خليل " وقصائد أخرى إلى : قيس وحمادة  ، وللحبيبة المحلوم بها،  يعلّق سترته على شجر الحديقة ويرسم وعداً .. ثم يمضي سادراً في حلمه  ..  مضيفاً لنسيج الأصدقاء  حكاية الطفولة التي تحطّمُ ألعابها – وهو الذي تركت سياطُ أبيه آثارها على لسانه .. مازال يرفع هتافه الجارح ( راغباً في كل شيء / هذه حكاياتي ) * . غير أن التأتأة ظلّت لديه ملثوغة بفداحة الرغبة وجموحها الذي لا يكف .

      وكان ذلك هو قدر قصيدته الملتبسة بالمتع واللذائذ والمسرّات ، لهذا اقترح العربي الكتابة الشعرية سفراً مستوطناً بين الغوايات . فهو مفتون إلى أقصى درجات الافتتان بشهوة الحياة ، فجاء شعره صاعداً إلى ذروة العالم ، ليكون الحبّ ذنبه الوحيد كما يقول .. هكذا " ذنبك انك أحببت ، وأشعلت صوتك صهيلا " وفي الوقت ذاته يشفّ العربي متجاوراً مع طفولة صغيره  "قيس" حين يُلامس مخيال اللعب ، تاركاً لعيون القصيدة وحدها وظيفة تأثيث البراءة ، وهندسة اللعب ،تصك ببلاغة البصر ، الحواس في جسد المعنى :

"  لك خوفي عليك حين تلعب مع اللعب
في كل ركن من البيت نلتقيك
دراجتك
تقود إلى طريق تراه وحدك
في الممر ممشاك
والأرنبة بالونة تضحك في الصالة
يمكنك أن تستقبل الزّوار باللعب
لذيذ لعابك
حين يسقط مباشرة في القلب " .

     ويكفي هنا أن نحدس مجازات هذه الجملة التي تدفعها سيولتها عنيفاً إلى بلاغة الصورة الشعرية ، في أشدّ انحرافاتها انزياحاً وتغلغلاً لإيقاظ الكامن هكذا : لذيذ لعابك حين يسقط مباشرة في القلب      . انها عبارة ذات حمولة نفسية تذوّبُ الحسيّ والمعنويّ في وعائها بعفوبة لها حساسيتها الخاصة في تركيب الجملة وزواج المفردات من دون أن تفقد  رصانتها . وفي موقع آخر تقتضي القصيدة ، أن نتمهّل إزاء ضراوة الخيال ، وحضوره الذي يكرّس النحو لدلالته حيث يستأنس الشاعر كعادته استخدام صيغة المخاطب ، متبوعة بضمير المتكلّم ، ليرسم مشهدية زاخرة بالغرابة ، يندغم فيها السردُ بنسغ شعريةٍ كثيفةٍ تضغطها مجازاتٌ كفيلة بتنضيذ البهاء ، على نحو لاتعوزه نقاوة التعبير وبراعة المعنى .....

" العالم يحالُ إليك هذه الليلة
لتكوني ملكة
تستقبلين الرعاة وهم يعبرون الوهاد
لأجلك .
هذه الليلة مشتقة من غفوتك .
الغفوةُ التي ارتأت أن تكون ملكة للغيب .
الغيبُ الحسود
الذي يقتفى أثرك.
هل قلتُ شيئاً مفيداً
نعم
هذه الليلة لك "**

     وفق هذه المشيئة الشعرية تتموقع قصيدةُ : فرج العربي ، داخل الوجدان متغلغة بهدوءٍ حار .. لتوقظ فينا شقيقات الشعر ، وتحفّزنا لإعادة إنتاج لحظات ضائعة وكذلك تفخّخنا بضراوة  بساطتها، وسيولة جمرها الذي يستفزّ  سهونا ..  وفي اللحظة ذاتها ، استطاع الشاعر أن يموقع نفسه كتجربة شعرية لها سماتها الخاصة بها .. قياساً بتجارب مجايلية من الشعراء ، ولعلّ عفويته الفادحة هي التي وسمت جملته بتراكيب غاية في الليونة والسلاسة والانسياب ، قُدّت  من وهج الروح  وظلال التّوق .. لتفضي إلى شكل طازج من أشكال قصيدة النثر ، دون أن تبرح المكانة اللائقة بمعرفة الشّعر وفتوحاته للجري بعيداً عن المجانية والابتذال ، وشعوذة اللغو ، كما هو شائع اليوم في معظم التجارب الشعرية المجايلة في الوطن العربي التي أنتجت أصواتا متماهية ، تتسكّع في مسارب الشعر خارج جدواها .
        قصيدة العربي تفضي إلى قراءة أخرى للذات ونقاوة الشعر، وتجلّياته الأكثر صدقاً – وبذا تعدّ تجربة هذا الشاعر من بين أهم التجارب الشعرية في الديوان الليبي  ، التي أضافت قلقاً إبداعيا ، وساهمت في إثراء موقعها محلياً وعربياً ، لأنهّا قد استطاعت أن تمنح للشعر نكهة خاصة ، وحساسية جديدة لنثر العالم  .. كذلك قد ساهمت بلا ريب في إشاعة التقبّل والتداول ، لأنه ( أي العربي ) يكتب قصيدة النثر بآذان وشفاه وعيون ، حسب التعبير الذي يروق لشاعر الشباب على صدقي عبد القادر ، كلّما استوقفته براعة الشعر . ولعلّ العربي يعدّ من بين القلائل من الشعراء الذين وهبوا لشعرهم مذاقاً عصرياً ينسجم مع مقتضيات اللحظة الراهنة ..  فثمة لغة حية تتغذّي على اليومي وتمتحّ ، إشاراتها من داخل خميرة الحلم الشعري ، متشابكة مع نثر الخارج حيث ( آخرون ليسو أنا ، يشربون من نبعي الطريّ ، ويضرمون قلقي ) .
      وفي خاتمة هذا المطاف أتساءل على طريقة فرج العربي : هل قلت شيئاً مفيداً ؟. فقط  / أعترف مرة أخرى بأنني كنت ملتبساً بقصيدته . فشكراً للوقت دفعة واحدة .
________________________
*بمناسبة صدور المجموعة الشعرية : الوقت دفعة واحدة . 2000

 **ما بين قوسين مقتطف من مجموعة " الوقت دفعة واحدة ".