مفتاح العمّاري
التجارب
الشعرية في ليبيا *
موجز البدايات :
بصدد
الشعر في ليبيا ، أشير أولا إلى تدشين متحف الشعر الليبي ، بإصدار أول
ديوان شعري ، في نهايات القرن التاسع عشر
، وتحديدا في عام 1892 م للشاعر مصطفى بن زكري ( 1853 / 1913 م ) ، مع ملاحظة أن ممارسة الشعر منذ البدايات
الأولى لكتابة القصيدة التقليدية ، بشكلها العروضي المحافظ على قواعد الوزن
والقافية ، برزت على يد مجموعة من الشعراء منهم على سبيل الذكر لا الحصر : أحمد
الشارف ، سليمان الباروني ، أحمد قنابة ، أحمد رفيق المهدوي ، إبراهيم الأسطى عمر
، وغيرهم .
وعلى الرغم من مغامرة التجديد في الشعر الليبي
التي بدأت مع مطلع الستينات ، إلا أن قصيدة النظم بشروطها الكلاسيكية ، مازال
شعراؤها يتموقعون بامتياز في رواق السلف ، ويتمتعون بحظوة دائمة الحفاوة والتكريم
، ويشاد بهم في مهرجانات الشعر وأعراسه ، على اعتبار أنهم لا يَقِلُّون شأناً
مقارنة بالجواهري ، وأبي ريشة ، والبردوني ، ومن أهم فرسان
القصيدة التقليدية الذين يمثلون هذا الاتجاه اليوم : حسن السوسي ، خليفة
التليسي ، ورجب الماجري ، وهؤلاء قد احتفظت ممارستهم الشعرية – في الغالب –
بالشكل العروضي المحض وبالتزام عمود الصدر والعجز ، وذلك على الرغم من عديد
المغامرات المتلاحقة في سياق حركات التطور والتجديد في تجربة الشعر العربي المعاصر في ليبيا منذ
مطلع عشرية الستينات .
<><>
المغامرة
الأولى :
في مطلع الستينات برزت المغامرة الشعرية في
ليبيا على صعيد ممارسة النص - إبداعا لا
تنظيرا – مغامرة محفوفة بالانتقادات والمخاطر عبر عديد المعارك الهجائية والتهكمية
، التي يتقنها ممارسو النقد الصحفي ، من دعاة التقليد وأتباع السلف . واقترنت
المغامرة الأولى بأسماء مجموعة من الشعراء ، مثل : علي صدقي عبد القادر ، علي
الرقيعي ، محمد المطماطي ، حسن صالح ، محمد الشلطامي ، خالد زغبية .
إن بوادر التجديد هنا ، اتسمت من حيث الشكل
الخارجي ( الحروفي ) بالتمرد على نظام
الشكل العمودي ، التقليدي ، المتمثل في
الصدر والعجز . وهذا ما يجعلها متماثلة مع تيار قصيدة التفعيلة ، الذي
اصطلح على تسميته بالشعر الحر . كذلك لم
تشهد هذه التجربة من حيث الممارسة الشعرية ، انحرافا ملحوظا في بنية المفردة
الشعرية ، مما يجعلها ممتثلة بطريقة محجّبة لقانون الجملة الشعرية في القصيد
التقليدي . وهي وان كانت تبدو متمردة على شروط القافية ، إلا أنها التزمت إيقاعيا
، بإنتاج قافيتها الخاصة بها على هيئة متواليات
موزعة توزيعا سلّميا ، يندرج عبر تنغيمات في قفلة البيت أو المقطع أو بعد
عدد من الأسطر .
ثمة
مسألة أخرى تتصل بالتناص ، برزت
واضحة في هذه الممارسة الشعرية لدى
شعراء الستينات من جراء الكتابة تحت ظلال بعض الشعراء المشارقة ، الذين
أثروا في مسار هذه التجربة ، مثل : السياب
، البياتي ، نزار قباني ، صلاح عبد الصبور ، وفي جانب آخر اقترنت هذه الممارسة بمفاهيم
وطنية وقومية ، وسياسية نضالية ،
تعلن التمرد على السلطة ومقاومة المستعمر ، ومناصرة قضايا التحرر قوميا
وعالميا . هذا الهاجس
ظل إلى فترات قريبة يأسر
الممارسة الشعرية لهذا الجيل . ونجمل هذه الملاحظات باستدعاء النص
،واقتراح نموذج شعري ، للشاعر :
محمد الشلطامي .
النص :
" إن يكن يعتم في القبو الظلام
وتموج
الريح في الأفق
وينهار
المدى .
تحت
أقدامك في الليل وتبدو
شرفات
الليل كالقار ويشتدُّ
على قلبك
وقع العاصفة
وانطفت
أضواء هذا الكون
في
العين .... وذابت
في هباء
الأرصفة
وتعرّت
بين أضلاعك
آلام
الجراح
فابتسم للجرح وأمضِ
ضاحك
العينين والروح
فهذا
من تباشير
الصباح .
***
إن بدا في
الليل ظل الحارس الأبله
كالطود
وعضت
لحم زنديك
القيود
حصى
الحارس أنفاسك في السجن
وروى
دمك
الدافئ أقدام الجنود
وبدا
الكون كأن لم يعرفك
وبدت
تنكرك الأعين من رهبتها
وسرى اسمك
كالهمة في كل مكان
وبدا
حارسك الأبله موتورا غبيّا
فابتسم
للأعين البله فقد صرت نبيّا
إن بدا
حملك تنهدّ الجبال
من رؤى
وطأته الكبرى ، وفاضت في سكون
الليل
عيناك
بأشياء
الحزن
ثم لم يسمعك
الكون الذي نام
ولم
يسند رأسك
وانطفأ
البارق في العتمة مرتاعا
ورنت
في المدى
الموحش آهات الشجن
فابتسم للحزن في الليل فقد صرت وطن " (1)
<><>
كانت
تجربة شعراء الستينات على مستوى الموضوع والفكرة محمولة بهموم وطنية ،
وقومية مع قلق وجودي متستر . وتحت تأثير مقولات ( الالتزام ) ، احتلت الموضوعة
حيزا كبيرا في الممارسة الشعرية ، مما
قلّص مسالة الاهتمام بتحديد أنساقها الفنية ، وبصورة خاصة تشكّلاتها
اللغوية . وبدت كأنها تأنس إلى أنظمة
شكلية جاهزة . وهذا ما حصر فعل المغامرة
الحداثية الأولى في إطار التمرد المحدود
على خصائص فنية مسّت الممارسة الشعرية مسّا عابرا ، ولم تحدث تبدلا جوهريا ، مما جعل هذه المغامرة تنطوي على
وفاء متستر لتراثها القديم . وهنا يتجلّى
بؤس الحداثة الشعرية ( عاطفيا ) ، فعلى الرغم من التواشج الحميم مع متطلّبات التجديد بمفاهيمها المجردة غالبا
( فعل الرؤيا ) ، التمرد ، الخروج
، الكشف ... إلا أنه وبالمقابل
كانت تخضع لترسبات سلفية تجعلها مشدودة إلى ذاكرتها الشعرية . هذه
الفرضية وغيرها ، هي التي أعاقت التجربة الشعرية في الستينات ، ولم تجعلها تمارس
حداثتها بوعي راسخ وحقيقي .
في هذه اللمحة يظل الاستثناء ملحّا وضروريا ،
فثمة شاعر يبدو أنه قفز على مرحلته .
والاستثناء هنا يشير إلى تجربة خاصة ، يشير تحديدا إلى الشاعر ، ( علي صدقي عبد
القادر ) ، الذي يمثل ظاهرة محيّرة ، فقد
تحوّل - وبالأخص في العقدين الأخيرين من
القرن العشرين – إلى نسيج وحده . فهو يستخدم نمطا شعريا لا مرجعية له إلا هو
. متجها بالقصيدة إلى أقصى حدود السريالية
والغرائبية . منحرفا بالمفردة الشعرية عن مجالها ، معوّلا فيما يبدو على المصادفة
وحدها .. فالصدفة هي نظام الفوضى في
منتجات هذا الشاعر الذي تجاوز السبعين من عمره
. فهو بجدارة شاعر مخرّب ، يتميز
باستعمالات لغوية في غاية البداهة . وان
بدت أحيانا شبقة وهيجانية ، تحرك ، تحرك
حواس اللذائذ : المرأة ، الطعام ، الطبيعة ، والسفر الدائم في
الغوامض . انه يصطاد المتع في أدق لحظاتها .. مع أمل طفولي محمول بالدهشة إزاء البديهيات .. مستفردا بتفصيل الجزئيات
والصغائر .. يجمع بين السقف والقاع ، رومانسي حالم . في أحيان كثيرة نحن لا نفهمه
، فبقدر ما يكون قريبا بألفة
للذائقة الجديدة .. يجفل نائيا عنها
. وهو نفسه تغمض عليه عبارته التي يصعب تأويلها . كافر بالموت ، وبنظام
الأشياء ، ينزع دائما إلى إحداث الخلل في معرفة الموجودات . يحيلنا أحيانا إلى
الوسوسة .. الوسوسة به وبالشعر .
غير أننا ما نلبث أن نوافق هذا الشيخ في قوله
: " أن أجمل الأشياء تلك التي لا
تفسّر .. تلك الأشياء التي بين الحقيقة
والكذب " . (2)
لهذا يصعب
نسيانه . وعلى الرغم من ذلك ، فان تأثيره
لم يكن واضحا في بنية الممارسة الشعرية لدى
جيل الشعراء الشباب الذي يحتفل به
دائما . (3) ربما لأن أشكاله مفككة بعفوية فادحة
، قليلة الاعتناء بترتيق فراغاتها مما أعاق مخيلتها السادرة في عنفها لأنسنة الأشياء وتأنيث العالم
. فقط هو دائما مثار دهشة واستغراب ، مرتبك ، مترجرج ، مثار حيرة وسجال دائم لا يكف , غير أنه وفي الوقت ذاته يمثل حصانة معنوية للشعراء الشبان ، يتّقون بها هجاء الصحافة
وشتائم بعض الدهاقنة التقليديين . البعض من الشبان يصفه بامتياز " بطريرك الحداثة الشعرية في ليبيا " (4) .
وهنا يمكننا أن نقترح له هذه الجمل الشعرية :
" لا
أجد أصابعي في نهاية كفي
لأنها
ذهبت خلسة لتطمس حلمي الأخير "
"
متجاوزا برتقالتين ، وأربع قارات
والخامسة
فرّت إلى حضن أمي "
" كم
أشتهي أرجوحة في شعرها
وبحيرة في
قرطها "
"
غرست نفسي في الحديقة وعدت لأنام
حلمت
بأن أنهار
العالم في فمي "
"
أرسم بئرا وقفلا ، وأجنحة في السماء ."
"
نام الليل فوق غسيل جارتنا "
"
قالت حبّة قمح لجارتها
الحلم حار
هذه الليلة " (5)
***
وبالنظر إلى ممارسة
( علي صدقي عبد القادر ) الخاصة في
تجربة الشعر الليبي المعاصر ، يمكن ملامسة
الإضافة في :
أولا :
تحويله الشكل الشعري إلى نظام مغاير تماما عن سابقه .
ثانيا :
يعتبر الشاعر الأكثر إيغالا في أنسنة
الأشياء .
ثالثا : -
وهذا هو الأهم – الإيمان بجدوى الخداع الذي تنتجه الكلمات المصابة بالانحراف عن مدارها العادي .
وهذا
يجعلنا بالضرورة أن نشير إلى أن معرفة الحداثة الشعرية في ليبيا ينبغي أن تبدأ
أولا بقراءة ، ( علي صدقي عبد القادر ) ، - وهو حاضر يعيش بيننا بحيوية يحسد عليها - لذا نرجو الاعتذار منه في استخدامنا لصفة ( الشيخ ) . **
وهكذا
انقضت تجربة جيل الستينات ، وذهب الشاعر الرائي
، ( الكائن الميتافيزيقي ) ، الخائب والمأزوم ، خالق الشعر
، وسارق النار ، الموحى إليه
، الملهَم الذي ينتظر نزول الوحي ، لمجابهة قسوة الواقع . وتمخضت تلك المرحلة الصعبة بأن أدرجت
الشعر في حلقات الدروشة ، (
البوهيمية ، والصوفية ) وهي النهاية
المنطقية التي فرضت نفسها ، ليس على صعيد
التجربة المحلية وحسب ، بل على بعض أهم الرموز
الشعرية في الوطن العربي .
¨
______________
*عن
كتابنا : فعل القراءة والتأويل .1995.
(1) قصيدة ( ابتسم ) مجلة الفصول الأربعة . العدد (50 ) .
(2) أنظر مجلة الفصول الأربعة ، العدد (60
) .
(3) صدر ملف خاص عن الشاعر بمجلة الفصول الأربعة ، العدد (60) ، أشرف على
إعداده مجموعة من الكتاب الشباب .
(4) عبد المنعم المحجوب مجلة الفصول
الأربعة ، العدد (60) . الكتابة بدءا من علي صدقي عبد القادر .
(5)
مقتطفات من قصائد الشاعر : علي صدقي عبد القادر ( المجموعة الشعرية الكاملة ) إصدار
الدار الجماهيرية . 1985
** توفي الشاعر في 1سبتمبر2008.
** توفي الشاعر في 1سبتمبر2008.