وسادة الراعي

وسادة الراعي
مدونة الشاعر: مفتاح العماري

الخميس، 6 ديسمبر 2018

النظر إلى جثة

مفتاح العمّاري






_______________    النظر إلى جثة



     أشعر بأنني في مأزق. وان كنت في الحقيقة التي تخصني سأحتاج إلى أكثر من اسم حار، ونعت جسور، لكي أدرك بأنني صرت ميتا؛ وهذا ما تؤكده جثتي كبرهان حيّ على نهايتي غير المحزون عليها من ذويي وبعض صحبي؛ لاسيما أن عيونا كثيرة تخطتني من دون أن يرفّ لها قلب، مما لا يترك مجالا لأي صدى يشي بوجودي ماثلا ككائن بشري يرزق. وهذا أمر بديهي طالما لا أحد في انتظاري. حدث ذلك قبل عشر سنوات، عندما كنت فرد مشاة باللواء التاسع المدرع، وخضت حربا لا ناقة لي فيها أو جمل. وأنني في نهاية المطاف، لم أكن من بين أسراها المعتقلين، أو من جرّوا أذيال هزيمتهم عائدين بلا أوصاف غير وصمة الجبن. مذاك صرت ميتا، وأينما حللت كان غيابي يسبقني، وأن لا أحد مازال يذكر ما إذا كنت في يوم ما ابنا أو أخا أو صديقا؛ حتى أمي نظفت الأدراج والجدران من صوري وثيابي وبدت أشد شغفا بالجلوس إزاء شاشة التلفزيون، لمتابعة المسلسلات التركية، بحيث لا تترك أيما أثر يدلّ على أنني أمثّل جزءا من حكايات المنزل. في أول أمري أمسيت فريسة خوف طاغ من الموت، وهو شعور غريب استبد بي يومذاك، وظل ينخر كياني طيلة عقد ونيف، من مكابدة عزلتي.
      صحيح كانت محنتي قاسية، لكن حتى لا تتحول حقيقة موتي إلى تجربة سيئة؛ تدبرت عملا يصونني من عفونة التفسّخ، وآفة التآكل؛ فكتبت جملة تشير إليّ عندما كنت طفلا ألعب بالطين، وأخرى تشير إلي مقطّعا بفعل قذيفة هاون في خندق صحراوي، ثم جاورت العبارات السخية، مضيفا بعض العلامات المتعلقة بمصيري المنكود، كضرب من التمهيد لاستضافة  كريمة  تليق بذاكرة متعنتة؛ لا تستسلم دونما أن تحظى بإزجاء مديح أصيل. أعلم أن الترقّب سيكون وحشا ضاريًا إذا لم يكن لديك عملا تنجزه؛ لذا عليك أن تفعل شيئا وأنت تنتظر.  سلخت ثلاثة شهور، منكبّا على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، من دون تسطير أيما شيء يشير إلى الفكرة التي كانت تقلقني؛ تلك التي لا أعلمها. ولأنني أدركت جيدًا أن كلينا حيوان ماكر، أنا واللغة؛ ولن نصنع شيئا مجديًا طالما أحدنا يحاول إذلال الآخر؛ لم أيأس؛ فبعد قليل، تركتُ نفسي تنساق مستسلمة بطواعية لتداعيات كتابةٍ عشواء، لا ضابط لها. مسرنمًا أقتفي أثر أسراري - وبلا مبالاة غالبًا برصانة اللغة ووضوح المعنى -  إلى أن رمت ممارسة طقوس موتي دونما أي إحساس بالخشية؛ بل أصبح الأمر مبعث غبطة بالنسبة لي، كوني محض جثة تتنفس، وأن الموت وحده سيكون بذرة بعثي، لحظة أن يتحول كلّ ألمٍ إلى كلماتٍ ترفرفُ بهيئةِ طائرٍ منقذ، ينتشلُ جثة، وهذا ما حدث.
______ 

طرابلس. خريف 2018